شارك هذا الموضوع

مواعظ وحكم الإمام زين العابدين

  واهتم الإمام زين العابدين (عليه السلام) كأشد ما يكون الاهتمام بوعظ الناس، وقد أثرت عنه كثير من المواعظ وعظ بها أصحابه، وأهل عصره وهي لا تزال حية تضع العبر أمام الناس، وتحذرهم من الغرور والطيش، وتدعوهم إلى سبيل الحق والصواب، كما أثرت عنه بعض الحكم الخالدة التي تهدف إلى توازن الإنسان في سلوكه، وازدهار شخصيته، ونعرض لبعض ما روي عنه في ذلك.



 


مواعظه


وقبل أن نتحدث عن مواعظ الإمام زين العابدين (عليه السلام) نود أن نبين إلى ما تهدف إليه مواعظه، ومواعظ سائر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، وفي ما يلي ذلك:


(أ) تهذيب النفوس، وإصلاحها، وغرس النزعات الكريمة فيها.


(ب) إزالة العقد النفسية من نفس الإنسان، والقضاء على جميع النزعات الفاسدة، والشريرة والأنانية، والحسد، والبغي، والاعتداء على الناس.


(ج) وضع العبر التي مرت على الناس عبر التاريخ من دمار الظالمين، وهلاك المستبدين ليتخذ الإنسان منها دروساً تنير له الطريق، وتوضح له المقصد في حياته الاجتماعية والفردية.


(د) الاتجاه إلى الله تعالى الذي هو أنبل مقصد في هذه الحياة فإنه ينجي الإنسان من كل شر وإثم.


(هـ) التزود إلى دار الآخرة التي هي المقر الدائم والحقيقي للإنسان، وذلك بعمل الخير.


هذه بعض الأهداف المشرقة في مواعظ أئمة الهدى (عليهم السلام)، ونعرض إلى مواعظ الإمام زين العابدين (عليه السلام):


1- قال (عليه السلام) في ذم الدنيا، والتحذير من شرورها وفتنتها: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، الراغبين في الآخرة، ألا أن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطاً، والتراب فراشاً، والماء طيباً، وقرضوا من الدنيا تقريضا، ألا ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ألا أن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وكمن رأى أهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، وهم يجأرون(1) إلى ربهم، يسعون في فكاك رقابهم، وأما النهار فحلماء علماء بررة، أتقياء كأنهم القداح(2) قد براهم الخوف من العبادة ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى، وما بالقوم من مرض أم خولطوا، فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار، وما فيها..)(3).


لقد حذر الإمام (عليه السلام) من حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، ودعا إلى الاقتداء بالزهاد من عباد الله الصالحين الذين فهموا واقع الحياة الدنيا وما يؤول إليه أمرها من الزوال والفناء، فما هي إلا أيام معدودة حتى يقدم الإنسان على الله فيسأله عما عمله في حياته ليجازيه عليه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولذا اتجه الأخيار بقلوبهم وعواطفهم نحو الله، فاخلصوا في طاعته وعبادته.


2- وقال (عليه السلام): (يا ابن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان لك الخوف شعاراً، والحزن لك دثاراً، يا ابن آدم إنك ميت ومبعوث، وموقوف بين يدي الله عز وجل، ومسؤول، فأعد جواباً..)(4).


لقد دعا الإمام إلى أن يقيم الإنسان في أعماق نفسه، ودخائل ذاته واعظاً يعظها ومحاسباً يحاسبها على ما يصدر منها من زلات وهفوات، فإنه مبعوث في يوم القيامة، ومحاسب على ما يقترفه من إثم وسيئات.


3- روى الزهري قال: سمعت علياً بن الحسين يقول: (من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، والله ما الدنيا والآخرة إلا ككفتي ميزان، فأيهما رجح ذهب بالآخر، ثم تلا قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة) - يعني القيامة - (ليس لوقعتها كاذبة. خافضة) - خفضت والله بأعداء الله إلى النار - (رافعة) - رفعت والله أولياء الله إلى الجنة-..).


ثم خاطب رجلاً من جلسائه، - والذي يظهر من فحوى كلام الإمام (عليه السلام) أنه كان متهالكاً في طلب الدنيا، فقال (عليه السلام) يعظه:


(اتق الله، واجمل في الطلب، ولا تطلب ما لم يخلق، فإن من طلب ما لم يخلق تقطعت نفسه، ولم ينل ما طلب، وكيف ينال ما لم يخلق..).


وأسرع الرجل قائلاً:


(كيف يطلب ما لم يخلق؟..).


فأجابه الإمام (عليه السلام) قائلاً:


(من طلب الغنى والأموال والسعة في الدنيا فإنما يطلب ذلك للراحة في الدنيا، والراحة لم تخلق في الدنيا، ولا لأهل الدنيا، إنما خلقت الراحة في الجنة، والتعب والنصب خلقا في الدنيا، ولأهل الدنيا، وما أعطي أحد منها حفنة إلا أعطي من الحرص مثلها، ومن أصاب من الدنيا أكثر كان فيها أشد فقراً لأنه يفتقر إلى الناس لحفظ أمواله، ويفتقر إلى كل آلة من آلات الدنيا، فليس في غنى الدنيا راحة، ولكن الشيطان يوسوس إلى ابن آدم أن له في جمع ذلك المال راحة، وإنما يسوقه إلى التعب في الدنيا، والحساب عليه في الآخرة.


وأضاف الإمام قائلاً:


كلا ما تعب أولياء الله في الدنيا للدنيا، بل تعبوا في الدنيا للآخرة.. ألا ومن اهتم لرزقه كتب عليه حفظه، كذلك قال المسيح عيسى (عليه السلام) للحواريين: إنما الدنيا قنطرة فاعبروها، ولا تعمروها..)(5) وفي هذه الموعظة دعوة إلى الزهد في الدنيا، والإجمال في طلبها، فإن السعي وراء المادية سببه الحصول على الراحة، ولكن لا راحة في الدنيا وذلك لكثرة همومها وآلامها، وقد خلقت الراحة في الجنة التي أعدها الله للمتقين من عباده، فالطلب ينبغي أن يكون لها، لا للدنيا.


4- سأل شخص الإمام زين العابدين (عليه السلام) فقال له: كيف أصبحت يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال (عليه السلام): (أصبحت مطلوباً بثمان: الله يطالبني بالفرائض، والنبي يطالبني بالسنة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان باتباعه، والحافظان بصدق في العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب)(6).


لقد نظر الإمام إلى أبعاد الحياة الدنيا فرآها محاطة بهذه الأمور الثمانية فصمم على الزهد فيها، وعدم الاحتفاء بأي شيء من زينتها ومباهجها.


5- جاء رجل متسول يشكو حاله إلى الإمام (عليه السلام)، فأنكر عليه ذلك قائلاً:


(مسكين ابن آدم، له في كل يوم ثلاث مصائب، لا يعتبر بواحدة منهن، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب، وأمر الدنيا: فأما المصيبة الأولى فاليوم الذي ينقص من عمره.. وإن ناله نقصان في ماله اغتم به، والدرهم يخلف عنه، والعمر لا يرده، والثانية أنه يستوفي رزقه فإن كان حلالاً حوسب عليه، وإن كان حراماً عوقب عليه، والثالثة أعظم من ذلك، فقيل له: وما هي؟ قال: ما من يوم يمسي إلا ودنا من الآخرة رحله لا يدري (أعلى الجنة أم على النار..)(7).


لقد دعا الإمام (عليه السلام) إلى الاعتبار بما يحيط الإنسان من المصائب الثلاث، وهي لو فكر بها لردعته عن التهالك على الدنيا، وعمل لآخرته التي هي دار الخلود والبقاء.


6- قال (عليه السلام): (لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين، لأعربوا عن كل ما يتلجلج في صدورهم، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، وعلى أن إدراك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة، ولكنهم من بني مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب، ومعدول بالهوى من باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم..)(8).


إن الإنسان لو أمعن النظر، وأطال التفكير في شؤون هذا الكون لآمن إيماناً لا يخامره شك بأن هناك خالقاً ومدبراً يخضع كل شيء لإرادته وقضائه، ولا حول ولا قوة لغيره، وإذا آمن الإنسان بذلك لوجد برد اليقين في نفسه، واستراح من كثير من المشاكل والمصاعب التي تداهمه في حياته القصيرة الأمد، ولكن أنّى له بذلك فقد غمره الجهل، وفتنه العجب، وأضله الهوى عن فضل التعلم والوصول إلى الحق.


7- ومن مواعظه القيمة التي وجهها لأصحابه وشيعته، وهي من أجل ما أثر عنه من المواعظ، قال (عليه السلام):


(أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه راجعون، فتجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، (ويحذركم الله نفسه) ويحك ابن آدم الغافل، وليس مغفولاً عنه، إن أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك، ويوشك أن يدركك، فكأن قد وفيت أجلك، وقد قبض الملك روحك، وصيرت إلى قبرك وحيداً، فرد إليك روحك، واقتحم عليك ملكان منكر ونكير لمسألتك، وشديد امتحانك، ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن أمامك الذي كنت تتولاه، وعن عمرك فيما أفنيته، وعن مالك من أين اكتسبته، وفيما أنفقته، فخذ حذرك، وانظر لنفسك، واعد الجواب قبل الامتحان، والمساءلة والاختبار، فإن تكن مؤمناً عارفاً بدينك، متبعاً للصادقين، موالياً لأولياء الله لقنك الله حجتك وأنطق لسانك بالصواب، فأحسنت الجواب، وبشرت بالجنة، والرضوان من الله، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك، ودحضت حجتك، وعييت عن الجواب وبشرت بالنار، واستقبلت ملائكة العذاب بنزل من حميم، وتصلية جحيم.


واعلم يا ابن آدم أن ما وراء هذا - يعني السؤال في القبر - أعظم، وأفظع، أوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود، يجمع الله فيه الأولين والآخرين، يوم ينفخ في الصور، ويبعثر فيه القبور، ذلك يوم الآزفة(9) إذ القلوب لدى الحناجر، كاظمين، ذلك يوم لا تقال فيه عثرة، ولا تؤخذ من أحد فدية، ولا تقبل من أحد معذرة، ولا لأحد فيه مستقيل توبة، ليس إلا الجزاء بالحسنات، والجزاء بالسيئات، فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده.


فاحذروا أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم عنها، وحذركموها في الكتاب الصادق، والبيان الناطق، ولا تأمنوا مكر الله وتدميره عندما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا، فإن الله يقول: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)(10) وأشعروا قلوبكم خوف الله، وتذكروا ما قد وعدكم في مرجعكم إليه من حسن ثوابه، كما قد خوفكم من شديد عقابه، فإنه من خاف شيئاً حذره، ومن حذر شيئاً تركه، ولا تكونوا من الغافلين المائلين إلى زهرة الحياة الدنيا، الذين مكروا السيئات، وقد قال الله تعالى: (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف)(11) فاحذروا ما حذركم الله بما فعل بالظلمة في كتابه، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما توعد به القوم الظالمين، في كتابه، لقد وعظكم الله بغيركم، وإن السعيد من وعظ بغيره، ولقد أسمعكم الله في كتابه ما فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: (وأنشأنا بعدها قوماً آخرين)(12) وقال: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون)(13) يعني يهربون. قال: (لا تركضوا وارجعوا إلى ما ترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون)(14) فلما أتاهم العذاب (قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين)(15) فإن قلتم أيها الناس: إن الله إنما عنى بهذا أهل الشرك، فكيف ذاك؟ وهو يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)(16).


اعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين، ولا تنشر لهم الدواوين، وإنما يحشرون إلى جهنم زمراً، وإنما تنصب الموازين، وتنشر الدواوين لأهل الإسلام، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله تعالى لم يحبب زهرة الدنيا لأحد من أوليائه، ولم يرغبهم فيها، وفي عاجل زهرتها، وظاهر بهجتها، فإنما خلق الدنيا، وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيهم أحسن عملاً لآخرته، وأيم الله لقد ضربت لكم فيه(17) الأمثال، وضربت الآيات لقوم يعقلون، فكونوا أيها المؤمنون من القوم الذين يعقلون، ولا قوة إلا بالله، وازهدوا فيها، زهدكم الله في من عاجل الحياة الدنيا، فإن الله يقول: - وقوله الحق - (إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وازينّت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)(18) ولا تركنوا إلى الدنيا، فإن الله قال لمحمد (صلى الله عليه وآله): (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)(19) ولا تركنوا إلى هذه الدنيا وما فيها ركون من اتخذها قراراً، ومنزل استيطان. فإنها قُلعة، ومنزل بُلغة، ودار عمل، فتزودوا الأعمال الصالحة، قبل تفرق أيامها، وقبل الأذن من الله في خرابها، فكان قد أخربها الذي عمرها، أول مرة، وابتدأها، وهو ولي ميراثها، واسأل الله لنا ولكم العون على تزود التقوى، والزهد في الدنيا، جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل هذه الحياة الدنيا، الراغبين في جل ثواب الآخرة فإنما نحن له وبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(20).


لقد حفلت هذه الموعظة بتصوير مذهل ومروّع عن مشاهد يوم القيامة الذي لا تقال فيه عثرة، ولا تؤخذ فيه من أحد فدية، وإنما يجازي الناس بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فلا نجاة فيه للإنسان من عذاب الله إلا بالعمل الصالح، فهو الذي ينقذه من أهوال يوم القيامة ومشاهده المروعة.


وحذر الإمام (عليه السلام) من اقتراف المعاصي والذنوب، واتباع الشهوات التي تلقي الناس في شر عظيم، كما حذر (عليه السلام) من سلوك طريق الظالمين، لأن الله تعالى أنزل بهم عقابه الصارم فأهلكهم ودمر ديارهم، وأذاقهم وبال ما كانوا يظلمون.


وشيء آخر بالغ الأهمية في هذه الموعظة، هو أن موازين القسط والعدل التي تنصب يوم القيامة إنما هي للمسلمين، وأما الذين كفروا فلا تنشر لهم الدواوين، ولا تنصب لهم الموازين، وإنما يساقون إلى جهنم زمراً.


8- ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة المؤثرة، وهذا نصها:


(كفانا الله، وإياكم الظالمين، وبغي الحاسدين، وبطش الجبارين، أيها المؤمنون لا يفتتنكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها، المفتونون بها، المقبلون عليها، وعلى حطامها الهامد(21) وهشيمها البائد غداً، واحذروا ما حذركم الله منها، وازهدوا فيث ما زهدك الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من أعدها داراً وقراراً، وبالله إن لكم مما فيها دليلاً من زينتها وتصريف أيامها، وتغييراً نقلاً بها، ومثلاتها، وتلاعبها بأهلها، إنها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد النار أقواماً غداً، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه، وإن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان(22) ووسوسة الشيطان، لتثبط القلوب عن نيتها، وتذهلها عن موجود الهدى، ومعرفة أهل الحق إلا قليلاً ممن عصم الله، ونهج سبيل الرشاد، وسلك طريق القصد، ثم استعان على ذلك بالزهد، فكرر الفكر، واتعظ بالعبر، وازدجر، فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافى عن لذاتها، ورغب في دائم نعيم الآخرة، وسعى لها سعيها، وراقب الموت، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين، فعند ذلك نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة، حديدة النظر، وأبصر حوادث الفتن، وضلال البدع، وجور الملوك الظلمة، فقد - لعمري - استدبرتم من الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة، والانهماك فيها، ما تستدلون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق، فاستعينوا بالله، وارجعوا إلى طاعته، وطاعة من هو أولى بالطاعة من طاعة من اتبع وأطيع.


فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة، والقدوم على الله، والوقوف بين يديه، وتالله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه، وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم، وساء مصيرهم، وما العلم بالله والعمل بطاعته إلا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه، فحثه الخوف على العمل بطاعة الله، وإن أرباب العلم وأتباعهم، الذين عرفوا الله فعملوا له، ورغبوا إليه وقد قال الله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)(23) فلا تلتمسوا شيئاً في هذه الدنيا بمعصية الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا أيامها، واسعوا لما فيه نجاتم غداً من عذاب الله، فإن ذلك أقل للتبعة، وأدنى من الغدر، وأرجى للنجاة، فقدموا مر الله وطاعته وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلها، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت، وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله، وطاعته، وطاعة أولي الأمر منكم، واعلموا أنكم عبيد الله، ونحن معكم، يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غداً، وهو موقفكم، ومسائلكم، فأعدوا الجواب، قبل الوقوف والمساءلة والعرض على رب العالمين، يومئذٍ لا تكلم نفس إلا بإذنه، واعلموا أن الله لا يصدق كاذباً، ولا يكذب صادقاً، ولا يرد عذر مستحق، ولا يعذر غير معذور، بل لله الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل، فاتقوا الله واستقبلوا من إصلاح أنفسكم، وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعل نادماً قد ندم على ما فرط بالأمس في جنب الله، وضيّع من حق الله، واستغفروا الله وتوبوا إليه فإنه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وإياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا أنه من خالف أولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبد بأمره دون أمر ولي الله، في نار تلتهب، تأكل أبداناً، قد غابت عنها أرواحها، غلبت عليها شقوتها، فهم موتى لا يجدون حر النار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، واحمدوا الله على ما هداكم، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته، وسيرى الله عملكم ثم إليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة، وتأدبوا بآداب الصالحين..)(24) وهذه الموعظة من غرر مواعظ الإمام (عليه السلام)، ولم يقتصر على الدعوة إلى الزهد في الدنيا والعمل للآخرة، وإنما كانت في الوثائق السياسية، والاجتماعية، وقد حفلت بما يلي:


1- التحذير من اتباع الطواغيت واتباعهم من المفتونين بحب الدنيا، والمغرورين بزينتها وبهجتها، فإنهم جميعاً من الشبكة التخريبية التي تعمل على مناهضة الإصلاح الاجتماعي، ونشر الظلم والفساد في الأرض.


2- ذم الدنيا، والتنديد بطبيعتها، والتي منها:


(أ) رفعها الخاملين.


(ب) وضعها الأحرار والأشراف.


(ج) دفعها أقواماً إلى النار، وذلك لانحرافهم عن الحق.


وإذا كانت طبيعة الدنيا إقامة الرذائل، ومناهضة القوى الخيرة، فالأجدر الزهد فيها، والتجافي عن شهواتها، والسعي في الظفر بنعيم الآخرة.


3- إبداؤه الأسى على ما تواجهه الأمة في عصره من ألوان مريعة ومذهلة من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، من قبل الحكومة الأموية التي أغرقت البلاد بالظلم والفتن والجور، وكان وقع تلك الأحداث شديداً على الأمة، فقد ثبطت القلوب عن نياتها، وأذهلتها عن طريق الحق والرشاد.


4- الدعوة إلى طاعة الله، وطاعة أئمة الحق والهدى الذين يسلكون بالناس سبل النجاة، ويهدونهم إلى صراط مستقيم، والذين يمثلون إرادة الأمة ووعيها، ويحققون لها جميع ما تصبوا إليه من العزة والكرامة، كما دعا (عليه السلام) إلى التمرد على أئمة الجور، وعدم التعاون معهم.


5- الحث على تقى الله وطاعته اللذين تزدهر بهما حياة الإنسان، ويستقيم بهما سلوكه.


هذه بعض محتويات هذه الموعظة الحافلة بالأمور الدينية والشؤون السياسية.


9- من مواعظه القيمة التي تحدث فيها عن صفات الزاهدين وقد جاء فيها:


(إن علامة الزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، تركهم كل خليط، وخليل، ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون، إلا وأن العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا، الآخذ للموت أهبته، الحاث على العمل قبل فناء الأجل، ونزول ما لابد من لقائه، وتقديم الحذر قبل الحين(25) فإن الله عز وجل يقول: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت)(26) فلينزلن أحدكم اليوم نفسه في هذه الدنيا كمنزلة المكرور إلى الدنيا، النادم على ما فرط فيها من العمل الصالح ليوم فاقته، واعلموا، عباد الله، أنه من خاف البيات تجافى عن الوساد، وامتنع من الرقاد، وأمسك عن بعض الطعام والشراب، من خوف سلطان أهل الدنيا، فكيف، ويحك يا ابن آدم، من خوف بيات سلطان رب العزة، وأخذه الأليم وبياته لأهل المعاصي والذنوب، مع طوارق المنايا بالليل والنهار فذلك البيات الذي ليس فيه منجى، ولا دونه ملتجأ، ولا منه مهرب، فخافوا الله، أيها المؤمنون من البيات، خوف أهل التقوى فإن الله يقول (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)(27) فاحذروا زهرة الحياة الدنيا وغرورها وشرورها، وتذكروا عاقبة الميل إليها فإن زينتها فتنة، وحبها خطيئة.


واعلم ويحك يا ابن آدم أن قسوة البطنة، وفطرة الميلة، وسكر الشبع، وعزة الملك مما يثبط، ويبطئ عن العمل، وينسي الذكر، ويلهي عن اقتراب الأجل، حتى كأن المبتلى بحب الدنيا به خبل من سكر الشراب، وإن العاقل عن الله، الخائف منه، ليمرن نفسه، ويعودها الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع، وكذلك تضمير الخيل(28) لسبق الرهان.


فاتقوا الله عباد الله تقوى مؤمل ثوابه، وخائف عقابه، فقد أعذر الله تعالى وأنذر، وشوق، وخوّف، فلا أنتم إلى ما شوقكم إليه من كريم ثوابه تشتاقون فتعملون، ولا أنتم مما خوفكم من شديد عقابه، وأليم عذابه، ترهبون، فتنكلون، وقد نبأكم الله في كتابه أنه (من يعمل من الصالحات، وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون)(29) ثم ضرب لكم الأمثال في كتابه، وصرف الآيات لتحذروا عاجل زهرة الحياة الدنيا، فقال: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم)(30) فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا، وأطيعوا.. فاتقوا الله واتعظوا بمواعظ الله، وما أعلم إلا كثيراً منكم قد نهكته عواقب المعاصي فما حذرها، وأضربت بدينه فما مقتها، أما تسمعون النداء من الله بعينها وتصغيرها حيث قال: (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(31) وقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس إلى ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون)(32) فاتقوا الله عباد الله، وتفكروا واعملوا لما خلقتم له، فإن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى، قد عرفكم نفسه، وبعث إليكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه فيه حلال وحرامه، وحججه وأمثاله، فاتقوا الله فقد احتج عليكم ربكم فقال: (ألم نجعل له عينين * ولساناً وشفتين * وهديناه النجدين)(33) فهذه حجة عليكم، فاتقوا الله ما استطعتم فإنه لا قوة إلا بالله، ولا تتكلوا إلا عليه وصلى الله على محمد وآله..)(34).


وألمت هذه الموعظة القيمة بصفات الزاهدين ونزعاتهم، فكانوا حقاً من خيار خلق الله، فلم تفتنهم الدنيا، ولم تغرهم زينتها وشهواتها، فقد اتجهوا نحو الدار الآخرة وعملوا كل ما يقربهم إلى الله زلفى، فكانوا في سلوكهم، وحسن أفعالهم، وجمال أحدوثتهم قدوة حسنة لمن يهتدي بهم.


10- ومن مواعظه القيمة التي كان يعظ بها أصحابه هذه الموعظة:


(أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبة، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله، وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقاً، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم على الله أتقاكم لله تعالى..)(35).


لقد أمر الإمام (عليه السلام) أصحابه بمحاسن الصفات، وذخائر الأعمال، ودلهم على ما ينجيهم من عذاب الله في الدار الآخرة، فقد حثهم على ما يلي:


(أ) الرغبة فيما عند الله وهي من أعظم الذخائر، أما الرغبة إلى غيره تعالى فإنها تؤول إلى الخيبة والخسران.


(ب) الخشية من الله؛ فإنها تصد الإنسان من اقتراف أي إثم أو جرم، وتغرس في النفس الفضيلة والكرامة.


(ج) سعة الأخلاق: فإن الإنسان إنما يمتاز على غيره بسمو أخلاقه، فإذا فقد الأخلاق فقد فقد إنسانيته.


(د) التوسعة على العيال: وهي ما توجب شيوع المودة والألفة بين أفراد الأسرة التي هي الخلية الأولى في بناء المجتمع الإنساني.


(هـ) تقوى الله: وهي من موجبات التمايز في المجتمع الإسلام، فقد جاء في الحديث (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(36).


11- ومما وعظ به الإمام أصحابه قوله: (إن بين الليل والنهار روضة يرتع في رياضها الأبرار، ويتنعم في حدائقها المتقون، فادأبوا رحمكم الله في سهر هذا الليل بتلاوة القرآن في صدره، وبالتضرع والاستغفار في آخره، وإذا ورد النهار فأحسنوا قراه بترك التعرض لما يرد لكم من محقرات الذنوب فإنها مشرفة بكم على قباح العيوب، وكأن الرحلة قد أظلتكم، وكأن الحادي قد حدا بكم، جعلنا وإياكم من أغبطه فهمه، ونفعه علمه..)(37).


لقد حث الإمام (عليه السلام) على طاعة الله وعبادته في غلس الليل، ووضح النهار، وحذر من اقتراف الذنوب والمعاصي، فإنها تورد الإنسان موارد الهلكة، فما أسرع ما يفارق هذه الحياة ويرد على الله فيجازيه على أعماله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.


12- ومن مواعظه هذه الموعظة التي وجه فيها الخطاب لنفسه، وهي من المواعظ التي ترتعد منها الفرائص، وتفزع منها القلوب، وهذا نصها:


(يا نفس حتى م إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من ألاّفك؟ ومن فجعت به من إخوانك، ونقل إلى الثرى من أقرانك؟ فهم في بطون الأرض بعد ظهورها، محاسنهم فيها بوال دواثر.


خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم         وساقهـــم نحــــو المنــــايا المقادر


وخلوا عن الدنيا وما جمعـــــوا لها         وضمهــــم تحــــت التــراب الحفائر


كم خرمت أيدي المنون من قرون، وكم غيرت الأرض ببلائها،وغيبت في ترابها منم عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الأرماس، ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الأفلاس:


وأنت عــلى الدنيا مكب منافس         لخطابهــــا فيــها حريص مكاثر


على خطر تمشي وتصبح لاهياً         أتــــدري بماذا لو عقلت تخاطر


وإن امرءاً يسعـــى لدنياه دائباً         ويذهل عن أخراه لا شك خاسر


فحتى م على الدنيا إقبالك؟ وبشهواتها اشتغالك؟ وقد وخطك القتير(38) وأتاك النذير، وأنت عما يراد بك ساه، وبلذة يومك وغدك لاه، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصيبات.


وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى         عـــن اللهـــــو واللذات للمرء زاجر


أبعــــــد اقتراب الأربعـيـــــن تربص         وشيـــــب قـــــذال منـــــذر ومكــــابر


كأنـــــك معـــــنيّ بمـــــا هــو ضائر         لنفسك عمداً وعن الرشد حائر(39)


انظر إلى الأمم الماضية، والملوك الفانية، كيف اختطفتهم عقبان الأيام ووافاهم الحمام، فامحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها أخبارهم، وأصبحوا رمماً في التراب إلى يوم الحشر والمآب.


أمسوا رميماً في التراب وعطلت         مجـــــالسم منهــــم وأخلى مقارم


وحـــــلوا بـــــدار لا تـزاور بينهم         وأنـــــى لسكــــان القبور التزاور


فمــــا أن ترى إلا قبوراً ثووا بها         مسطحــــة تسفي عليها الأعاصر


كم من ذي منعة وسلطان، وجنود، وأعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر(40) وجمع فيها الأموال والذخائر، ومليح السراري والحرائر.


فمـــــا صــدفت كف المنية إذ أتت         مبـــــادرة تهـــــوى إليــه الذخائر


ولا دفعت عنه الحصون التي بنى         وحـــــف بهـــــا أنـهاره والدساكر


ولا قـــــارعـــت عنه المنية حيلة         ولا طمعت في الذب عنه العساكر


أتاه من الله ما لا يرد، ونزل به من قضاءه ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار، المتكبر العزيز القهار، قاصم الجبارين، ومبيد المتكبرين، الذي ذل لعزه كل سلطان وأباد بقوته كل ديان.


مليـــــك عـــــزيز، لا يــــرد قضاؤه         حكيـــــم عليم، نــافذ الأمر، قاهر


عـــــنا كـــــل ذي عــز لعزة وجهه         فكـــــم من عزيز للمهيمن صاغر


لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت         لعــــزة ذي العرش الملوك الجبابر


فالبدار، البدار(41)، والحذار الحذار من الدنيا ومكايدها، وما نصبت لك من مصايدها وتحلت لك من زينتها، وأظهرت لك من بهجتها، وأبرزت لك من شهواتها، وأخفت عنك من غوائلها وهلكاتها.


وفي دون ما عاينت من فجعاتها         إلـــــى دفعــها داع وبالزهد آمر


فجـــــدّ ولا تغفل وكـــــن متيـقظاً         فعـــــما قــليل يترك الدار عامر


فشمـــــر ولا تفـتر، فعمرك زائل         وأنـــــت إلـى دار الإقامة صائر


ولا تطـــــب الـــــدنيا فإن نعيمها         - وإن نلت منها - غبه لك ضائر


فهل يحرص عليها لبيب، أو يسربها أريب؟ وهو عى ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، أم كيف تنام عينا من يخشى البيات، وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات.


إلا لـــــه، ولكـــــنا نغــر نفوسنا         وتشـغـــــلنا اللـــذات عما نحاذر


وكيف يلذ العيش من هو موقف         بمـوقــف عدل يوم تبلى السرائر


كأنـــــا نــرى أن لا نشور، وأننا         سدى، ما لنا بعد الممات مصادر


وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها، ويتمتع به من بهجتها مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصابها وفي طلبها، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها.


أما قـــد نرى في كل يـــــوم وليلة         يـــــروح عـلينا صــرفها ويباكر


تعـــــاورنا آفـــــاتهـــــا وهمومها         وكــم قد ترى يبقى لها المتعاور


فــــلا هـــــو مغـــــبوط بدنيا آمن         ولا هو عن تطلابها النفس قاصر


كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنهضه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبرئه من سقمه، ولم تخلصه من وصمه.


بــل أوردته بعد عز ومنعــة         مــــوارد سوء ما لهن مصادر


فلـــما رأى أن لا نجاة وأنه         هو الموت لا نجيه منه التحاذر


إذ بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار، ولا نجيه الاعتذار عند هول المنية، ونزول البلية.


أحـــــاطت بـــه أحزانه وهمومه         وأبلس لمـــــا أعجـزته المقادر


فليس له من كربة الموت فارج         وليـــــس لـــــه مما يحاذر ناصر


وقــد جشأت خوف المنية نفسه         ترددهـــــا منـــــه اللها والحناجر


هنالك خف عواده وأسلمه أهله وعواده، وارتفعت البرية بالعويل وقد أيسوا من العليل، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومدوا عند خروج روحه رجليه، وتخلى عنه الصديق، والصاحب الشقيق.


فكم موجع، يبكي عليه، مفجع         ومستـنجد صبراً وما هو صابر


ومسترجع داع له الله مخلصاً         يعـــــدد منـــــه كـل ما هو ذاكر


وكــــم شامت مستبشر بوفاته         وعــــما قليل للذي صار صائر


فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجه لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لإبرازه، كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى، ولا الحبيب المبدى.


وحـــــل أحب القوم كان بقربه         يحـــــث عــــلى تجهيزه ويبادر


وشمر من قد أحضروه لغسله         ووجـــــه لما فاض للقبر حافر


وكفـن في ثوبين واجتمعت له         لتشيـــــيعه إخـــوانه والعشائر


فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه، وخضبت الدموع عينيه، وهو يندب أباه، ويقول: يا ويلاه واحرباه.


لعاينت من قبح المنية منظراً         يهـــــال لـمـرآة، ويرتاع ناظر


أكـــــابر أولاد يهـيج اكتئابهم         إذا ما تناساه البنون الأصاغر


وربـــــة نسوان علي جوازع         مدامعهم فوق الخدود غوارز


ثم أخرج من سعة قصره، إلى ضيق قبره، فلما استقر في اللحد، وهيل عليه اللبن احتوشته أعماله، وأحاطت به خطاياه، وضاق ذرعاً بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا البكاء عليه والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه، وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهناً بما كسب وطلب.


فهووا عـــــليه معولين وكلهم         لمثل الذي لاقى أخوه محـــاذر


كشاءٍ رتاع آمنـــــين بــــدالها         بمديته بـــادي الذراعين حاسر


فريعت ولم ترتع قليلاً واجفلت         فلما نأى عنها الذي هو حــاذر


عادت إلى مرعاها ونسيت ما في أختها دهاها، أفبأفعال الأنعام اقتدينا؟ أم على عادتها جرينا؟ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبر بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.


ثوى مفرداً في لحده وتوزعت         مـــــواريثه أولاده والأصاهر


واحنوا على أمواله يقسمونها         فلا حامد منهم عليها وشاكر


فيا عامر الدنيا ويا ساعياً لها         ويا آمــناً من أن تدور الدوائر


كيف أمنت هذه اللحظة وأنت صائر إليها لا محالة؟ أم كيف ضيعت حياتك، وهي مطيتك إلى مماتك؟ أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك؟ أم كيف تهنأ بالشهوات وهي مطية الآفات.


ولـــــم تتـــــزود للرحيـــــل وقـــد دنا         وأنـــــت عـــلى حال وشيك مسافر


فيـــــالهف نـــفسي كم أسوف توبتي         وعـــمري فـــــانٍ والردى لي ناظر


وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت         يجـــــازي عـــــليه عادل الحكم قادر


فكم ترقع بآخرتك دنياك، وتركب وغيك وهواك، أراك ضعيف اليقين يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن؟ أم على هذا أنزل القرآن؟ أما تذكر أمامك من شدة الحساب، وشر المآب، أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً.


تخـــــرب ما يـــــبقى وتعـمر فانياً         فـــــلا ذاك مـوفور ولا ذاك عامر


وهـــــل لــك إن وافاك حتفك بغتة         ولـــم تكتسب خيراً لدى الله عاذر


أتـرضى بأن تفنى الحياة وتنقضي         ودينك منقوص ومالك وافر(42)


وانتهت هذه الموعظة، وقد صورت واقع الحياة الدنيا، وما يؤول إليه أمر الإنسان من النزوح عن هذه الدنيا، التي هو أحرص ما يكون عليها، فقد هام بحبها، وتعلق بشهواتها ومباهجها، مع علمه بمفارقتها إلى قبر مظلم ضيق، تتقطع فيه أوصاله، وتنحسر فيه أخباره، ولا يبقى معه إلا عمله، فإن كان صالحاً، فلا يأنس إلا به، وإن كان شراً فلا يخاف إلا منه.


ونحن لا يخالجنا شك في مضامين هذه الموعظة، إلا أنا نشك فيها من جهة ركاكة بعض ألفاظها خصوصا ما اشتملت عليه من النظم، وهي لا تتناسب مع بلاغة الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي هو من أبلغ أئمة البلاغة في العالم العربي والإسلامي، فهو صاحب الصحيفة السجادية التي لم تعرف العربية أبلغ وأفصح منها.


13- ومن مواعظه هذه الموعظة القيمة التي حذر فيها من الدنيا قال (عليه السلام): (أحذركم من الدنيا، وما فيها، فإنها دار زوال وانتقال، تنتقل بأهلها من حال إلى حال، وهي قد أفنت القرون الخالية، والأمم الماضية وهم الذين كانوا أكثر منكم مالاً(43)، وأطول أعماراً، وأكثر آثاراً، أفنتهم الدنيا، فكأنهم لا كانوا أهلاً، ولا سكانا، قد أكل التراب لحومهم، وأزال محاسنهم، وبدد أوصالهم، وشمائلهم، وغير ألوانهم، وطحنتهم أيدي الزمان أفتطمعون بعدهم بالبقاء؟ هيهات!! هيهات!! فلابد من الملتقى، فقد بدد ما مضى من عمركم، وما بقي فافعلوا فيه ما سوف يلتقي عليكم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل، وفروغ الأمل، فعن قريب تؤخذون من القصور إلى القبور حزينين غير مسرورين، فكم والله من فاجر قد استكملت عليه الحسرات، وكم من عزيز وقع في مسالك الهلكات حيث لا ينفعه الندم، ولا يغاث من ظلم، وق وجدوا ما أسلفوا وأخذوا ما تزودوا، (ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً) فهم في منازل همود(44) وفي عسكر الموتى خمود، ينتظرون صيحة القيامة وحلول يوم الطامة(45) (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى)(46).


وبهذا تنتهي بعض مواعظ الإمام زين العابدين (عليه السلام) حقاً إنها من أعظم الأرصدة الروحية، كما أنها من أنجح الأدوية لمعالجة الأمراض النفسية التي تؤدي إلى انحطاط الإنسان، وترديه في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة.



 


حِكَمه


لقد أدلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) بكثير من الحكم القيمة، والتعاليم الرفيعة التي انبعثت عن خبرته الكاملة لواقع الحياة، وتعمقه في شؤونها الاجتماعية، وخبرته بأحوال الناس، وأمورهم، وفيما يلي بعض ما أثر عنه:



ذم التكبر:


ذم الإمام (عليه السلام) التكبر، ونعى على المتكبر هذه الظاهرة السيئة لأنها باب لكل شر ومصدر لكل رذيلة، فالمتكبر لا يرى غيره يستحق الحياة، ومن ثم يقوم بالظلم والاعتداء على الناس، يقول (عليه السلام): (عجبت للمتكبر الفجور، الذي كان بالأمس نطفة ثم غداً هو جيفة). إن المتكبر على الناس الفخور بنفسه، لو تأمل ذاته قليلاً ونظر إلى بداية تكوينه، ونهاية مصيره لما تكبر على الناس، وفخر بما يتمتع به من مال أو بنين.


من مأمنه يؤتى الحذر(47):


ومن كلماته الحكمية الخالدة هذه الكلمات الذهبية الرائعة، قال (عليه السلام): (من مأمنه يؤتى الحذر، يكتفي اللبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل، ولا ينتفع بالقول، وإن كان بليغاً مع سوء الاستماع..)(48) أما معطيات هذه الكلمات البليغة فهي:


1- إن الحذر يؤتى من مأمنه: ومعنى ذلك أن من يقيم حرساً مكثفاً للحفاظ على حياته كما يفعل الملوك، والرؤساء، فإن ما يحذرونه يأتي - على الأكثر - من أولئك الحراس، فإنهم هم الذين يفتكون بهم كما وقع ذلك كثيراً مع بعض الملوك.


2- إن اللبيب المتفتح ذهنه هو الذي يفهم الأمور من وحي الحديث، وقرائن الأحوال ولا يحتاج إلى التعمق والبسط في القول.


3- إن البيان يبتعد عن قلب الجاهل، ولا يصل إليه لأنه قد ران عليه الجهل فصده عن فهم الأمور.


4- إن بلاغة القول وحكمته لا ينتفع بهما مع سوء الاستماع، وإنما ينتفع بهما مع الإصغاء.



التحذير من المراء:


حذر الإمام (عليه السلام) من المراء، وهو المجادلة التي لا يقصد منها الوصول إلى الحق، وإنما المقصود المغالبة والاستعلاء قال (عليه السلام): (المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون به المغالبة، والمغالبة من أمتن أسباب القطيعة)(49) إن المراء مفتاح للشر، ويلقي بين الناس العداوة والبغضاء، ويسبب لهم كثيراً من المصاعب والمشاكل.



الابتهاج بالذنب:


إن الابتهاج بالذنب، والافتخار به ينم عن تمادي الشخص في الجريمة قال (عليه السلام): (إياك والابتهاج بالذنب، فإن الابتهاج بالذنب أعظم من ركوبه)(50).



أنواع الذنوب:


أما أنواع الذنوب التي توجب سخط الله وعذابه فقد تحدث الإمام عنها، وحذر منها ليكون الإنسان في سلامة من دينه ودنياه، قال (عليه السلام): (الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير، واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر، قال الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).


والذنوب التي تورث الندم قتل النفس التي حرم الله، قال الله تعالى في قصة قتل قابيل حين قتل أخاه فعجز عن دفنه: (فأصبح من النادمين) وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية ورد المظالم، ومنع الزكاة حتى يحضر الموت، وينغلق اللسان.


والذنوب التي تنزل النقم عصيان العارف، والتطاول على الناس، والاستهزاء بهم، والسخر بهم. والذنوب التي تدفع النعم إظهار الافتقار، والنوم عن العتمة(51)، وعن صلاة الغداة، واستحقار النعم، وشكوى المعبود، والذنوب التي تهتك العصم شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب. والذنوب التي تنزل البلاء ترك إغاثة الملهوف، وترك معونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والذنوب التي تديل الأعداء المجاهرة بالظلم، وإعلان الفجور، وإباحة المحظور، وعصيان الأخيار، واتباع الأشرار. والذنوب التي تعجل الفناء قطيعة الرحم، واليمين الفاجرة، والأقوال الكاذبة والزنا، وسد طرق المسلمين، وادعاء الإمامة بغير حق، والذنوب التي تقطع الرجاء اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والثقة بغير الله والتكذيب بوعد الله، والذنوب التي تظلم الهواء السحر والكهانة، والإيمان بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وعقوق الوالدين، والذنوب التي تكشف الغطاء الاستدانة بغير نية الأداء، والإسراف في النفقة على الباطل، والبخل على الأهل والولد وذوي الأرحام، وسوء الخلق، وقلة الصبر، واستعمال الضجر، والاستهانة بأهل الدين والذنوب التي ترد الدعاء سوء النية وخبث السريرة، والنفاق مع الإخوان، وترك التصديق بالإجابة وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها، وترك التقرب إلى الله عز وجل بالبر والصدقة، واستعمال البذاء والفحش في القول، الزور، وكتمان الشهادة، ومنع الزكاة والفرض والماعون وقساوة القلوب على أهل الفقر والفاقة، وظلم اليتيم والأرملة، وانتهار السائل ورده بالليل..)(52).


لقد حذر الإمام (عليه السلام) من اقتراف هذه الذنوب والجرائم التي توجب انحراف الإنسان في سلوكه، وتبعده عن خالقه، وقد ذكر الإمام آثارها الوضعية، وما يترتب عليها من المضاعفات السيئة في الدنيا قبل الدار الآخرة، ومن الحق أن هذا الحديث وأمثاله من أحاديث الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) - في هذا الموضوع - من المناجم الخصبة في تربية النفس، وتهذيبها، وتنظيم توازنها وسلوكها.



حقيقة الموت:


ووصف الإمام (عليه السلام) حقيقة الموت بالنسبة للمؤمنين والكافرين، بقوله: (الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة، وفك أغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب، وأوطأ المراكب، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل من منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب، وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظمها..)(53).


لقد تواترت الأخبار عن أئمة الهدى(عليهم السلام) أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فإذا حل الموت بالمؤمن فإنه لا يجد فيه أية صعوبة، وإنما يجد الراحة الكبرى لأنه ينتقل إلى نعيم الآخرة تبوأ الفردوس حيثما يشاء، وأما الكافر فإذا نزل الموت بساحته فإنه يوم شقائه وبلائه، ويواجه الموت بحسرات وآلام لأنه ينتقل من جنة إلى سجن وعذاب دائم.



أهم أنواع الزهد:


سأل شخص الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن الزهد، فقال (عليه السلام): الزهد عشرة أشياء، فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا(54)، ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله قوله: (لكيلا تأسوا على فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)(55) وألم هذا الحديث الشريف ببعض الحقائق العرفانية، منها:


(أ) إن أسمى درجة من الزهد لا تعادل أدنى درجة من الورع عن محارم الله الناشئ عن ضبط النفس، والسيطرة عليها.


(ب) إن ارقى درجة من الورع هي أدنى درجة من اليقين بالله تعالى الذي هو من أسمى مراحل الإيمان.


(ج) إن أعلى مرتبة من اليقين هي أدنى درجة من الرضا بما قسم الله، فإنه جوهر الإيمان.


(د) أن حقيقة الزهد قد ألمت به الآية الكريمة التي حذرت من الأسى والحزن على ما يفوت الإنسان من المنافع في دار الدنيا، كما حذرت من الفرح والابتهاج بما يكسبه الإنسان ويظفر من ملاذ هذه الحياة وخيراتها المادية، لأنها تؤول إلى التراب.



أفضل الأعمال عند الله:


سئل الإمام (عليه السلام) عن أفضل الأعمال عند الله، فقال: (ما من عمل أفضل عند الله تعالى بعد معرفة الله، ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا، وإن لذلك شعباً كثيرة، وإن للمعاصي شعباً، فأول ما عصي الله به الكبر، وهو معصية إبليس حين أبى، واستكبر، وكان من الكافلارين، والحسد وهو معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو، وحب الثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلهن في حب الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك.. حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دار بلاء..)(56).


إن حب الدنيا أساس البلاء، ومصدر الفتن، والأخطاء التي يمنى بها الإنسان، فإن تهالكه على الدنيا يجر له كثيراً من المعاصي والآثام، ويلقيه في شر عظيم، وقد ذكر الإمام (عليه السلام) بعض الآفات من حب الدنيا، والتي منها:


1- التكبر.


2- الحسد.


3- حب النساء وحب الرياسة.


4- حب الراحة.


5- حب الكلام(57).


6- حب العلو على الغير.


7- حب الثروة.


وهذه الآفات قد جعلت الإنسان يسلك في المنعطفات، وأغرقته في الآثام، وأبعدته عن طريق الحق.



معرفة العدالة:


ومن غرر حكميات الإمام (عليه السلام) هذا الحديث الشريف الذي حدد فيه عدالة الإنسان، ووثاقته، قال (عليه السلام):


(وإذا رأيتم الرجل قد حسُن سمته، وهديه، وتمادى في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا، وركوب الحرام منها، لضعف بنيته، ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً له، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنكم، فإن شهوات لاخلق مختلفة، فما أكثر من يتأبى عن الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة، فيأتي منها محرما، فإذا رأيتموه كذلك فرويداً لا يغرنكم حتى تنظروا عقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.. فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتى تنظروا أيكون هواه على عقله، أم يكن عقله على هواه؟ وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها؟ فإن في الناس من يترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة، حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطله إلى أبعد غايات الخسارة، ويمد به بُعد طلبه لما لا يقدر في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي د شقي من أجلها فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً أليما.


ولكن الرجل كل الرجل الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في قضاء الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد مع العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤدي إلى دوام النعيم في دار لا تبيد، ولا تنفد، وأن كثيراً ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤدي به إلى عذاب لا انقطاع له، ولا زوال، فذلك الرجل تمسكوا به، واقتدوا بسنته، وإلى ربكم توسلوا به، فإنه لا ترد له دعوة، ولا يخيب من طلبه..)(58).


واستهدف حديث الإمام (عليه السلام) معرفة العدالة التي هي من أجل الملكات النفسية لأن بها يسمو الإنسان، ويتحرر من أوضار المادة، ومغريات النفس وشهواتها بحيث لم يعد أي سلطان عليه من النزعات الشريرة، والفاسدة، وقد استند بعض الفقهاء إلى هذا الحديث إلى اعتبار أرقى مراتب العدالة لمن يتصدى إلى المرجعية العامة من الفقهاء(59).


لقد دل الحديث - بوضوح - على أن معرفة الرجل العادل الكامل في ورعه وتقواه ينبغي أن تستند إلى الفحص الدقيق، والخبرة الكاملة، لا إلى النظرة الخاطفة، والتي منها ما يلي:


(أ) حسن السمت: فإنه ليس دليلاً على العدالة والتقوى.


(ب) إظهار الإصلاح: فإنه أيضاً ليس دليلاً على العدالة، لأنه قد يكن خداعاً منافقاً، اتخذ الدين وسيلة لنيل مآربه وأطماعه وشهواته بعد أن عجز عن الظفر بها في سائر الوسائل الأخرى.


(ج) الامتناع عن المال الحرام: وهذا أيضاً ليس دليلاً على التقوى لأنه قد يحمل نفسه على ذلك، ويرغمها في سبيل تحقيق مآربه، وأغراضه التي لا صلة لها بالدين أصلاً.


أما الوسائل التي ستكشف بها كمال الورع والوثاقة، والدين فهي:


(أ) أن يغلب عقل الإنسان على هواه وشهوته.


(ب) عدم حب للرياسة الباطلة، وزهده فيها، فإن ذلك من أوثق الإمارات على العدالة.


(ج) اتباع أوامر الله، والانقياد الكامل لطاعته تعالى، بحيث يوجه جميع طاقاته للحصول على مرضاة الله والتقرب إليه، فهذا هو العادل الواقعي الذي تنبعث عدالته عن فكر وتأمل وإيمان.



صفات المنافق والمؤمن:


وأدلى الإمام (عليه السلام) بالحديث التالي مبيناً بعض صفات المنافقين، والمؤمنين، قال: (المنافق ينهى ولا ينتهي، ويأمر و يأتي، إذا قام للصلاة اعترض، وإذا ركع ربض، وإذا سجد نقر، يمسي وهمه العشاء ولم يصم، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر.


والمؤمن خلط علمه بحلمه، يجلس ليعلم، وينصت ليسلم، لا يحدث بالأمانة للأصدقاء، ولا يكتم الشهادة للبعداء، ولا يعمل شيئاً من الحق رياءً، ولا يتركه حياءً إن زكّي خاف مما يقولون: ويستغفر الله لما لا يعلمون، ولا يضره جهل من جهله..)(60) لقد ألم حديث الإمام (عليه السلام) بأبرز صفات المنافقين والمؤمنين، أما صفات المنافقين فهي:


(أ) إن المنافق ينهى عن المنكر، ولا ينتهي عنه، ويأمر بالمعروف، ولا يأتي به لأنه لم يكن يؤمن بذلك في أعماق نفسه، أما السبب في أمره ونهيه فهو للخداع والتضليل بأنه من خيار الناس.


(ب) إنه إذا قام للصلاة اعترض على تشريعها، كما أنه إذا ركع في صلاته ربض أي هوى إلى الأرض كالغنم عند ربوضها، وأما سجوده فهو غير مستقر فيه، فمثله كمثل الطائر عند نقره الطعام.


(ج) إنه كالبهيمة في أن همها علفها، فكذلك هو يصبح ويمسي ولا همّ له إلا الطعام.



أما الصفات التي امتاز بها المؤمن فهي:


(أ) إن شخصيته مركبة من عنصرين، وهما: العلم والحلم، فهو عالم وحليم ومن اجتمعت فيه هاتان الصفتان بلغ أعلى مراتب الكمال.


(ب) إنه لا يجلس عند أحد إلا ليتعلم منه العلم والحكمة، ولا يجلس في مجالس اللهو والبطالة التي لا يستفيد منها شيئا.


(ج) إنه إذا أنصت لأحد فإنما ليسلم منه، ويأمن شره والاعتداء عليه(61).


(د) إذا استؤمن على شيء يكمته، ولا يفشيه لأحد حتى لأصدقائه.


(هـ) إذا تحمل الشهادة يدلي بها، ولا يكتمها.


(و) إذا عمل شيئاً من الحق، لا يعمله رياءً ولا سمعة، وإنما خالصا لوجه الله تعالى.


(ز) إذا زكّي، ونعت ببعض الأوصاف الشريفة، فإن يخاف أن لا يكون قد اتصف بذلك، ويستغفر الله لمن أطلق عليه تلك الأوصاف.


(ج) إنه لا يهتم بمن جهله، ولا يقيم له وزناً.. إن هذه الصفات الماثلة في المؤمن تدب على سموّ ذاته، وكمال شخصيته.



نصائح رفيعة:


وقدم الإمام (عليه السلام) لبعض أصحابه هذه النصيحة الرفيعة قائلاً له:


(ليس لك أن تقعد مع من شئت فإن الله تبارك وتعالى يقول: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)(62)وليس لك أن تتكلم بما شئت فإن الله تعالى يقول: (ولا تقف ما ليس لك به علم)(63) ولأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (رحم الله عبداً قال خيرا فغنم أو صمت فسلم) وليس لك أن تسمع ما شئت، فإن الله تعالى يقول: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)(64).


إن الإنسان المسلم لو طبق على واقع حياته هذه النصائح الرفيعة لظفر بخير عميم وكان بمنجاة من الشقاء والشرور.



المواساة والإحسان:


كان الإمام (عليه السلام) يحث شيعته وأصحابه على المواساة والإحسان فيما بينهم لأنه خير ضمان لوحدتهم، واجتماع لكلمتهم، وقد أثر عنه كثير من الأخبار في ذلك وهذه بعضها:


1- قال (عليه السلام): (إن أرفعكم درجات، وأحسنكم قصوراً وأبنية - يعني في الجنة - أحسنكم إيجاباً المؤمنين، وأكثركم مواساة لفقرائهم، إن الله ليقرب الواحد منكم إلى الجنة بكلمة طيبة يكلم بها أخاه المؤمن الفقير، بأكثر من مسيرة ألف عام يقدمه، وإن كان من المعذبين بالنار، فلا تحتقروا الإحسان إلى إخوانكم، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره..)(65) لقد حث الإمام (عليه السلام) على مواساة الفقراء والإحسان إليهم، وذكر ما يترتب عليه من الأجر الجزيل عند الله، وعد من المواساة الكلمة الطيبة التي يقدمها الإنسان المسلم لأخيه، لأنها مما توجب شيوع المودة والألفة بين المسلمين.


2- قال الإمام (عليه السلام): (من بات شبعاناً وبحضرته مؤمن جائع طاو فإن الله تعالى يقول لملائكته: اشهدوا على هذا العبد أمرته فعصاني، وأطاع غيري، فوكلته إلى عمله، وعزتي وجلالي لا غفرت له أبداً..)(66).


ويعتبر هذا الحديث وأمثاله مما أثر عن أئمة أهل اليبت (عليهم السلام) من العناصر الرئيسية في بناء التكافل الاجتماعي الذي أسسه الإسلام، والذي يقضي - بصورة جازمة - على الفقر والحرمان.


3- قال (عليه السلام): (من كان عنده فضل ثوب فعلم أن بحضرته مؤمناً يحتاج إليه، فلم يدفعه إليه أكبه الله على منخريه في النار)(67).


إن الإسلام بكل اعتزاز وفخر يعتبر الفقر كارثة اجتماعية مدمرة، يجب القضاء عليه بكل السبل والوسائل، وقد حشد جميع أجهزته لإبادته، وإنقاذ المجتمع منه.


4- قال (عليه السلام): (إني لأستحيي من ريب أن أرى أخاً من إخواني، فاسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدينار والدرهم، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة لك لكنت با أبخل، وأبخل، وأبخل..)(68).


ويحكى هذا الحديث عن مدى تعاطف الإمام (عليه السلام) أمام قضايا البر والإحسان، وحثه عليهما.


5- قال (عليه السلام): (من أطعم مؤمناً حتى يشبع، لم يدر أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا الله رب العالمين.. وأضاف الإمام قائلاً: من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان(69)، ثم تلا قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيماً ذا مقربة * أو مسكيناً ذا متربة).


وفي هذا الحديث دعوة إلى إطعام الجائع، ودفع السغب عنه، وقد حث الإسلام على ذلك واعبره ضرورة إسلامية ملحة يسأل عنها الإنسان المسلم، ويحاسب عليها خصوصاً إذا كان الفقير في حاجة ماسة إلى الطعام.


6- قال (عليه السلام): (من قضى لأخيه حاجة قضى الله له مائة حاجة، ومن نفّس عن أخيه كربة نفّس الله عنه كربه يوم القيامة، بالغاً ما بلغت، ومن أعانه على ظالم له، أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومن سعى له في حاجة حتى قضاها له فسر بقضائها، كان كإدخال السرور على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن سقاه من ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن كساه من عري، كساه الله من إستبرق وحرير، ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسي من الثوب سلك، ومن كفاه ما أهمه أخدمه الله من الولدان، ومن حمله على راحلة بعثه الله يوم القيامة على ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة، ومن كفنه عند موته كساه الله يوم ولدته أمه إلى يوم يموت، ومن زوجه زوجة يأنس بها، ويسكن إليها آنسه الله في قبره بصورة أحب أهله إليه، ومن عاده في مرضه حفته الملائكة تدعو له حتى ينصرف، وتقول: طبت، وطابت لك الجنة.. والله لقضاء حاجته أحب إلى الله من صيام شهرين متتابعين باعتكافهما في الشهر الحرام..)(70).


إن هذه التعاليم الرفيعة التي أعلنها الإمام (عليه السلام) مما توجب تضامن المسلمين وشيوع المودة والرحمة والتعاطف بينهم.


7- قال (عليه السلام): (يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما يكون، وأجوع ما يكون، وأعطش ما يكون، فمن كسى مؤمناً في دار الدنيا كساه الله من حلل الجنة، ومن أطعم مؤمناً في دار الدنيا أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمناً في دار الدنيا شربة، سقاه الله من الرحيق المختوم..)(71).


إن الإسلام يحرص كل الحرص على إبادة الفقر والبؤس، ونفي الحاجة من المجتمع الإسلامي وقد ضمن الجزاء الأوفى في دار البقاء لمن يقوم بإسعاف أخيه وبره.


8- قال (عليه السلام): (من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً عن ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسى مؤمناً من عرى، لم يزل في ستر الله وحفظه ما بقيت منه خرقة..)(72).


إن هذه المبادئ التي رفع شعارها الإمام (عليه السلام) تمثل جوهر الإسلام وواقعه ولو طبقها المسلمون على واقع حياتهم لكانوا سادة الأم والشعوب.



صلة الأرحام:


وحث الإمام (عليه السلام) على صلة الأرحام، وحذر من قطيعتها، وذلك لما يترتب عليها من المضاعفات السيئة، قال (عليه السلام): (من سره أن يمد الله في عمره، وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمه، فإن الرحم لها لسان يوم القيامة، ذلق(73) تقول: يا رب صل من وصلني، واقطع من قطعني، فالرجل ليرى بسبيل خير إذا أتته الرحم التي قطعها فتهوى به إلى أسفل قعر في النار..)(74).


لقد تواترت الأخبار عن أئمة الهدى (عليهم السلام) في الحث على صلة الأرحام، وإنها توجب العمر المديد للإنسان، والمزيد من الرزق، والأجر الجزيل في الدار الآخرة فإنها توجب تماسك المجتمع، وشيوع المودة والصفاء بين المسلمين، وذلك من أهم ما يدعو إليه الإسلام.



الحب في الله:


دعا الإمام (عليه السلام) المسلمين إلى التحاب، والمودة فيما بينهم في الله تعالى خالصة لا يشوبها شيء من شؤون المادة التي لا تلبث أن تتلاشى، قال (عليه السلام): (إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى مناد يسمعه الناس يقول: أين المتحابون في الله؟ فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم عن العمل الذي جاوز به إلى الجنة، فيقولون: نحن المتحابون في الله، فيقولون: وأي شيء كان أعمالكم؟ فيقولون: كنا نحب في الله، ونبغض في الله فيقولون لهم: نعم أجر العاملين(75).


إن الحب في الله يوحد، ولا يفرق، ويجمع ولا يشتت، إنه ناشئ عن الإيمان العميق بالله.



الدعاء للمؤمن:


ودعا الإمام (عليه السلام) المؤمنين إلى الدعاء لإخوانهم بظهر الغيب، والثناء عليهم قال (عليه السلام):


(إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب أو يذكره بخير، قالوا: نعم الخ أنت لأخيك، تدعو له بالخير، وهو غايب عنك، وتذكره بخير، قد أعطاك الله مثلي ما سألت له، وأثنى عليك مثلي ما أثنيت عليه، ولك الفضل عليه، وإذا سمعوه يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه، قالوا له: بئس الأخ أنت لأخيك، كف أيها المستر على ذنوبه وعورته، وأربع على نفسك، واحمد الله الذي ستر عليك، واعلم أن الله أعلم بعبده منك..)(76) .


إن هذه السنن والآداب الكريمة مما تعزز وحدة المسلمين وتضامنهم وتوجب شيوع المودة والإخاء فيما بينهم.



جزاء أهل الفضل:


وحث الإمام (عليه السلام) أصحابه ودعاهم إلى إسداء الفضل والمعروف إلى الناس، كما دعاهم إلى التحلي بالصبر والتآزر فيما بينهم قال (عليه السلام): (إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل. فيقوم ناس قبل الحساب، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، فإذا سألوهم عما استحقوا ذلك، يقولون: كنا اذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين، ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر. فيقوم ناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم مثل الأول. فيقولون: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله عز وجل، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين، ثم ينادي مناد: ليقم جيران الله عز وجل، فيقوم ناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة فتسألهم الملائكة عما استحقوا ذلك، وما مجاورتهم لله عز وجل؟ فيقوون: كنا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتبادل في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين..)(77).


وفي هذا الحديث الشريف دعوة إلى التحلي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات التي توجب رفع مستوى الإنسان، وبلوغه ذروة الشرف والكمال.



الدعوة إلى الدين:


وتقدم رجل إلى الإمام (عليه السلام) فسأله عن الدعوة إلى الدين؟ فقال (عليه السلام) له: (أدعوك إلى الله تعالى، وإلى دينه، وجماعه أمران: الأول: معرفة الله، والآخر العمل برضوانه، وإن معرفة الله أن تعرفه بالوحدانية، والرأفة، والرحمة، والعلم والقدرة، والعلو على كل شيء، وأنه النافع، الضار، القاهر لكل شيء، الذي لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن ما جاء به هو الحق من عند الله تعالى، وأن ما سواهما هو الباطل، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين..)(78).


إن الدعوة إلى الدين، والدخول في حظيرته يتركزان أن على معرفة الله تعالى، والإيمان بوحدانيته والاعتراف بنبوة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ومن اعترف بكلا الأمرين جرت عليه أحكام الإسلام من حقن دمه وصيانة أمواله ومعاملته كبقية المسلمين.



التحذير من بعض المحرمات:


وحذر الإمام (عليه السلام) من اقتراف بعض الحرمات لأنها مما توجب بُعد الإنسان عن ربه، وتلقيه في شر عظيم قال (عليه السلام): (اتقوا المحرمات كلها، واعلموا أن غيبتكم لأخيكم المؤمن من شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله) أعظم في التحريم من الميتة، قال الله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)(79) وغن الدم أخف في التحريم عليكم أكله من أن يشي أحدكم بأخيه المؤمن من شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله) إلى سلطان جائر، فإنه يهلك نفسه وأخاه المؤمن، والسلطان الذي وُشي به إليه، وإن لحم الخنزير أخف تحريماً من تعظيمكم من صغر الله، وتسميتهم بأسمائنا أهل البيت، وتلقيبهم بألقابنا، وقد سماهم الله بأسماء الفاسقين، ولقبهم بألقاب الفاجرين، وأن ما أهل به لغير الله، أخف تحريماً عليكم من أن تعقدوا نكاحاً، أو صلاة جماعة، مع أعدائنا الغاصبين لحقوقنا، إذا لم يكن منكم تقية، قال الله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)(80) ومن اضطره اللهو إلى تناول شيء من هذه المحرمات وهو معتقد لطاعة الله فلا إثم عليه..(81) لقد حذر الإمام (عليه السلام) من اقتراف جميع المحرمات، وأكد بصورة خاصة على اجتناب المحرمات التالية:


(أ) الغيبة: لأنها توجب تصدع الوحدة الإسلامية، وشيوع الكراهية والبغضاء بين المسلمين، ومن المقطوع به أن من كان قلبه عامراً بالإيمان بالله فإنه يبتعد عنها، وكان الإمام (عليه السلام) يحذر منها في كثير من نصائحه، فقد قال له رجل: إن فلاناً ينسبك إلى الضلال والبدعة، فأنكر الإمام عليه ذلك وقال له: (ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت كلامه إلينا، ولا رعيت حقي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه، إن الموت يعمنا، والبعث محشرنا ويوم القيامة موعدنا، والله يحكم فينا، إياك والغيبة فإنها إدام كلاب أهل النار، واعلم أن من أكثر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنه إنما يطلبها بقدر ما فيه..)(82).


(ب) الوشاية بالمؤمن إلى السلطان الجائر: فإنها من أعظم الموبقات لأنها تؤدي إلى التدمير الشامل.


(ج) إضفاء الألقاب الكريمة التي تلقب بها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على الظالمين الذين أشاعوا الجور والفساد في ذلك العصر.


(د) الاتصال بالظالمين والعمل معهم فإن ذلك يؤدي إلى تقوية مركزهم وإعلاء شأنهم.. هذه بعض محتويات كلام الإمام (عليه السلام).



التحذير من الطمع:


دعا الإمام (عليه السلام) إلى التحرر من ذل الطمع، قال (عليه السلام): (رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس، ومن لم يرج الناس في شيء، ورد أمره إلى الله تعالى في جميع أموره، استجاب الله له كل شيء..)(83).


إن للطمع آفات خطيرة على الإنسان فهي تورده المهالك، وتلقيه في شر عظيم، والدعوة إلى التحرر منه إنما هي دعوة إلى الكمال، والسمو، والارتقاء.



شكر المحسن:


وأكد الإمام (عليه السلام) على ضرورة شكر المحسن، حتى لا يضيع المعروف، قال (عليه السلام): (إن الله تعالى يحب كل قلب حزين، ويحب كل عبد شكور ويقول الله لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟ فيقول: بل شكرتك يا رب فيقول الله سبحانه: لم تشكرني إن لم تشكره.


وأضاف الإمام بعد ذلك قائلاً: أشكركم أشكركم للناس..)(84) .


إن شكر المنعم والمحسن ضرورة إسلامية ملحة ليبقى المعروف والإحسان بين الناس، ويشجع المحسنون على عمل الخير والبر، وإسداء الخدمات الاجتماعية للناس.



الأمر بالمعروف:


ومن أبرز المبادئ الإسلامية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقد تبنى ذلك الاسم بصورة إيجابية، من أجل أن تسود العدالة الاجتماعية بين الناس، ولا يبقى منكر، ولا اعتداء، ولا ظلم، على واقع الحياة العامة بين الناس، وقد تواترت الأخبار عن أئمة الهدى (عليهم السلام) على ضرورته ولزومه، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): (التارك للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقي تقاة، فقيل له: ما تقاته؟ قال: يخاف جباراً أن يفرط عليه، أو أن يطغى..)(85).


إن الخوف من الجبار العنيد يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المكلف، وقد ذكر الفقهاء في رسائلهم العملية شروط القيام بهذا الواجب الإسلامي الخطير.



فضل الكلام على السكوت:


سال رجل الإمام (عليه السلام) عن السكوت والكلام، أيهما أفضل؟ فقال (عليه السلام): (لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات، فالكلام أفضل وانبرى إليه شخص فقال له:


(كيف ذلك يا ابن رسول الله؟).


فأجابه (عليه السلام):


(إن الله سبحانه لم يبعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحق الجنة بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، وما كنت لأعدل القمر بالشمس..)(86).



سعادة الإنسان:


وتحدث الإمام (عليه السلام) عما يوجب سعادة الإنسان في هذه الدنيا، فقال: (ومن سعادة المرء أن يكون متجره في بلاده، ويكون خلطاؤه صالحين، ويكون له ولد يستعين بهم)(87).


حقاً أن من ظفر بهذه الأمور فقد ظفر بخير الدنيا، وكان من السعداء فيها.



الجامع بين الأديان:


سأل رجل الإمام (عليه السلام) عن الإطار الجامع بين الأديان السماوية، فقال: (قول الحق، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد..)(88) وتشترك الأديان السماوية في هذه البنود الثلاثة التي هي قوام الحياة الاجتماعية، والتي رفع شعارها جميع الأنبياء والمرسلين.



خصال رفيعة:


وتحدث الإمام (عليه السلام) عن بعض الصفات الرفيعة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، والتي يكمل بها إسلامه قال (عليه السلام):


(أربع من كن فيه كمل إسلامه، ومحصت عنه ذنوبه، ولقي ربه عز وجل وهو عنه راض: ومن وفى لله عز وجل بما يجعل على نفسه للناس، وصدق لسانه مع الناس، واستحيا من كل قبيح عند الله وعند الناس، وحسن خلقه مع أهله..)(98) إن من يتصف بهذه الصفات الرفيعة فهو المؤمن حقاً المستكمل إيمانه، الذي يلقى الله وهو عنه راض.



علامات المؤمن:


قال الإمام (عليه السلام): (علامات المؤمن خمسة: فقال له طاووس اليماني: وما هي يا ابن رسول الله؟ قال: الورع في الخلوة، والصدقة في القلة، والصبر عند المصيبة، والحلم عند الغضب، والصدق عند الخوف)(90) إن هذه الصفات الخمس تدل على إيمان من يتصف بها، وإنه من عباد الله الصالحين الذين أترعت نفوسهم بالتقوى.



الكلام الحسن:


حث الإمام (عليه السلام) أصحابه على الكلام الحسن مع الناس، وذكر ما يترتب عليه من المنافع، قال: (القول الحسن يثري المال، وينمي الرزق، وينسأ في الأجل، ويحبب إلى الأهل، ويدخل الجنة..)(91).


وألم حديث الإمام (عليه السلام) بمعطيات القول الحسن، والكلم الطيب، والتي منها:


(أ) أنه موجب لتنمية المال وسعة الرزق. ويظهر أثر ذلك - بوضوح - عند ذوي الصناعات، وأهل الحرف والتجار، فإن الناس تتعامل بالشراء والتجارة مع من يقابلهم بالكلام الطيب من هؤلاء الأصناف، ومن الطبيعي أن ذلك مما يوجب زيادة دخل الفرد منهم، كما أن الطباع تنفر عن بذيء الكلام وسييء الخلق، الأمر الذي يوجب كساد سلعته، وضيق رزقه.


(ب) ومن ثمرات الكلام الطيب أنه ينسأ في الأجل، وذلك فيما إذا دفع ظلامة عن مؤمن أو أسدى له نفعاً، فإن الله تعالى يجازي صاحبه بزيادة العمر في الدنيا وجزيل الأجر في الآخرة.


(ج) ومن فوائد الكلام الطيب أنه موجب لأن يكون صاحبه عزيزاً ومحبوباً عند أهله وعارفيه، فإن النفوس تهفو إلى صاحب الكلام الحسن، والخلق الكامل.


(د) ومن منافعه أنه موجب للفوز بالجنة، وذلك فيما إذا كان صلاح ذات البين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.



طبقات الناس:


وتحدث الإمام (عليه السلام) مع زرارة بن أوفى عن طبقات الناس، فقال له: (يا زرارة، الناس في زماننا على ست طبقات: أسد، وذئب، وثعلب، وكلب، وخنزير، وشاة، فأما الأسد فملوك الدنيا يحب كل واحد مكنهم أن يغلب، ولا يُغلب، وأما الذئب فتجاركم يذمون إذا اشتروا ويمدحون إذا باعوا، وأما الثعلب فهؤلاء الذين يأكلون بأديانهم ولا يكون في قلوبهم ما يصفون بألسنتهم، وأما الكلب فهو الذي يهر على الناس بلسانه، ويكرمه الناس من شر لسانه، وأما الخنزير فهؤلاء المخنثون وأشباههم لا يدعون إلى فاحشة إلا أجابوا، وأما الشاة فالمؤمنون الذين تجز شعورهم، ويؤكل لحومهم، ويكسر عظمهم، فكيف تصنع الشاة بين أسد، وذئب، وثعلب، وكلب، وخنزير؟..)(92).


لقد نظر الإمام (عليه السلام) بعمق وشمول إلى المجتمع الذي عاش فيه فحلله إلى طبقات ست؛ وذكر خصائص كل طبقة بما ينطبق عليها، ولا يتخلف عنها.



التواضع:


أما التواضع فهو من محاسن الأخلاق التي يشرف بها الإنسان، وقد حث الإمام (عليه السلام) على التحلي به قال: (لا حسب لقرشي، ولا لعربي إلا بتواضع، ولا كرم إلا بتقوى، ولا عمل إلا بنية، ألا وإن أبغض الناس إلى الله عز وجل من يقتدي بسنة إمام، ولا يقتدي بأعماله..)(93).



اقتباس الحكمة:


ودعا الإمام (عليه السلام) إلى اقتباس الحكمة، ولو صدرت من منافق لأنها من مصادر الفكر والوعي الذي يحرص الإسلام على تطوره، قال (عليه السلام): (لا تحتقر اللؤلؤة النفيسة أن تجلبها من الكبا(94) الخسيسة، فإن أبي حدثني، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن الكلمة من الحكمة لتلجلج في صدر المنافق نزاعاً إلى فطانها، حتى يلفظ بها فيسمعها المؤمن فيكون أحق بها وأهلها فليقفها..)(95).



طينة المؤمن والكافر:


وأدلى الإمام (عليه السلام) في حديث له عن الطينة التي خلق منها المؤمن والكافر، قال: (إن الله عز وجل خلق النبيين من طينة عليين؛ قلوبهم وأبدانهم، وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة، وجعل خلق أبدان المؤمنين من دون ذلك. وخلق الكفار من طينة سجين؛ قلوبهم وأبدانهم فخلط بين الطينتين، فمن هذا يلد المؤمن الكافر، ويلد الكافر المؤمن، ومن ههنا يصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين تحن إلى ما خلقوا منه، وقلوب الكافرين تحن إلى ما خلقوا منه..)(96).


لقد استفاضت النصوص في أن الله تعالى خلق الإنسان من طين، قال تعالى: (هو الذي خلقكم من طين)(97) وقال تعالى: (وبدأ خلق الإنسان من طين)(98) وقد خلق الأنبياء والمؤمنين من أقدس البقاع وأطهرها، ولذلك كانوا هداة وقدوة، ومنقذين ومحررين للناس، وخلق الكفار والمنحرفين من أحط بقعة وأقذرها، ومن ثمّ كانوا حجر عثرة في تقدم الإنسان وتطوير حياته الاجتماعية.. وقد قضت حكمة الله تعالى أن تختلط هاتان الطينتان فيخرج منهما ما يعاكس ويباين طبيعتهما، فقد يولد من النبيين والمؤمنين بعض الشقاة والملحدين كنبي الله نوح، فقد ولد منه ضال عن الطريق، منحرف عن العدل، كافر برسالة أبيه، وقد أغرقه الله مع الكافرين؛ فأشفق عليه نوح فناجى ربه في شأنه فأجاله تعالى: (إنه ليس من أهلك أنه عمل غير صالح) كما أن بعض الكافرين والضالين قد يولد منهم المؤمنون والصالحون، وكان ذلك من نتاج اختلاط الطينتين كما قال الإمام (عليه السلام).



الصبر:


وحث الإمام (عليه السلام) على الصبر، قال: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له...)(99).


إن أعظم ما يتسلح به الإنسان أمام الأحداث والخطوب التي تداهمه هو التذرع بالصبر وإلجاء الأمور إلى الله تعالى، والرضا بما قسم، فإن ذلك جوهر الإيمان.



من أخلاق المؤمن:


وتحدث الإمام (عليه السلام) عن الصفات الشريفة التي يتصف بها المؤمن قال: (من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار(100) والتوسعة على قدر التوسع، وإنصاف الناس، وابتداؤه إياهم بالسلام عليهم..)(101).


إن من أخلاق المؤمن التوازن في حياته الاقتصادية، فلا يسرف عند الإقتار، ويتوسع عند السعة، كما أن أخلاق المؤمن إنصافه للناس، حتى من نفسه فإن ذلك دليل على ورعه، ومن أخلاقه ابتداؤه بالسلام على الناس فإنه ينم عن حسن أخلاقه، وعدم تكبره واستعلائه.



العصبية:


سئل الإمام (عليه السلام) عن العصبية التي هي من أخلاق الجاهلية، فقال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم)(102) لقد حدد الإمام (عليه السلام) العصبية الرعناء التي يأثم عليها صاحبها بهذا التحديد الرائع، وهو أن يرى الرجل شرار قومه ومجرميهم من خيار الناس وصلحائهم، وأن يعينهم على الظلم والبغي والاعتداء، فإن في ذلك تنكراً للحق، وسحقاً للقيم، أما حب الإنسان لقومه فإنه ليس من العصبية في شيء.



الاتقاء من الكذب:


وكان الإمام (عليه السلام) يحذّر أبناءه من الكذب، ويقول لهم: (اتقوا الكذب، الصغير منه والكبير، في كل جد وهزل. فإن الرجل إذ كذب في الصغير اجترأ على الكبير، أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقاً، وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذاباً..)(103).


لقد حذر الإمام (عليه السلام) من الكذب في كل شيء، لأنه من أفحش الجرائم وأكثرها مقتاً عند الله، كما أمر بالتحلي بالصدق لأنه مصدر لكل فضيلة وعنوان لكل شرف، وكرامة.



التثبت بالقول:


ودعا الإمام (عليه السلام) أصحابه إلى التثبت في القول، وأن يكونوا على علم مما يقولونه خيراً كان أو شراً قال: (لا يقول رجل: في رجل من الخير ما لا يعلم إلا أوشك أن يقال فيه من الشر ما لا يعلم..)(104).



العفة:


وحث الإمام (عليه السلام) أصحابه على التحلي بالعفة، واعتبرها من أفضل أنواع العبادة قال: (إن أفضل العبادة عفة البطن والفرج)(105).



القناعة:


أما القناعة فإنها من أسمى الصفات الإنسانية، فإذا تحلى الإنسان بها فقد استراح من هموم الدنيا قال (عليه السلام) فيها: (من قنع بما قسم الله فهو من أغنى الناس..)(106).


إن القناعة كنز لا يفنى، فمن قنع بما قسم الله فهو من أثرى الناس وأغناهم ومن أعظمهم راحة، وأقلهم همّاً.



من منجيات المؤمن:


وأدلى الإمام (عليه السلام) بما ينجي المؤمن قال: (ثلاث منجيات للمؤمن: كف لسانه عن الناس، وعن اغتيابهم، وشغله بما ينفعه لدنياه وآخرته، وطول بكائه على خطيئته..)(107).


من سنن الأنبياء وحكمهم:


وقصّ الإمام (عليه السلام) على أصحابه مجموعة من سنن الأنبياء وحكمهم، وقضاياهم، ليهتدوا بسيرتهم، ويستنيروا بسلوكهم، وفيما يلي بعض ما أثر عنه.



وصية الخضر لموسى:


روى الزهري أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: كان آخر ما أوصى به الخضر لموسى بن عمران أنه قال: لا تعيرن أحداً بذنب، وإن أحب الأمور إلى الله عز وجل ثلاثة: القصد في الجدة، والعفو في المقدرة، والرفق بعباد الله وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله عز وجل به يوم القيامة، ورأس الحكمة مخافة الله)(108).


ما أروع معاني هذه الحكمة!! وما أسمى مقاصدها، فقد أوصت بكل ما يسعد به الإنسان ويشرفه على كل كائن حي.



من وحي الله لموسى:


وحكى الإمام (عليه السلام) لأصحابه إحدى مناجاة الله تعالى مع نبيه موسى (عليه السلام) قال: أوحى الله إلى موسى: حببني إلى خلقي، وحبب خلقي إلي، فقال موسى: يا رب كيف أفعل؟ قال: ذكرهم آلائي، ونعمائي ليحبوني، فلا ترد آبقاً عن بابي، أو ضالاً عن فنائي. إن ذلك أفضل لك من عبادة مائة سنة، يصام نهارها، ويقام ليلها، قال موسى: من هذا العبد الآبق منك؟ قال الله: المتمرد، قال: فمن الضال عن فنائك؟ قال: الجاهل بإمام زمانه، والغائب عنه بعدما عرفه، الجاهل بشريعة دينه، تعرفه شريعته, وما يعبد به ربه تعالى، ويتوصل به إلى مرضاته(109).


لقد حث الإمام (عليه السلام) بهذا الحديث الدعاة إلى الله تعالى على بذل المزيد من الجهود لإنقاذ الناس من معاصي الله، وترغيبهم في طاعته، وأن لا ينفروهم من ذلك، وإن عملهم في هذا السبيل من أفضل الطاعات، وأحبها إلى الله.



حكمة في الإنجيل:


ونقل الإمام لأصحابه حكمة مشرقة من حكم الإنجيل، قال: مكتوب في الإنجيل، لا تطلبوا علم ما لا تعلمون، ولما تعملوا بما علمتم، فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزد صاحبه إلا كفراً، ولم يزدد من الله إلا بُعداً(110).


لقد دعا الإمام (عليه السلام) إلى العمل بالعلم، وأنه ليس من الحق في شيء أن يعلم الإنسان شيئاً ولا يعمل به، فإن ذلك لا يزيده إلا بُعداً من الله.



موسى مع عابد:


وحكى الإمام (عليه السلام) لأصحابه قصة موسى مع عابد، قال: مر موسى برجل رافع يده إلى السماء يدعو الله فغاب سبعة أيام، ثم رجع إليه فرآه رافعاً يده إلى السماء، فقال موسى: يا رب هذا عبدك رافع يده إليك يسألك المغفرة منذ سبعة أيام لا تستجيب له؟ فأوحى الله إليه: يا موسى لو دعاني حتى تسقط يداه، وينقطع لسانه ما استجبت له، حتى يأتيني من الباب الذي أمرته به(111).


أما هذا الحديث فيدعو كل إنسان يتوجه بعبادته إلى الله أن يسلك في طاعته من الأبواب التي عينها، ولا يتعثر في سلوكه وطريقه.



موسى مع الله:


قال الإمام (عليه السلام): سأل موسى بن عمران ربه تعالى: من أهلك الذين تظلهم بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك؟ فأوحى إليه سبحانه وتعالى: الطاهرة قلوبهم، والتربة أيديهم، الذين يذكرون جلالي، والذين يكتفون بطاعتي، كما يكتفي الصغير باللبن، والذين يأوون إلى مساجدي، كما تأوي النسور إلى أوكارها، والذين يغضبون لمحارمي إذا استحلت مثل النمر إذا حرد..)(112).


إن هذه الجماعة المؤمنة بربها من خيرة البشر في طهارة قلوبها، وفي سلامة ضمائرها ونياتها، فقد اتجهت بقلوبها وعواطفها نحو الله لا ترى غيره، ولا تؤمن إلا به، والله يجازيهم على ذلك فيظلهم بظله ويشملهم بلطفه، ويخصهم بفضله.



وفاة النبي:


وروى الإمام (عليه السلام) وفاة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما رافقها من الأحداث، ونسوق نص روايته. روى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن أبيه أبي جعفر، قال: دخل على أبي علي بن الحسين (عليه السلام) رجلان من قريش، فقال: ألا أخبركما عن رسول الله؟ فقالا: بلى، فقال سمعت أبي يقول: كان قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بثلاثة، بط عليه جبرئيل، فقال: يا أحمد أن الله تبارك وتعالى أرسلني إليك تفضيلاً لك، وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ فقال رسول الله: أدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، فلما كان اليوم الثالث هبط جبريل وملك الموت، وهبط معهما ملك من الهواء، يقال له إسماعيل، على سبعين ألف ملك. فسبقهم جبريل، فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ فقال: يا جبريل أجدني مغموماً، وأجدني مكروباً.


واستأذن ملك الموت على الباب، فقال جبريل: يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، فقال: إئذن له، فأذن له جبريل، فأقبل بين يديه، فقال: يا أحمد إن الله تبارك وتعالى أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك فيما أمرتني، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضها، وإن كرت، تركتها، فقال النبي: يا ملك الموت أتفعل ذلك؟ فقال: نعم، أمرت أن أطيعك في ما أمرتني به، فقال جبريل: يا أحمد إن الله تبارك وتعالى قد اشتاق إلى لقائك، فقال النبي: يا ملك الموت إمضِ لما أمرت به، فقال جبريل: يا أحمد هذا آخر وطأتي الأرض إنما كنت أنت حاجتي من الدنيا.


فلما توفي النبي (صلى الله عليه وآله) جاءتهم التعزية، جاءهم آت يسمعون حسه، ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة)(113) إن في الله تبارك وتعالى عزاءً من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله ثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


قال جعفر: قال أبي: قال علي: أتدرون من هذا؟ هذا هو الخضر(114) وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض البوادر من سنن الأنبياء وحكمه التي نقلها الإمام (عليه السلام) إلى أصحابه وتلاميذه.



الولاء لأهل البيت:


وأكد الإمام (عليه السلام) على ضرورة الولاء والمودة لأهل البيت (عليهم السلام) واعتبر ذلك عنصراً مهماً من عناصر الإسلام، فقد قال (عليه السلام) لأبي حمزة الثمالي:


(أي البقاع أفضل؟..).


وحار أبو حمزة في الجواب فقال:


(الله ورسوله أعلم..).


فأجابه (عليه السلام):


(إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلاً عمّر ما عمّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يصوم النهار، ويقوم الليل في ذلك الموضع، ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً(115)..


لقد تواترت الأخبار عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه (عليهم السلام) في أن ولاية الأئمة ضرورة إسلامية يسأل عنها المسلم في يوم حشره ونشره، ويحاسب عليها كما يحاسب على سائر الواجبات الإسلامية، وقد ذهب بعض العلماء أنها شرط في صحة العمل، لا في قبولهن كشرائط الصحة(116) في الواجبات.


وعلى أي حال فقد ذكر الإمام (عليه السلام) في حديث آ×ر ما يظفر به محبو أهل البيت من الأجر الجزيل في دار الآخرة، والدنيا، فقد وفد عليه جماعة من شيعته عائدين إياه، قالوا له:


(كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟.).


فأجابهم الإمام بلطف:


(في عافية، والله المحمود على ذلك، وكيف أصبحتم أنتم جميعاً؟).


فانبروا قائلين:


(أصبحنا والله محبين..).


فبشرهم بما يظفرون به من الجزاء الأوفى عند الله قائلاً:


(من أحبنا لله أدخله الله ظلا ظليلاً، يوم لا ظل إلا ظله، ومن أحبنا يريد مكافأة كافاه الله عنا الجنة، ومن أحبنا لغرض دنياه آتاه اله رزقه من حيث لا يحتسب..)(117).



حق النبي وعلي على المسلمين:


وأدلى الإمام (عليه السلام) في حديث له عن الحقوق العظيمة للنبي (صلى الله عليه وآله) ولوصيه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على هذه الأمة، قال (عليه السلام): (إن كان الأبوان عظم حقهما على أولادهما لإحسانهما إليهم، فإحسان محمد وعلي صلوات الله عليهما وعلى أبنائهما إلى هذه الأمة أجل وأعظم، فهما أحق أن يكونا أبويها..)(118).


إن للنبي (صلى الله عليه وآله) ولوصيه من الحقوق على هذه الأمة ما هو أعظم بكثير من حقوق الآباء، فقد حررا إرادة الأمة، وأنقذاها من العبودية وظلمات الجهل ومنحاها الحياة الحرة الكريمة، ولكن - من المؤسف - أن هذه الأمة لم تشكر ألطافهما، فقد عمدت إلى إقصاء العترة الطاهرة عن مراكز الحكم والقيادة وعمد حكامها إلى إبادتها بشكل رهيب في صعيد كربلاء، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): كان رسول الله ص مكفراً لا يشكر معروفه، ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي، ومن كان أعظم معروفاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هذا الخلق؟ وكذلك نحن أهل البيت مكفرون لا يشكر معروفنا(119).



سيادة أهل البيت على الناس:


سأل رجل الإمام (عليه السلام) فقال له: بماذا فضلتم على الناس جميعاً، وسدتموهم؟ فقال (عليه السلام): اعلم أن الناس جميعا لا يخلون من أحد ثلاثة: أما رجل أسلم على أيدينا فهو مولى لنا، يرجع إلينا ولاؤه فنحن سادته، وأما رجل قاتلناه، فقتلناه فمضى إلى النار، وبقي ماله مغنماً لنا وإما رجل أخذنا منه جزيته وهو صاغر، ولا رابع فأي فضل لم نحزه، وشرف لم نحصله؟)(120).


أكبر الظن أن الإمام (عليه السلام) إنما ساق حديثه هذا إلى شخص لا يقر بفضل أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يؤمن بسيادتهم المطلقة على جميع هذه الأمة، هذا وإن لهم من الفضائل والمواهب ما لا يحصى، وحسبهم فخراً أن الله أذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا، وفرض مودتهم على جميع الأمة، وقرنهم الرسول (صلى الله عليه وآله) بمحكم التنزيل، وجعلهم سفن النجاة وأمن العباد.



 


روائع الحكم القصار


أما حكم الإمام القصار فإنها تمثل الإبداع، وتطور الفكر، وأصالة الرأي، وتحكي خلاصة التجارب التي ظفر بها الإمام في حياته، وهي لا تقتصر على جانب خاص من جوانب الحياة، وإنما كانت شاملة لجميع مناحيها، لقد نظر الإمام الحكيم بعمق وشمول إلى جميع شؤون الإنسان، فوضع الحلول الحاسمة لجميع قضاياه وشؤونه.. وفيما يلي بعض ما أثر عنه من غر الحكم والآداب:


1- قال (عليه السلام): (من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا)(121).


ما أروع هذه الكلمة فقد حكت واقع الأحرار الذين هانت عليهم الدنيا في سبيل كرامتهم وعزتهم فلم يخضعوا للذل والهوان، وكان على رأسهم أبو الأحرار وسيد الشهداء الذي كرمت عليه نفسه فاستهان بالدنيا، فلم يصانع الظالمين، ولم يخضع لجبروتهم وحمل راية الكرامة الإنسانية، حتى استشهد، وهو مرفوع الرأس، موفور الكرامة.


2- قال (عليه السلام): (الخير كله في صيانة الإنسان نفسه)(122).


إن الخير بجميع رحابه ومفاهيمه في صيانة الإنسان لنفسه من المعاصي والذنوب والآثام التي تهبط به إلى واد سحيق ليس له قرار.


3- قال (عليه السلام): (ما أحب المؤمن معافى في الدنيا، وفي نفسه وماله، ولا يصاب بشيء من المصائب)(123) إن ما يصاب به المؤمن في هذه الدنيا من الخطوب والنكبات يكون كفارة لما اقترفه من الذنوب كما يكون زيادة في حسناته، ومن الطبيعي أن يحرم من ذلك إذا لم يصب بمصائب الدنيا.


4- قال (عليه السلام): (ضل من ليس له حليم يرشده، وذل من ليس له سفيه يعضده..)(124) إن الإنسان إذا لم يكن له حليم يرشده في مهمات أموره، ومعضلات شؤونه، تعثر في خطاه، وانساب في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة، كما أنه إذا لم يكن له سفيه يعضده، ويذب عنه فقد تعرض للذل والهوان.


5- قال (عليه السلام): (ويل لمن غلبت آحاده أعشاره) وسأل هشام بن سالم الإمام الصادق (عليه السلام) عن معنى هذا الحديث، فقال: أما سمعت الله عز وجل يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها)(125) فالحسنة الواحدة إذا عملها كتبت له عشراً، والسيئة الواحدة إذا عملها كتبت له واحدة، فنعوذ بالله ممن يرتكب في يوم واحد عشر سيئات، ولا تكون له حسنة واحدة فتغلب حسناته سيئاته)(126).


6- قال (عليه السلام): (اللئيم يأكل ماله الأعداء، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً..)(127).


إن اللئيم هو الذي يضن بماله، فلا يسعف به فقيراً ولا يعين به مسكيناً، فإن الله تعالى يحرمه منه، ويسلط عليه أعداءه، فينعمون بأمواله، وهو قد تحمل أوزارها.


7- قال (عليه السلام): (إن الجسد إذا لم يمرض يأشر(128) ولا خير في جسد يأشر..)(129).


إن الإنسان إذا كان في جميع فترات حياته يتمتع بصحة جيدة، ولم تلسعه الأمراض، فإنه من الطبيعي يكون في بطر وكفران للنعمة، ولا خير في جسد يكون كذلك.


8- قال (عليه السلام): (عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمداً بالحق نبياً لو أن قاتل أبي الحسين بن علي ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه..)(130) إن أداء الأمانة من أبرز الصفات التي ألزم بها الإسلام، واعتبرها عنصرا مهماً في خلق الإنسان المسلم فمن يخن أمانته ليس من الإسلام في شيء.


9- قال (عليه السلام): (أفضل الأعمال عند الله ما عمل بالسنة)(131).


إن من يعمل بالسنة فقد طبق الإسلام على واقع حياته، ومنهج سلوكه ومن الطبيعي أن ذلك من أفضل الأعمال، واحبها لله.


10- قال (عليه السلام): (لقد استرقك بالود من سبقك بالشكر..)(132) إن من سبق بالشكر على الإحسان الذي أسدي إليه، فقد استرق قلب المحسن إليه بالولاء والود.


11- قال (عليه السلام): (لا يكون الصديق صديقاً حتى يقطع لأخيه المؤمن قطعة من دينه يرقعها بالاستغفار..)(133).


إن الصداقة الخالصة في الإسلام هي التي تقوم على المحبة والأخوة في الله، ومن مستلزماتها - حسب هذا الحديث - أن يقوم الصديق بالاستغفار لصديقه.


12- قال (عليه السلام): (ضمنت على ربي أنه لا يسال أحد من غير حاجة إلا اضطرته المسألة يوماً إلى أن يسأل من حاجة..)(134).


إن السؤال من غير حاجة دليل على ضعف النفس وفقرها، وإن الله تعالى ليبلى هذا السائل بالبؤس والفقر فيضطر إلى السؤال.


13- قال (عليه السلام): (إياك، وما تعتذر منه)(135).


لقد حذر الإمام (عليه السلام) من اقتراف أي عمل يوجب الاعتذار منه، ومن الطبيعي أن ذلك سمت للعمل القبيح.


14- قال (عليه السلام): (إن الله جل جلاله يقول: وعزتي وعظمتي وجمالي، وبهائي، وعلوي، وارتفاع مكان لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا جعلت همه في آخرته، وغناه في قلبه، كففت عنه ضيعته، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وأتته الدنيا وهي راغمة)(136).


إن الله تعالى يحب العبد المؤمن الذي يؤثر طاعته على كل شيء، ولا ينقاد لهواه ورغباته النفسية، وأنه تعالى ليمنحه ألطافه ونعمه في الدنيا والآخرة.


15- قال (عليه السلام): (رب مغرور، مفتون، يصبح لاهياً ضاحكاً، يأكل ويشرب، وهو لا يدري لعله قد سبقت له من الله سخطه، يصلى بها نار جهنم..)(137).


لقد حذر الإمام (عليه السلام) من الغرور واللهو، وعدم المبالاة في معاصي الله، وهو لا يأمن من أن الله تعالى قد سخط عليه، وكتبه من أهل النار وهي الحياة الدائمة الشقية.


16- قال (عليه السلام): (سبحان من جعل الاعتراف بالنعمة له حمداً، سبحان من جعل الاعتراف بالعجز عن الشكر شكراً..)(138).


إن الاعتراف بنعم الله تعالى وألطافه هو حقيقة الحمد له تعالى كما أن الاعتراف بالعجز عن شكره هو واقع الشكر.


17- قال (عليه السلام): (طلب الحوائج إلى الناس مذلة للحياة، ومذهبة للحياء، واستخفاف بالوقار، وهو الفقر الحاضر، وقلة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر..).


من المؤكد أن الخضوع للناس، وطلب ما في أيديهم مما يجب الذل والهوان وذهاب الحياء، وهو دليل على فقر النفس وضعفها، فإن الشخص العزيز هو الذي يصون نفسه، ويصون كرامته، ولا يطلب من أحد سوى ربه.


18- قال (عليه السلام): (من عتب على الزمان طالبت معتبته..).


حقاً أن من يعتب على الزمان يطول عتابه له وذلك لكثرة خطوبه ونكباته ومآسيه خصوصاً مع الأحرار فإن ضرباته لهم متلاحقة، وقسوته معهم مستمرة.


19- قال (عليه السلام): (ما استغنى أحد من الناس إلا افتقر الناس إليه) إن من يستغني عن الناس بماله أو بعلمه فإن الناس تفتقر إليه، ولا تستغني عنه.


20- قال (عليه السلام): (الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بملكه..) لقد حكت هذه الكلمة واقع الكريم واللئيم، فالكريم يبتهج ويفخر بما يسديه إلى الناس من فضل وإحسان، أما اللئيم فهو يفر بما يملكه من الأموال والأمتعة التي يؤول أمرها إلى التراب، إذ ليست له أية صفة شريفة أو نزعة كريمة حتى يعتز ويفخر بها.


21- قال (عليه السلام): (استح من الله لقربه منك..) لقد دعا الإمام (عليه السلام) إلى الخوف من الله تعالى، وذلك لقدرته على جميع عباده، فإن جميع الموجودات والكائنات خاضعة لإراداته وتحت قبضته يتصرف فيها كيفما يشاء.


22- قال (عليه السلام): (لا تعادين أحداً، وإن ظننت أنه لا يضرك..) إنه ليس من الحكمة ولا من المنطق في شيء أن يعادي الإنسان أي أحد كان، وإن ظن أنه لا يضره، فإن الرشيد هو الذي يجذب القلوب إليه، ولا يدع أحداً يحقد عليه ويبغضه.


23- قال (عليه السلام): (لا تزهدن في صداقة أحد، وإن ظننت أنه لا ينفعك، فإنك لا تدري متى ترجو صديقك..).


إن من الحكمة ووفور العقل أن لا يزهد الإنسان في صداقة أي أحد لأنه لا يأمن أن يأتي عليه وقت يكون في حاجة إلى مناصرته ومساعدته.


24- قال (عليه السلام): (من اتكل على حسن اختيار الله عز وجل له لم يتمن غير الحالة التي اختارها الله له..).


إن من واقع الإيمان الاتكال على حسن اختيار الله، والرضا بقضائه، فإن من يؤمن بذلك ويطبقه على واقع حياته يكون من أسعد الناس، ومن أكثرهم راحة واستقراراً في عوالمه النفسية.


25- قال (عليه السلام): (لا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره، وإن علمت أنه كاذب) إن من مكارم الأخلاق قبول عذر المسيء، وعدم مقابلته بالمثل، فإن في ذلك جمعاً للكلمة واجتناباً للفرقة.


26- قال (عليه السلام): (ليقل عيب الناس على لسانك..).


من الآداب الإسلامية الرفيعة تنزيه اللسان عن ذكر عيوب الناس، وعدم ذكرهم إلا بخير.


27- قال (عليه السلام): (استعن على الكلام بالسكوت فإن للقول حالات تضر..).


لقد أوصى الإمام الحكيم بالسكوت وعدم الكلام في ما لا يعني الإنسان في أمر دينه ودنياه، فإن للكلام حالات مضرة ومهلكة في كثير من الأحيان.


28- قال (عليه السلام): (من رمى الناس بما هم فيه رموه بما ليس فيه..) إن من يتعرض لذكر الناس بسوء، وإن اتصفوا به، فإنهم يلصقون به من الصفات السيئة ما ليس فيه.


29- قال (عليه السلام): (خير مفاتيح الأمور الصدق، وخير خواتيمها الوفاء..) لقد أكد الإمام (عليه السلام) على لزوم التحلي بالصدق والوفاء فإنهما من أسمى الصفات التي يشرف بها هذا الإنسان.


30- قال (عليه السلام): (شهادة أن لا إله إلا الله هي الفطرة..).


إن الإيمان بالله والإقرار بوحدانيته هما الفطرة التي فطر عليه الإنسان وإنما يخرج عنها بالتربية الضالة، والبيئة المنحرفة فهما اللذان يهلكانه ويصدانه عن الطريق القويم.


31- قال (عليه السلام): (صلاة الفريضة هي الملة..).


إن الالتزام بأداء الصلاة المفروضة إقرار وتدين بملة الإسلام التي تعتبر الصلاة العلامة المؤشرة على الإسلام، والفارقة بين المسلم والكافر.


32- قال (عليه السلام): (طاعة الله هي العصمة..).


إن طاعة الله تعالى، واجتناب معاصيه هما العصمة من الشيطان والطهارة من الدنس والرجس.


33- قال (عليه السلام): (لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وشفاعة محمد (صلى الله عليه وآله)، وسعة رحمة الله)..


إن هذه الخصال الثلاث إذا دان بها المؤمن فإنها تقربه إلى الله زلفى، وتبلغ به إلى ساحات رحمته ورضوانه، أما شهادة التوحيد فإنها تخرجه من ظلمات الكفر، وأما شفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) فإنها تنقذه من الجحيم، وأما سعة رحمته فإنها قد وسعت كل شيء لدرجة تتطامن(139) إليها أعناق الفتاة العصاة يوم القيامة.


34- قال (عليه السلام): (إذا تكلفت عناء الناس(140) كنت أغواهم..).


إن من يتكلف لعناء الناس وقضاء حوائجهم لا بقصد القربة إلى الله، وإنما لدواعٍ أخرى بعيد عن الأهداف الخيرة فإنه يكون من أغوى الناس، ومن أكثرهم جهلاً.


35- قال (عليه السلام): (عجبت ممن يحتمي الطعام لمضرته، ولا يحتمي من الذنب لمضرته..)(141).


إن الحمية من الذنوب، وما يلحقها من عار، والفرار من المعاصي وما يليها من تبعات أولى من الحمية من الطعام المضر، لأن الذنب يجر الويل والشقاء في دار الآخرة التي هي دار الخلود والبقاء.


36- قال (عليه السلام): (إذا صليت فصل صلاة مودع..).


لقد دعا الإمام (عليه السلام) إلى التوجه والإقبال الخالص في أداء الصلاة، وأنه ينبغي للمسلم أن يؤديها كصلاة مودع للحياة.


37- قال (عليه السلام): (لكل شيء فاكهة، وفاكهة السمع الكلام الحسن..).


إن الكلام الطيب هو من أثمن ما يلقى على السمع، وهو فاكهته بل وفاكهة الحياة أيضاً.


38- قال (عليه السلام): (اللجاجة مقرونة بالجهالة..).


إن اللجاجة في الأمور تنشأ من الجهالة، وضيق الفكر، وعدم استيعابه لواقع الأمور التي مجرياتها بيد الله تعالى.


39- قال (عليه السلام): (سبب الرفعة التواضع..) إن الإنسان إنما يسمو ويرتفع شأنه إذا كان متواضعاً، دمث الأخلاق، وبذلك يسود غيره.


40- قال (عليه السلام): (كلكم سيصير حديثاً فمن استطاع أن يكون حسناً فليفعل..).


وقد نظم هذه الكلمة الذهبية ابن دريد بقوله:


وإنمــــــا المرء حديث بعده           فكن حديثا حسناً لمن وعى


41- قال (عليه السلام): (الحسود لا ينال شرفاً، والحقود يموت كمداً..).


إن الحسد داء خبيث قد لقى الناس في شر عظيم، فمن ابتلي به فقد معالي الأخلاق، وفارق كل صفة شريفة، كما أن الحقود على الناس يموت كمدا وغيظاً، حينما يرى نعم الل التي يسديها إلى الناس.


42- قال (عليه السلام): (فقد الأحبة غربة..).


إن فقد الأحبة من أقسى النكبات التي تدهم الإنسان، فإنه يبقى غريباً تطارده الهموم والآلام.


43- قال (عليه السلام): (الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين..).


إن من يرضى بما قسم الله له، وما كتبه عليه من الأحداث المذهلة فلا يجزع ولا يفزع، ويكون في راحة واستقرار نفسيين، إنه من المتقين الذين فوضوا إليه تعالى أمورهم، ورضوا بقضائه وحكمه.


44- قال (عليه السلام): (نظر المؤمن في وجه أخيه المؤمن للمودة والمحبة عبادة..).


إن الإسلام حث على المحبة والألفة، وحرم الاختلاف والفرقة، ومن الطبيعي أن نظر المؤمن إلى أخيه المؤمن بلطف وعطف، مما يوجب شيوع المحبة، وتوثيق الصلة بين المسلمين، وهو من أفضل أنواع العبادة في الإسلام.


45- قال (عليه السلام): (إذا التاجران صدقاً وبراً، بورك لهما. وإذا كذباً وخانا، لم يبارك لهما..).


إن من منميات التجارة الصدق في المعاملة، والبر بالناس، فإذا اتصف بهما التاجر بارك الله في سعيه، وزاد في رزقه، وإذا شذ عنهما، وسلك الطرق الملتوية، فإن نصيب يكون الخسران.


46- قيل للإمام (عليه السلام): إن الحسن البصري يقول: ليس العجب ممن هلك، كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا! فرد الإمام (عليه السلام) ذلك وقال: (أنا أقول: ليس العجب ممن نجا كيف نجا؟ وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله..).


إن رحمة الله تعالى قد وسعت كل شيء، ويطمع فيها حتى إبليس، والإمام أعرف بذلك وأدرى من الحسن البصري وغيره..


47- قال (عليه السلام): (إذا نصح العبد لله في سره أطلعه على مساوئ عمله، فتشاغل بذنوبه عن معايب الناس..).


إن الإنسان إذا خاف الله في سره، واجتنب معاصيه، فإن الله تعالى يفيض عليه بألطافه التي منها أنه يطلعه على مساوئ عمله، ويشغله بذلك عن ذكر معايب الناس، لينجو من تبعات غيبتهم التي هي من أفحش الذنوب.


48- قال (عليه السلام): (أقرب ما يكون العبد من غضب الله، إذا غضب).


إن الغضب مما يوجب هلاك الإنسان، ويخرجه عن توازنه، ويلقيه في شر عظيم، وإن أكثر الجرائم فظاعة القتل، وإنما يقترب - على الأكثر - في حال الغضب، وهو مما يوج غضب الله ومقته للعبد.


49- قال (عليه السلام): (للدابة على صاحبها ست خصال: يبدأ بعلفها إذا نزل، ويعرض عليها الماء إذا مر به، ولا يضربها إلا على حق، ولا يحملها إلا ما تطيق، ولا يكلفها من السير إلا طاقتها، ولا يقف عليها فواقا..)(142).


وأعلن الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث حقوق الحيوان على صاحبه وقد حفلت بالرحمة، والرافة، والمداراة الكاملة له، ولم تشرع المنظمات التي أسست للرفق بالحيوان مثل هذه الحقوق.


50- قال (عليه السلام): (إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو شكاً للمقدرة عليه، فإن العفو عن قدرة، فضل من الكرم..).


إن العفو عند المقدرة دليل على شرف النفس وسعة حلمها، وهو ضرب من الكرم والسخاء، وأما الانتقام فإنه ينم على اللؤم والخسة، وضيق النفس.


51- قال (عليه السلام): (إياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين..).


لقد حذر الإمام (عليه السلام) من صحبة العاصين لأن لها تأثيراً على سلوك الشخص، وانحرافه عن الطريق القويم، فإن الحياة الاجتماعية حياة تأثير وتأثر كما يقول علماء الاجتماع، كما حذر الإمام من معونة الظالمين لأن فيها نشوراً للجور، ومساعدة على تعميم الظلم.


52- سئل الإمام (عليه السلام) عن أعظم الناس خطرا؟ فقال: من لم يرض الدنيا لنفسه خطرا.


إن أصوب الناس فكرا، وأكثرهم حزما ووعياً هو الذي يرى نفسه أعظم من الدنيا، فلا يبيع آخرته بدنياه، وإنما يتجه صوب الله، ويعمل لآخرته فيوفر لها الزاد والمتاع.


53- قال (عليه السلام): (الرزق الحلال قوت المصطفين..).


إن الرزق الحلال الذي يكون من الوسائل المشروعة هو قوت الأخيار والمصطفين الذين يتحرجون كأشد ما يكون التحرج في مكاسبهم ومعاشهم فلا يأكلون إلا الحلال الطيب، ويمتنعون عما حرمه الله.


54- قال (عليه السلام): (أخذ الناس ثلاثة من ثلاثة، الصبر من أيوب، والشكر من نوح، والحسد من بني يعقوب..).


لقد اقتبس الناس هذه الخصال الثلاث من هؤلاء الأشخاص فهم الذين أسسوا أصولها وبنو قواعدها في هذه الحياة.


55- قال (عليه السلام): (ليس لك أن تتكلم بما شئت لأن الله تعالى يقول: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وليس لك أن تسمع ما شئت لأن الله عز وجل يقول: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا).


لقد حدد الإسلام الكلام السائغ الذي يتلفّظ به الإنسان وذلك في ما يرجع إلى تدبير شؤون الإنسان في معاملاته، وسائر أغراضه الأخرى المباحة، أما الكلام الذي يتكلم به لترويج الباطل وقو غير الحق فإنه حرام ومحاسب عليه، وكذلك حدّد الإسلام الكلام الذي يسمعه الإنسان، وهو الكلام الطيب، فاستماع الغيبة والفحش منهي عنهما، حتى أن الإنسان ليحاسب على أحاسيسه النفسية، ومشاعره القلبية.


56- قال (عليه السلام): (إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه) لقد دعا الإمام (عليه السلام) إلى التزين بالحلم الذي هو من أميز الصفات التي يتحلى بها الإنسان وأكثرها عائدة عليه، فإنه ينجيه من كثير من المشاكل والخطوب.


57- قال رجل للإمام: يا ابن رسول الله إني لأحبك في الله حباً شديداً، فقال (عليه السلام): (اللهم إني أعوذ بك أن أحب فيك، وأنت لي مبغض).


لقد استعاذ الإمام (عليه السلام) بالله تعالى من أن يحب من أجله، وهو له مبغض وقد دل ذلك على مدة نكرانه للذات، واعتصامه بالله، وانقطاعه إليه ورجائه لعفوه، ومرضاته.


58- قال (عليه السلام): (لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟).


إن العمل إذا كان مشفوعاً بالتقوى، فهو غير قليل، وكيف يقل، وهو مقبول عند الله تعالى؟.


59- قال (عليه السلام): (لو اجتمع أهل السماوات والأرض على أن يصفوا الله بعظمته لم يقدروا).


إن جميع من في دنيا الوجود لا يتمكنون أن يصفوا عظمة الله تعالى، إذ كيف يصل الممكن المحدود في قواه الفكرية، وسائر طاقاته إلى وصف تلك الذات الأزلي التي أبدعت خلق الأشياء، والتي لا يحيط بها إدراك.


60- قال (عليه السلام): (النجدة الإقدام على الكريهة، والصبر عند النائبة، والذب عن الإخوان..).


أما النجدة - وهي الشجاعة أو شدة البأس - فهي من أبرز صفات الرجال، والتي كان من مظاهرها الإقدام على الكريهة، (أي: الحرب) والصبر عند النائبة، (أي: المصيبة) والذب عن الإخوان. (أي: الدفاع عنهم).


61- قال (عليه السلام): (لا ينتفع البليغ بالقول مع سوء الاستماع..).


إن البليغ إذا لم يصغ لقوله، وقوبل بالإعراض، فإن بلاغته تذهب أدراج الرياح.


62- قال (عليه السلام): (لينفق الرجل بالقصد، وبلغة الكفاف، ويقدم الفضل منه لآخرته، فإن ذلك أبقى للنعمة، وأقرب إلى المزيد من الله تعالى، ونفع في العاقبة..).


لقد أوصى الإمام (عليه السلام) بالاقتصاد، وعدم الإسراف، وأن يبذل الفاضل منه لآخرته، فإن ذلك أبقى للنعمة، وأقرب إلى المزيد من الله تعالى، وأنفع في العاقبة..).


لقد أوصى الإمام (عليه السلام) بالاقتصاد، وعدم الإسراف، وأن يبذل الفاضل من الأموال إلى الفقراء والمحرومين، أو المشاريع العامة للبلاد، ويترتب على ذلك بقاء النعمة، والتقرب إلى الله تعالى، والظفر بالعاقبة الكريمة.


63- قال (عليه السلام): (إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله..).


وأثرت هذه الكلمة القيمة عن جميع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهي تحكي ما اتصفوا به من الرحمة والرأفة، ومقتهم لجميع أنواع الظلم والاعتداء على الناس خصوصاً على الضعفاء الذين لا يجدون ناصراً إلا الله، فإن الاعتداء عليهم من أفحش ألوان الظلم.


64- قال (عليه السلام): (بئس الأخ يرعاك غنياً، ويقطعك فقيراً..).


لقد ذم الإمام (عليه السلام) الرجل الذي يتودد لأخيه أو صديقه في حال غناه وثرائه، وينبذه إذا صار فقيراً، فإن ذلك ينم عن الانتهازية، وفقدان الشرف والكرامة من الإنسان.


65- قال (عليه السلام): (اعرف المودة من قلب أيك بما له من قلبك..).


إن الإنسان إذا أراد اختبار محبة أخ أو صديق له فعلي أن يفتش عن محبته له في نفسه، فإنه بقدرها يحبه ويخلص له.


66- قال (عليه السلام): (من كانت الآخرة همه كفاه الله هم الدنيا..).


إن من يعمل للآخرة، ويتقي الله تعالى فإنه يكفي أمر هذه الدنيا، ويريحه من كثير من مشاكلها.


67- قال (عليه السلام): (سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وسادة الناس في الآخرة الأتقياء..).


وليس من شك في أن الأسخياء هم سادة الناس، وخيارهم، وأشرافهم، كما أن سادة الناس في الآخرة هم الأتقياء، الصالحون.


68- قال (عليه السلام): (لو أنزل الله عز وجل كتاباً أنه معذب بجلاً واحداً لرجوت أن أكونه، أو أنه راحم رجلاً لرجوت أن أكونه، أو أنه معذبي لا محالة ما ازددت إلا اجتهاداً لئلا أرجع نفسي بلائمة..).


لقد أعرب الإمام (عليه السلام) عن عظيم خوفه ورجائه من الله تعالى، وأنه لو حكم عليه بالعذاب لما ازداد إلا اجتهاداً في طاعته وعبادته لئلا يرجع على نفسه بلائمة.


وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض روائع حكمه القصار، وبهذا نقفل الكلام عن مواعظه وحكمه.


 
 
الهوامش:


1- يجأرون: أي يتضرعون.


2- القداح: السهام بلا ريش ولا نصل.


3- أصول الكافي ج 2 ص 132، معالم العبر للنوري.


4- الدر النظيم ص 137 تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 46.


5- الخصال ص 64-65.


6- أمالي ابن الشيخ ص 410.


7 - الاختصاص ص 338.


8- البيان والتبيين ج 1 ص 84 زهر الآداب ج 1 ص 102.


9- الآزفة: أي القيامة.


10- سورة الأعراف: آية 200.


11- سورة النحل: آية 45-47.


12- سورة الأنبياء: آية 11.


13- سورة الأنبياء: آية 12.


14- سورة الأنبياء: آية 13.


15- سورة الأنبياء: آية14.


16- سورة الأنبياء: آية 47.


17- أي: في القرآن الكريم.


18- سورة يونس: آية 24.


19- سورة هود: آية 113.


20- تحف العقول ص 249-252 أمالي الطوسي ص 301 روضة الكافي ص 160 أمالي الصدوق ص 56 تنبيه الخواطر لابن ورام ص 225 البحار ج 17 ص 17، الطبعة الأولى.


21- الهامد: البالي.


22- وهيبة السلطان: لعل الصحيح ورهبة السلطان.


23- سورة فاطر: آية 25.


24- تحف العقول ص 252-255 أمالي المفيد ص 117 روضة الكافي ص 138.


25- الحين: الهلاك.


26- سورة المؤمنون: آية 100.


27- سورة إبراهيم: آية 14.


28- تضمير الخيل: حجبها عن الأكل حتى تهزل لتستطيع سبق الرهان.


29- سورة الأنبياء: آية 94.


30- سورة التغابن: آية 15.


31- سورة الحديد: آية 20-21.


32- سورة الحشر: آية 18-19.


33- سورة البلد: آية 8-10.


34- تحف العقول ص 272 - 274 البحار ج 17 ص 312 الطبعة الأولى.


35- روضة الكافي ص 158.


36- روضة الكافي ص 158.


37- الدر النظيم ص 137.


38- وخطك: أي أسرع، القتير: الشيب.


39- في العجز - كما لا يخفى - زحاف، ولعل الأصح: لنفسك عمداً أو عن الرشد جائر.


40- الدساكر: مفردها دسكرة وهي بناء كالقصر فيه الشراب والملاهي.


41- أي: العجل العجل.


42- البداية والنهاية ج 9 ص 109-113 تاريخ ابن عساكر.


43- الأصح: أموالاً.


44- الهمود: الموت.


45- الطامة: الداهية لأنها تطم كل شيء.


46- سورة النجم: آية 30.


47- لقد عرف الجاهليون هذا المثل.


48- تذكرة ابن حمدون ص 26.


49- زهر الآداب ج 1 ص 102.


50- الدر النظيم ص 173.


51- العتمة: هي وقت صلاة العشاء.


52- معاني الأخبار للصدوق ص 78.


53- معاني الأخبار للصدوق باب 136.


54- أصول الكافي: باب ذم الدنيا.


55- سورة الحديد: آية 57.


56- أصول الكافي: باب ذم الدنيا.


57- حب الكلام: الذي عناه الإمام هو حب الكلام فيما لا يعني الإنسان ولا يهمه.


58- تفسير الإمام العسكري ص 19 تنبيه الخواطر ص 316 الاحتجاج ج 2 ص 175.


59- سفينة النجاة.


60- تحف العقول ص 280 بحار الأنوار ج 17 ص 315 الطبعة الأولى، وروى بعض هذا الحديث في وسائل الشيعة ج 11 ص 272.


61- هذا من باب حفظ اللسان، وعدم الخوض في كل حديث، والإمساك في مواطن الشبهات، وتجنب مجالسة القوم الفاسقين.


62- سورة الأنعام: آية 68.


63- سورة الإسراء: آية 36.


64- سورة الإسراء: آية 36.


65- تفسير البرهان ج 1 ص 44.


66- عقاب الاعمال ص 30.


67- محاسن البرقي ج 1 ص 97.


68- سير أعلام النبلاء ج 4 ص 239 تهذيب الكمال ق 2 ص 338 مصور.


69- أي: الجائع.


70- ثواب الأعمال ص 81.


71- الإمام زين العابدين ص 194.


72- المؤمن ص 19 للحسين بن سعيد الأهوازي من مخطوطات مكتبة السيد الحكيم تسلسل 196 وقد قامت بتحقيقه ونشره مدرسة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) في قم سنة 1404 مع كتاب التمحيص للشيخ أبي علي محمد بن همام الإسكافي المتوفي سنة 336 هـ وقد ورد هذا الحديث تحت رقم 159 ص 63.


73- الذلق: اللسان الفصيح.


74- البحار.


75- وسائل الشيعة ج 11 ص 432.


76- أصول الكافي.


77- حلية الأولياء ج 3 ص 159 تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 46.


78- التهذيب للطوسي ج 2 ص 47.


79- سورة الحجرات: آية 11.


80- سورة البقرة: آية 173.


81- بحار الأنوار ج 7 ص 331 الطبعة الأولى.


82- مشكاة الأنوار ص 291 احتجاج الطبرسي ص 172.


83- أصول الكافي: باب الاستغناء عن الناس وسائل الشيعة ج 6 ص 314.


84- أصول الكافي: باب الشكر.


85- حلية الأولياء ج 3 ص 140 طبقات ابن سعد ص 2135.


86- الاحتجاج ص 172 الطبعة الأولى.


87- الخصال ص 245.


88- الخصال ص 109.


89- الخصال ص 203.


90- الخصال ص 245.


91- الخصال ص 289 وسائل الشيعة ج 5 ص 531.


92- الخصال ص 308.


93- الخصال ص 19.


94- الكبا: الكناسة.


95- البحار ج 1 ص 65 الطبعة الأولى.


96- أصول الكافي ج 2 ص 2.


97- سورة الأنعام: آية 2.


98- سورة السجدة: آية 7.


99- أصول الكافي ج 2 ص 89.


100- الإقتار: ضيق المعيشة.


101- أصول الكافي ج 2 ص 241 وسائل الشيعة ج 11 ص 149.


102- أصول الكافي ج 2 ص 08.


103- أصول الكافي ج 2 ص 223.


104- عيون الأخبار لابن قتيبة ج 1 ص 275.


105- الاختصاص ص 223.


106- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 187 جمهرة الأولياء ج 2 ص 7 وسائل الشيعة ج 11 ص 304.


107- الدر النظيم ص 174.


108- الخصال ص 106 الغايات ص 19 مخطوط.


109- البحار ج 1 ص 71 الطبعة الأولى.


110- أصول الكافي.


111- الإمام زين العابدين ص 202.


112- الإمام زين العابدين ص 202.


113- سورة آل عمران: آية 185.


114- التشوف إلى رجال التصوف ليوسف التالي ص 31-32.


115- الإمام زين العابدين ص 202.


116- كفاية الأصول للشيخ الآخوند.


117- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 192 الصراط السوي ص 193.


118- الإمام زين العابدين ص 202 نقلاً عن المحاسن للبرقي.


119- الوافي ج 3 ص 133.


120- غرر الأخبار ودرر الآثار للديلمي ص 80 مخطوط في مكتبة السيد الحكيم تسلسل 549.


121- تحف العقول ص 278.


122- تحف العقول ص 278.


123- التمحيص لأبي علي محمد بن همام الإسكافي ص 81 الهامش وقد ورد الحديث تحت رقم 12 ص32.


124- الإتحاف بحب الأشراف ص 75.


125- سورة الأنعام: آية 160.


126- معاني الأخبار: مخطوط للشيخ الصدوق في مكتبة السيد الحكيم.


127- نزهة الناظر ص 32 للحسين محمد الحلواني.


128- يأشر: أي يبطر.


129- حلية الأولياء ج 3 ص 134 تذكرة الحفاظ ج 1 ص 71.


130- دار السلام للنوري ج 2 ص 140.


131- الوافي ج 1 ص 67 الإمام زين العابدين ص 219.


132- نهاية الأرب في فنون الأدب ج 21 ص 331.


133- بهجة المجالس وأنس المجالس ج 1 ص 685.


134- وسائل الشيعة ج 6 ص 305.


135- كشف الغمة.


136- وسائل الشيعة ج 11 ص 222.


137- تحف العقول ص 282.


138- تحف العقول ص 283.


139- تشرئب وتتطاول وقد ورد في الحديث النبوي الشريف حول هذا المخدع: (إن لله رحمة يوم القيامة، يتطامن إليها إبليس بعنقه) وقد أشرنا إلى ذلك في تعليقنا على الحديث: رقم 46.


140- الأفضل: عداء.


141- الأصح: لمعرفته أي: عاره وفضيحته.


142- الفواق: بضم الفاء وفتحها ما بين الحلبتين من الوقت.
 

التعليقات (1)

  1. avatar
    حيدرالطائي

    شكرا على هذه المواضيع الجميلة ولكن نريد تقسيمها لكي يمكن ارسالها الى محبي اهل البيت مع التحيات

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع