شارك هذا الموضوع

كلمة الحكمة من أصول التشيع الثقافي – علم أهل البيت (ع)

عالجَت كلمة الحكمة (مَنْ مِثْلُكُمْ يا آلَ طَه) في العدد السابق من المجلة مسألة طبيعة علوم أهل البيت (ع) ومصدرها، ونفت نفياً قاطعاً تلقي الأئمة (ع) أيّ علمٍ من أيّ أستاذ ومعلم، لكن يبقى هنا سؤالٌ لابدّ من الجواب عنه، إكمالاً للصورة ومزيداً للتوضيح.
والسؤال هو: إنّ كلّ ما أرادت الكلمة السابقة إثباته هو أنهم لم يتلقّوا العلم من أيّ أحدٍ غيرهم، وإنّما تلقّى كلّ واحدٍ منهم تمام العلم من الإمام السابق، ولم يأخذ شيئاً من أيّ أحدٍ آخر، وهذا الكلام لا يثبت لهم فضيلة، لأنه لا يثبت عدم تلقيهم العلم من أحدٍ، وإنما إنهم لم يتلقوا إلا من عند أنفسهم، بمعنى أنّ كل إمامٍ كان يتلقى كل علمه من الإمام السابق، إلى أمير المؤمنين (ع) الذي تلقى كل علمه من رسول الله (ص).
فالخصوصية الثابتة لهم إنما هي التحديد في التلقي وليس نفي التلقي، والفضيلة والجانب الإعجازي في علمهم إنما تثبت إذا فرض أنهم لم يتلقوا العلم من أيّ أحدٍ أصلا، بمعنى عدم تلقي أيّ علمٍ من أيّ أحد حتى من الإمام السابق، وإما مع فرض تلقي كلّ واحدٍ منهم جميع علومه من الإمام السابق، فهذا يعني أن كل واحدٍ منهم - كأيّ إنسانٍ آخر - تلقى علومه من الغير، غاية الأمر ذلك الغير هو الإمام السابق فقط، فأين الفضيلة ؟
لقد أصبح علمهم كغيرهم مأخوذاً من الغير وليس مُلهماً له من الله تعالى، فأين تميزهم وخصوصيتهم عن غيرهم في مسألة العلم ؟

الجواب الأوّل: لسنا نعتقد ولم يقم دليلٌ عندنا على أنّ كل إمامٍ من أئمتنا كان يتعلم كل العلوم من سابقه في الإمامة، وإنما الذي نعتقد وقام عليه الدليل هو أنّ العلوم التي كانت موجودةً عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ (ع) كانت موجودةً عند الإمام الحسن (ع)، وهكذا بعد الحسن كانت موجودةً عند الإمام الحسين (ع)، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر (ع)، لا بمعنى أنها لم تكن موجودةً عند الإمام اللاحق مادام السابق حيا، بل قامت الأدلة على توفّرها عند اللاحق حتى مع كون السابق حيا.
والتعبير الوارد في أخبار أهل البيت (ع) بأنّها: (أصول علمٍ عندنا، نتوارثها كابراً عن كابر..) كما نقلنا ذلك في كلمة الحكمة في العدد السابق من المجلة، لا يُقصد به الإرث بمعناه، وإنّما أن تلك العلوم كانت مخزونةً عند كل إمامٍ لاحقٍ بعد الإمام السابق، ومن هنا عُبِّر عنه بالإرث، وإلا فالعلوم كانت موجودةً عند اللاحق حتى مع كون السابق حيا، وإن كان مِن أدبِهم أنّ لاحقَهم كان لا يجيب على شيءٍ من الأسئلة مع وجود سابقه حيا.
فقضية علمهم ليست أن اللاحق منهم كان يتعلم العلوم من السابق حتى يقال: بأن هذا أيضاً تعلم، غايته إنّه تعلّم من شخصٍ واحدٍ فقط، وهو الإمام السابق!
وإنّما هي أن كل العلوم كانت موجودةً عند كل لاحقٍ بعد كل سابق، ولم يكن هناك تعلمٌ بالمعنى الدارج، ولذا قلنا في الكلمة السابقة حول كيفية انتقال العلم بينهم: (ولم يكن الأخذ بطريق التعلم الدارجة، وإنّما بنحوٍ خاصٍ امتزج بالعناية الربانية والفيض الإلهي).
هذا، وقد شرحَت أخبارُ أهل البيت (ع) كيفية هذا الفيض الربّاني، لكننا لسنا الآن بصدد شرح ذلك، لأنّه بحثٌ مطولٌ لا يتناسب مع الاختصار المفروض على كلمة الحكمة.
والنتيجة: أن ما جاء في السؤال، من أنّه : (وأما مع فرض تلقي كل واحدٍ منهم جميع علومه من الإمام السابق، فهذا يعني أنّ كل واحدٍ منهم - كأيّ إنسانٍ آخر - تلقى علومه من الغير، غاية الأمر ذلك الغير هو الإمام السابق فقط، فأين الفضيلة؟
لقد أصبح علمهم كغيرهم مأخوذاً من الغير وليس مُلهماً له من الله تعالى، فأين تميزهم وخصوصيتهم عن غيرهم في مسألة العلم)؟
كان جوابه: إنّه لم يكن هناك تلقٍ للعلوم بينهم، ولم يكن هناك تلقٍ من اللاحق عن السابق بالنحو الدارج من التلقي بين الناس.

الجواب الثاني: لنفترض جدلاً أنّه كان هناك تلقٍ بينهم وإنّ كل لاحقٍ كان يتلقّى العلوم من سابقه، فأيضاً الفضيلة والتميُّز والخصوصية ثابتةٌ لهم في مسألة العلم.
ويمكن أن نتبصَّر ذلك من خلال أنه بناءً على هذه الفرضية فكل العلوم الكثيرة - من الشرعيات إلى غيرها، والتي أقرَّ بها لهم أحباؤهم وأعداؤهم – التي كان يملكها كل إمامٍ كانت مأخوذةً من الإمام السابق، إلى أن ينتهي الأمر عند أمير المؤمنين علي بن ابي طالبٍ (ع)، أي أن مصدر كل علوم الأئمة الأحد عشر (ع) من علي بن أبي طالبٍ (ع)، ومن هو علي بن أبي طالب (ع)، وما آفاق علمه، وما مصدر علومه؟
إننا نأخذ الجواب على هذه الأسئلة من رسول الله (ص) الذي هو أعرف بعلي (ع) من غيره، إن أحاديث الرسول (ص) الثابتة والمُسلَّمة والمتواترة بين الفريقين تجيب على هذا السؤال، ومن جملة تلك الأحاديث المُسلَّمة والمتواترة بين الفريقين (حديث مدينة العلم)، والذي قال فيه رسول الله (ص):
(أنا مدينة العلم، وعليٌ بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب). (1)
والحديث مرويٌ في مصادر كثيرةٍ جدّاً من كتب الفريقين، وقد توسَّع العلامة الأميني (ره) في جمع أسماء الحفاظ الذين رووا الحديث، وأنهاهم الى (143) شخص من الحفاظ والرواة، واستقصى أسماء من حكموا بصحة الحديث من الحفاظ فأنهاهم إلى (21) شخصا، ومن شاء التوسع فبإمكانه مراجعة موسوعة الغدير.(2)
ومن جملة من حكم بصحة هذا الحديث هو الحاكم النيسابوري في كتابه (مستدرك الصحيحين)، حيث قال بعد ذكر الحديث المتقدم:
(هذا حديث صحيح الاسناد).(3)

رسالة هذا الحديث
والذي نستفيده من هذا الحديث الشريف واضحٌ لا يحتاج إلى توضيح، فالنبي (ص) مدينةٌ من العلم بفضل تعليم الله تعالى إياه، والوصول إلى كل ذلك العلم وسيرته وسنته وأقواله وأفعاله لا يمكن إلا من خلال باب المدينة الذي هو عليٌ (ع)، فالرسالة التي بعثها رسول الله (ص) من خلال هذا الحديث إلى كل أمته واضحة:
إن شئتم علومي فطريق الوصول إليها يمرُّ بعلي (ع)، ومفتاحها عنده.
ومن بعد عليٍ (ع) انتقلت تلك العلوم الى الأئمة المعصومين الأحد عشر من بعده، وعلى هذا الأساس وعلى ضوء ما تقدم يثبت أنّ علوم أئمتنا (ع) ليست هي إلا ما علَّمها وأودعها رسول الله (ص) عند عليٍ (ع)، فعلومهم هي علوم الرسول (ص)، ولا أضمن حقانيةً وصدقاً ودقةً من علوم رسول الله (ص) التي ليست هي إلا الوحي من الله تعالى، وهكذا ألم يثبت أنّ علوم أئمتنا (ع) ليست إلا علوم رسول الله (ص)، وليست إلا الوحي الحق؟
هذه فضيلتهم وخصوصيتهم وتميّزهم، فمن شاء الحق فهو عندهم، ومن أراد الهداية فعلى دربهم، ومن شاء النور فعندهم وهم مصدره.

قال الله العزيز:
(اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 35 فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ 36 رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ 37 ِليَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ 38)(4)
ومن شاء العلم فهم معدنه لا يغيب عنهم شيءٌ من علوم الأنبياء كلهم، لعدم غيابها عن رسول الله (ص).

--=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-
الهوامش:
1. مستدرك الصحيحين - الحاكم النيسابوري، 3 / 126.
2. الغدير في الكتاب والسنة والأدب، 6 / 61 – 79.
3. مستدرك الصحيحين - الحاكم النيسابوري، 3 / 126.
4. سورة النور/ 35 – 38.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع