شارك هذا الموضوع

الحداثة

نرى الكثيرين من المهووسين بكل ماهو جديد يجرون وراء المفردات الفخمة دون الوعي لما تحتوي من خلل في مفاهيمها وما يترتب على الإنجرار خلفها من عواقب , فمصطلح كمصطلح الحداثة يغري الكثيرين بلمعانه فينساقون خلفه .


الحداثة كأي منتج حديث يحمل في محتواه السلب والإيجاب , وعلينا التروي والتبصر في الأخذ بهذا المنحى أو غيره , فالمفردات في اللغة العربية تختلف من كلمة لأخرى , وهنا بالضبط أود أن أؤكد على أن المصطلح يحمل في أحشائه دلالات لا يمكننا أن نلغيها من إفرازاته , ومثال على ذلك ليست الحداثة كالتجديد . التجديد حركة تحاول إعادة الحياة لأمر ما مع المحافظة على أصوله الأساسية .


إذن التجديد حركة تحاول بعث الحياة فيما هو موجود بصورة جديدة مع المحافظة على الأصالة في الأمر المطلوب تجديده , ولكن سؤالنا هنا هل الحداثة كما هي الآن هي كذلك أم هي أمر آخر؟ ,يحاول بعث كل مستحدث وكل مبهر مع غض النظر عن عيوبه , كما قال طه حسين في كلامه عن الحضارة الغربية , كان يقول يجب أن نأخذ كل ما تفرزه الحضارة الغربية بحسناته وسيئاته .


على هذا لا يبدو أن الحداثة تحافظ على الأصالة , لهذا نرى أنفسنا معنيين بالمحافظة على الأصالة أولا ثم النظر لأي مذهب من المذهبين السالفين ننعطف , وحين لا نجد في الحداثة مراعاة لقواعد الأصالة والتزاما بتوخيها يكون علينا التوجه إلى التجديد حين نجد فيه ما ينسجم مع قواعد ديننا .


وفي طرف آخر حين تنزع الحداثة القداسة عن كل ماهو مقدس فسنكون أمام إشكالية خطيرة في منهجها مما لا يتيح فرصة الأخذ برؤاها . الأفكار البراقة ودون النظر إلى حقيقة مفاهيمها وما تقود إليه قد تؤدي بالمتبع إلى الزلل والخروج عن جادة الرشاد , لا سيما إذا لم يكن من أصحاب النظر الثاقب في تمحيص المفاهيم وما ترمي إليه, فمؤخرا نرى الحداثة دخلت في كل شيء بدعوى التنوير والتطوير , فهي في الأدب بكل مقاصده .


في الشعر والنص المنثور وغيرهما من قصة ورواية ولها نظرات في كل الأجناس. ولكن نقول هل بإمكان الحداثة أن يكون لها موطئ قدم في الدين بما تحمل من أبعاد كما قلنا سابقا ؟! . أستطيع أن أدعي بطريقة ما أن العلمانية نفس من أنفاس الحداثة , العلمانية بمفهومها الأكبر والأول الأشهر وهو فصل الدين عن السياسة وهو المفهوم الذي لا يستطيع العلمانيون التبرئ منه , بهذا تكون الحداثة ثوبا لا يليق بالشؤون الدينية , وإنما يليق بها التجديد .


هذا لأن التجديد يحافظ على الثوابت ويراعي الشريعة ويدعو لابتكار الوسائل الحديثة في التنفيذ دون المساس بالجذور وكل هذه المعطيات لا تدعي الحداثة إيجادها في منهجها . بناء على هذا يمكننا سلوك منهج التجديد في تأدية الرسالة الحسينية , ومع اختلاف الزمان نستطيع أن نستبدل وسيلة مكان وسيلة أخرى في تأدية هذا الدور فما كان يناسب بالأمس قد لا يكون مناسبا لليوم. فللأمس ظروفه ولليوم ظروفه والأمثلة هنا كثيرة لا يمكن تقصيها فيما يناسب يوما سابق وقد لايناسب اليوم اللاحق, فلربما كان عمل ما مقبولا يوما ويجيزه الفقهاء بغالبيتهم ولا يكون مفيدا ولائقا في زمن آخر فترى تواتر أغلب الفقهاء على عدم الإتيان به .


وللمكان أيضا أثر يدعو لتغيير الوسائل في ممارسة تقديم الرسالة الحسينية , فما يناسب في بلد قد لا يكون مناسبا في بلد آخر , وما هي إلا أساليب تتنوع وتتعدد وتختلف من مكان لآخر . أما في زمننا هذا فعلينا توظيف الوسائل الحديثة لتقديم الرسالة الحسينية بأبهى صورها على كل الأصعدة . فهذه الرسالة مطلوب منا تقديمها على مستوى داخلي بطريقة ما , وعلى مستوى خارجي على مستوى أوسع , الآن مع وجود الوسائل المتطورة من شبكة المعلومات وأجهزة الإتصال الأخرى علينا توظيفها توظيفا صحيحا يضمن لنا وصول الرسالة الحسينية لأقصى نقطة في الكرة الأرضية .


فبث المحاضرات وإدراجها على المواقع المهتمة بالمحاضرات يؤكد وصول المبادئ الحسينية لمتطلبيها , كذلك باقي الفعاليات والشعائر وبالضرورة تقديم التوضيح الوافي للمطلع عليها من المذاهب والتوجهات الأخرى . ولا يخفى علينا ما للترجمة من دور بارز في تقديم الأهداف الحسينية وإيصالها إلى الراغبين من اللغات الأخرى. النهوض بدور المسرح والتمثيل في الشعائر كذلك له أثر بالغ في زمن استولت الصورة والحركة على أعين الناس وألبابهم , ولابد من تأكيد دور الصورة في المواكب والفعاليات الحسينية , الصورة المتحركة تستقطب النفوس في زمن الفضائيات , وهي فرصة سانحة لتوظيف الإمكانيات الحديثة لخدمة الثورة الحسينية .


أيضا هناك غفلة عن دور الإعلام وماله في ترسيخ الأهداف , فما بيننا كثير من الجاليات الأجنبية الناطقة بغير العربية ونحن لا نعير وجودهم اهتماما ولا نوليهم أهمية بعمل يافطات ومنشورات تخاطبهم بلغتهم وتقدم لهم رسالة الطف واضحة مفهومة , لاسيما وهم يشاهدون كل طقوسنا وقد لا يجدون من يفسر لهم الأهداف , كذلك أستطيع أن أقول أن في حركة الطف الثورية مضامين تحتاج منا إلى عناية أكثر وجهد أوسع لنكتشف الأبعاد المخفية فيها . بهذا نكون أعدنا الحياة لهذه النهضة المباركة وأعطيناها حقها من الظهور والبروز للعالم الخارجي , ولا ننسى القيم الحضارية الراقية والتأكيد على تطبيقها أثناء ممارساتنا , بهذا نكون قد وظفنا جل ما جاءت به الحضارة الحديثة في إظهار عظمة الرسالة الحسينية مع المحافظة على أصالة الحركة في أبعادها الشرعية , من حفظ للمحرمات وعدم تجاوز الخطوط الحمراء .


بنفس الوقت نكون مختلفين عن أرباب الحداثة الداعين إلى وضع كل شيء على محك التمحيص البشري , هم لا تعنيهم قداسة قران ولا عصمة معصوم ولا جلالة خالق , هم يضعون كل شيء أمام حكم العقل البشري القاصر الغير ملم بأطراف الحقائق كما ينبغي . هذا العقل الجبار بما أوتي من إمكانات في الاستنتاج والاستدلال عاجز عن الإحاطة بعالم الغيبيات وما وراء الطبيعة ولا يملك سبيلا للوصول إلى حقائق بشأنه أبدا إلا عن طريق التجربة الحسية , وهذه التجربة أثبت عجزها عن الإتيان بشيء إلا عن طريق المقدسات التي نضع حولها الخطوط الحمراء . وهم يريدون مناقشة المقدس والمعصوم كأي فرد من البشر , هذا من الطبيعي يقودنا إلى خلل كبير في النتائج , بهذه الذهنية يبدو أن الحداثة في أحد جوانبها تتعاطى مع ما يرد من الشريعة , وبناء على هذا لا نستطيع أن نزعم الحداثة لأنفسنا ولا نرضاها وإنما نسعى لنكون مجددين , ولا يخفى ما في الأمرين من اختلاف .


وعلى هذا المنوال في كل فترة تبرز صرعة , فمن عصر التنوير إلى عصر الحداثة وبعدها تأتي صرعة ما بعد الحداثة , ثم ما بعد بعد الحداثة وهكذا لا يفتئ سيل الصرعات ينهال علينا , وهل المطلوب منا الانجرار خلف كل جديد حتى وان كان سقيما .نحن نتعامل مع كل جديد تعاملنا مع اللباس نأخذ منه ما يليق بنا ويناسبنا ولا يخدش الحياء ويتلاءم مع ما توصي به أحكامنا الشرعية . لهذا نحن في تأدية رسالة الحسين الشهيد (ع) لدينا ثوابت ومتحركات , الثوابت تبقى ولا تزول وتكون الحركة من حولها ,أما المتحركات فتكون متجددة تختلف من دور لدور آخر , ويكون التجديد فيها فقط دون الثوابت

التعليقات (2)

  1. avatar
    جابر راشد

    بنفس الوقت نكون مختلفين عن أرباب الحداثة الداعين إلى وضع كل شيء على محك التمحيص البشري , هم لا تعنيهم قداسة قران ولا عصمة معصوم ولا جلالة خالق , هم يضعون كل شيء أمام حكم العقل البشري القاصر الغير ملم بأطراف الحقائق كما ينبغي . هذا العقل الجبار بما أوتي من إمكانات في الاستنتاج والاستدلال عاجز عن الإحاطة بعالم الغيبيات وما وراء الطبيعة ولا يملك سبيلا للوصول إلى حقائق بشأنه أبدا إلا عن طريق التجربة الحسية , وهذه التجربة أثبت عجزها عن الإتيان بشيء إلا عن طريق المقدسات التي نضع حولها الخطوط الحمراء . وهم يريدون مناقشة المقدس والمعصوم كأي فرد من البشر , هذا من الطبيعي يقودنا إلى خلل كبير في النتائج , بهذه الذهنية يبدو أن الحداثة في أحد جوانبها تتعاطى مع ما يرد من الشريعة , وبناء على هذا لا نستطيع أن نزعم الحداثة لأنفسنا ولا نرضاها وإنما نسعى لنكون مجددين , ولا يخفى ما في الأمرين من اختلاف . شكراً جزيلاً للأخ عبدالشهيد على هذا الطرح الرائع وبالفعل فنحن مطالبو ن الآن وأكثر من أي وقت مضى من إعادة النظر وتوضيح بعض الأمور في الكثير من الممارسات حتى تتناسب والزمان الذي نعيش فيه مع المحافظة على الأصول الأساسية....

  2. avatar
    المعارض ، عضو في الصرح الحسيني

    بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم و رحمة الله و بركاته الأستاذ الكاتب عبدالشهيد الثور تحية طيبة و بعد ، لقد أطلقت لأفكارك العنان فجابت في عدت مجالات ، و لتسمح لي بأن ألجمها و أحصرها في نقاط لكي يسهل علينا تناولها . * ما هو تعريف عملية الحداثة ؟ - عملية الحداثة هي التجديد الذي يدخل على منهج لكي يؤدي دوراً إيجابياً أكثر يلبي متطلبات الحياة اليومية . و هنالك عدة مرادفات للحداثة لكالتجديد ، التطوير و الإجتهاد. * من هم القائمون على عملية الحداثة ؟ - أهل الخبرة هم الأجدر بأن يشرفو على عملية الحداثة ؛ لأن الخبرة المكتسبة التي يتمتعون بها تخولهم بأن يطوروا من المنهج الذي يراد تطويره، و سيكون الأمر بالعكس إذا تطفل غير الأكفاء للإشراف على عملية الحداثة لأن فاقد الشئ لا يعطيه. * هل يصاحب عملية الحداثة جوانب سلبية؟ - قد تصاحب عملية الحداثة جوانب سلبية غير مقصودة ، و يقرن الباحثون نجاح عملية الحداثة بعدم أو قلة ظهور هذه الجوانب السلبية ، فمثلاً راهن العلماء بأن الثروة النفطية سوف تسد حاجات الإنسان اليومية و تأمن له الرافاهية و الراحة ، و لكن سرعان ما ظهرت جوانب سلبية رافقة هذه الثروة مثل التلوث و الإنحباس الحراري . لقد تحدى البارئ عزّ و جلّ الإنسان بأن يصل إلى مرحلة الكمال مهما إجتهد. * ما هي صورة الأدب و خاصة الشعر بعدما عولج بالحداثة ؟ - لقد سهلت عملية الحداثة للشعراء في فكرة الشعر الحر التقيد بالقافية و الوزن ، و لكن أخفضت في نفس الوقت سور مدينة الأدب العالي على المتطفلين على الشعر بأن يقفزو إليها ، حتى بتنا نقرأ الشعر و اللاشعر ، و النثر و اللانثر ! . لقد خلقت عالجت عملية الحداثة المشاكل التي واجهت شعراء قصيدة الموكب من الموضوع و الوزن ، و لكن سوء إستخدام عملية الحداثة للقصيدة الموكب خلق سلبيات يجب معلجتها ، فمثلاً تعدد الموضوع للقصيدة التي شملت المواضيع السياسية و الإجتماعية ، جعل من الشعراء يكثون منها متجاهلين صاحب المصيبة التي تجمهر المعزون من أجله ! . إن إفتقار الشيعة في البحرين لوسائل الإعلام دفع الشعراء بأن يلجؤ إلى القصيدة العزائية لتعبير عن آرائهم و لكن ليس ذلك بالضرورة أن يكون على حساب ذكر مصائب أهل البين عليهم السلام . أكتفي بهذا القدر و أترك المجال للأخوة للمشاركة .

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع