شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (5) - أدّبتني التجربة

أدّبتني التجربة


يتفق علماء القافية على أنّ للقافية عيوباً تقهر الشاعر وتستولي على نصه ... (الإقواء) هو أحد هذه العيوب ... وهو أن يأتي الشاعر ببيت يُخالف الأبيات السابقة في حركة الإعراب ... كأن تكون القصيدة أبياتها مجرورة ويأتي هذا البيت مرفوعاً ... فإن أجريت عليه حركة الجر كان خطأ في العربية والذوق ... وإن أجريته على موقعه الصحيح بحركته المُناسبة كان بيتاً هجيناً مخدجا كما يُطلق عليه المهتمون بالشعر ...


البعض رُبّما تساوره فكرة أن يجوز له كشاعر ما لا يجوز لغيره ... غير أنّ هذا الخطأ لا يجوّزه له علماء الشعر ... ويُعِدُونه ضعفاً يجعل الشاعر كالمُنْتِج المُتهاون في بضاعته فيدُسّ فيها التالف والمستهجن ...


أنا في تلك المرحلة كنت أحد هؤلاء أتخبط في متاهات الشعر ... مرة أصيب وعشراً لا يصيب سهمي إلا ما يضر ولا ينفع ... كتبت قصيدة كان مطلعها ... يا تربة الطف انثري دم الكراما ... فالدم يحي ثورة لا تستضاما ... ولا يخفى على المتحصل على قليل من قواعد العربية ما في النص من تجاوز يؤذي (سيبويه) وما لحقه من أفذاذ العربية ...


(الكراما) في موقع مضاف إليه تُجر ولا تُنصب ... ولا يمكن لألف الإطلاق أن تتصل بها ... أيضاً (تُستضاما) تقع بالرفع وليس النصب ... لقصور معلوماتي اعتقدت بعبارة يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره ... كُنت أحسب النص جميلا ... مع بداية تشييد الموقع الجديد للمأتم ... كتبنا اللوحة المتنقلة مع الموكب وطرّزناها بعبارات سيد الشهداء ثمَّ ثُنّيت بكتابة هذا البيت من الشعر على الواجهة التي يوضع فيها المنبر ...


كنتُ معجباً بهذا النص ... متى أفقت من سكرة إعجابي؟ !... عندما قرأ النص الأستاذ عبدالغفّار القفاص ... بصّرني بمواقع العُيوب والخطأ في النص ...


هذه التجربة أدّبتني حقاً وردعتني عن الخوض في الشعر الفصيح لفترة ... ورحت أنتقم من هذا الفشل بقراءة بعض الكتب المتخصصة في النحو ... فكل أيام الدراسة ودروسها لم تفلح في التجاوز عن هذا الزلل ... أُبان أيام المدرسة كان درس النحو من أبغض الدروس إلى سريرتي ... رُبّما كان الأساتذة لا يمتلكون تحبيب المادة ... كأنهم يؤدون مهمة حامل الثقل يريد الوصول إلى نقطة إنزاله فقط ... يجعلون من النحو هلعاً يدبُّ في الطلبة ... يلقون به في آذاننا ليستقر في فراغ ...


استقرّ النص فوق جدار المأتم لأيام وجيزة فقط ... حتى جاءه (موسى جعفر) وأزاله من الجدار عن بكرة أبيه ... لم يكن السبب تعصُباً لدروس (سيبويه) ولما في النص من زلاّت عربية ... كان السبب يكمن في كلمة (ثورة) المتوسطة في الشطر الثاني من البيت.


جوّنا كان مُلبداً بغيوم الخوف والرهبة من بطشة الدولة ... ذراعها تُطالنا لأتفه الأسباب ... فكيف بنا ونحن فتية في يفعان العمر وتأخذنا موجة الحماس ... وعلى تُخوم بلادنا ثورة شيعية انتصرت للتوّ ... وها نحن نصدر واجهة المأتم بما يدعو للثورة ... والخروج عن طوق الدولة المُضطهِد الآسر ...


قرعتني طُبول الغضب لما نال جهدي من زوال ... ودارت حينها سجالات من الحوار ... وأعترف أن الفاعل أسدى لي معروفاً بعد أن انبلجت الحقيقة عن أخطاء النص ... كذلك قدّم خيراً لنا كقائمين على المأتم بسدِّ عين السلطة عن التحرُّش بنا ... لكنه الحماس هو من يقود في حالات كثيرة ... الحماس القائم على الانفعال الفارغ عقيم ... كالنار تشعلها ولا تملك قدرة على حصرها .


استبدلت النص بعمل قوسين في أحدهما (يا حسين) وفي الآخر (يا شهيد) ... في تلك السنة استحسن (موسى جعفر) أن يكون رادوداً ويمتع حنجرته بقصائد الرثاء ... استل قصيدة من قصائد الرادود (جاسم النُويني) ... هذا الرادود من رواديد العراق المبرزين ... له قصائد تثير لواعج الأحزان من شدة ما تطفح بالعاطفة ... وقصائد أخرى تتعمق في القضايا الاجتماعية والسياسية ... أكثر القصائد ذات البعد السياسي تكون من نوع قصائد (القعدة) ... لما فيها من تيقظ المستمع للسماع الواعي ,,, ولربما جاءت قصائد العاطفة رقيقة في هذا النوع أيضاً ...


له قصيدة مطلعها ... تخبرني عن القدر ... الله من هالخبر ... أفرغها موسى من الشريط بشغف ... وجاءنا على مدى ليالٍ متتالية ... كل ليلة ما إن ينتهي الخطيب حتى يُرهقنا موسى بقصيدته المكرورة ... لا يمل من تكرارها ... ولا يجد من يُصارحه بسئمنا ... كان يغفر له عمله خفة ظله على النُفوس ... حيث كانت الطرفة ملازمة لروحه المرحة......

التعليقات (2)

  1. avatar
    ممدوح اوال

    السلام عليكم دام مدادك يا ابو علي ولا حرمنا من من ادبياتك الراقيه وفقك الله لخدمه اهل بيت العصمه ع

  2. avatar
    المعارض ، عضو في الصرح الحسيني

    بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم و رحمة الله و بركاته الأستاذ الكاتب عبدالشهيد الثور تحية طيبة و بعد ، شكراً لك لمتابعت سلسلة مقالاتك فنحن نتظرها كما ينتظر الصائم أذان المغرب ، و لكن سؤالي الملح و المتكرر ، ماذا عن رواديد القرية الذين سبقوك ، لقد ذكرت عن مأتم عبدالأمام و لم تذكر عن النشاط الإلقائي (الشيل) في مآتم القرية مثل مأتم بن خميس الذي بلاشك أقدم من برنامج مأتم عبدالأمام . و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع