شارك هذا الموضوع

إِذَا انْقَضَى العِيْدُ فَإِنَّ الحِنَّاءَ لِلْجُدْرَان

إِذَا انْقَضَى العِيْدُ فَإِنَّ الحِنَّاءَ لِلْجُدْرَان


نَسَخَت أزمة العراق الصيغة التقليدية للعلاقات المحلية والإقليمية والدولية للأنظمة . وقد أدى ذلك لأن تتحول تبعات الناسخ والمنسوخ إلى معادلة غير مستوية من العلاقات المضطربة؛ ومجالاً حصرياً لثقافة العجول السَّامِريّة ولازمتها الأخـلاقية (يُشَبِّهْن مُقبلات ويُعْرَفْنَ مُدْبِرات) . ما يسترعي الانتباه في هذه (المَلْعَنَة) السياسية هو أن تظهير العداء المُنفلت من عقاله بجنون أرعن قد تَمَازَج فيه السياسي بالديني، والكَهْفَنةُ بالصَّيْعَنَة، ولم يعد غريباً (أو مُستَهجَناً حتى) لأن تتحول النظرة إلى الولايات المتحدة وإرثها الكولونيالي المُصَان من بلدٍ محتل وله ما له من الذاكرة البائسة في عقول العرب إلى قيمة سياسية " ناعمة " تتم مفاضلتها بجيرة الإيرانيين (أو المجوس هكذا تحلوا التّسمية للبعض) التي باتت عبئاً لا يُطاق بالنسبة لجيوب متعددة في الطيف السياسي العراقي فضلاً عن العربي من خارج الحدود، وهي أصلٌ لا يَحتَمِل التأويل لمسار الحرب البديلة التي بشّر بها سيمون هيرش نقلاً عن مسامرات صقور المحافظين الإدارة الأميركية . ومن يتتبع هذا التحول فقد يرى عجباً، فالمتحاملون على طهران مُتواطئون مع منطق هلامي منفوش وغير مفهوم، ويطرحون إشكاليات قد تبدو طلاسم وألغاز بالنسبة للكثيرين ... إذ كيف يُعقل (حسب رأيهم) أن يكون الائتلاف العراقي الموحّد (الشّيعي) حليفاً لعدوين متنافرين (إيران وأميركا) ؟ وكيف يُمكن للإيرانيين أن يكونوا أنداداً للأميركيين في لبنان ومُحاورين لهم في العراق ؟! وإذا كان هذا الإشكال لا يزال مُستعصياً على متبنيه؛ ويمخر في اتجاه التسقيط فإن الأمر راجع لعدم إدراك حقيقة القوة الإيرانية في المنطقة، وإذا كان البعض قادراً على استيعاب محاورة واشنطن لعناصر بعثية في العراق وعلى رأسها عزّة إبراهيم الدوري طمعاً في أن تُقلل من خسارتها هناك، فكيف لا يستطيع أؤلئك أن يستوعبوا اللقاءات الأميركية الإيرانية بشأن العراق للغرض ذاته ! وفي التحالفات كيف تستقيم العلاقة الناعمة بين سُنّة لبنان مع الولايات المتحدة في الوقت الذي يُكْتَوَى السُنّة في بغداد بتعميرة السلاح الأميركية ؟! وكيف تستقيم علاقة هيئة علماء المسلمين في العراق العدو الطارئ للأميركيين مع المملكة العربية السعودية الحليف التقليدي للولايات المتحدة ؟! وكيف يستقيم تحالف تُركمان العراق بتركيا مع حفاظهم على علاقتهم الحسنة مع الأكراد الذين هم أعداء خُلّص للأتراك فـي أنقرة ؟! وكيف يستقيم القبول الأميركي بإعادة تشكيل أجزاء من منطقة كردستان التي قُسمت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حسب اتفاق سيفر ما بين العراق وتركيا وإيران وبالتالي قيام حكم كردي مُستقل في الوقت الذي يُضِرّ ذلك تركيا التي هي أيضاً حليف استراتيجي لواشنطن، وفي الخارج كيف تستقيم علاقة اليابان التاريخية (وهي الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأدنى) مع الحكم العسكري في ميانمار (أو كمبوديا) التي تُعتبر بطناً سياسياً وآيدلوجياً مُناكفاً لواشنطن في جنوب القارة ؟! لذلك فإن الحديث عن العلاقات الباردة غير المبنية على أساس التدافع والتعاون والتنافس، والمُصيّرة آلياً نحو مدماك استراتيجي أو مؤقت من التحالفات والتناكفات؛ لم يعد له قيمة موازية لنقيضها إذا ما تمّ احتساب مُجمل الأرباح والخسائر المُرقّمة في معادلة المصالح بين الدول، من الجهة الأخرى وكما يقول الباحث جمال زهران في بحثه حول منهج قياس قوة الدول فإن " هناك علاقة ارتباطية بين درجة فجوة القوة في التوازن الإقليمي واستمرار حال الصراع، أو التعاون في لحظة زمنية معينة، بمعنى أنه كلما تلاشت فجوة القوة، كلما اقتربت الأطراف نحو الحل الشامل والعادل، وكلما وجدت فجوة القوة واتسعت لصالح أحد طرفي الصراع كلما اقتربت المنطقة في حال الحرب، أو سلام مؤقت يجسد هذا الخلل " وإذا ما تمّت مراجعة هذا المنطق وإسقاطه على واقع الحال في العراق فإن الصيغة الأقرب ستكون أن هذا البلد الذي تُحيطه من الشمال كل من الكويت والمملكة العربية السعودية، ومن الجنوب تركيا، ومن الشرق كل من سورية والأردن ومن الغرب إيران قد تجاوزته الدول العربية (إرادياً) وآثرت التفرّج على نظام المصالح الجديد الذي أفرز قيمة إضافية على مجاميع كانت على هامش السياسة الإقليمية والدولية إلى ما قبل العام 1990، وبشكل أقل حتى العام 2002، ولأن هذه المجاميع هي صنو غير مألوف لهذه الدول، بل إن الودّ بينهما مفقود أو مُصَادَر لأسباب تتعلّق بالمذهبية والعلاقة المتداخلة بين تلك المجاميع وبين العملاق الإيراني في مواطن معينة؛ فإن الكثير من الأنظمة العربية أحجمت عن استيعاب مثل هذه المعادلة المُعقّدة، وتُرِكَ العراق من دون عُمق عربي وازن لإيقاعات القوة والنفوذ، وأصبح الحديث عن اختلالات في الحصص الإقليمية واضحاً، وهو جزء من أخطاء عربية غائرة بدأت من القضية الفلسطينية واللبنانية وانتهت حتى تخوم الملف العراقي، وبالتالي فإن إحجام الكثير من الدول العربية عن تصفير اعتراضاتها بشأن إيجاد مدخل إلى السياسة العراقية الداخلية والخارجية سيعني فتح المجال أمام الآخرين لأن يملأوا هذا الفراغ وبالذات الإيرانيين لأسباب مختلفة . وإذا كانت الأطياف السياسية العراقية قد تجاوزت (وبسهولة) التاريخ الدموي للإمبريالية الأميركية في أرضهم وما أعملته من حصارٍ ظالم لأكثر من عقدٍ كامل على الشعب العراقي راح ضحيته مئات الآلاف من الأطفال والنساء مصحوباً بحربين مُدمّرتين (1991 و 2003) استُخدمت فيهما أبشع أنواع السلاح التقليدي وغير التقليدي، وإذا كان العرب قد استطاعوا تجاوز العربدة الأميركية في ملفاتهم وقضاياهم وانحيازها الصارخ للكيان الصهيوني في الحرب والسلم فلماذا لا يستطيعوا تجاوز مشكلتهم مع إيران بشأن العراق مع وجود مشتركات في الجغرافيا والدين واللغة ؟! بقيت نقطة أخيرة يجب الإشارة إليها، وهي أن ما يُسمّى بحلفاء إيران داخل العراق هم في الأساس غير مُهيئين لأن يخدموا طهران داخل العراق لسبب وجيه وهو أن وجودهم في السلطة مرهون بالقبول الأميركي لهم، وإذا ما رأت واشنطن أنهم قد حوّلوا العراق إلى حديقة خلفية لطهران فإن مآلهم لن يكون أفضل من حال أحمد الجلبي الذي ركنه الأميركيون جانباً بتهمة تهريب شفرة عملهم الاستخباراتي العسكري في العراق، وقد يكون تحذير بوش الإبن لنوري المالكي خلال زيارته الأخيرة لطهران وسورية دليلٌ على سعي الإدارة الأميركية لتأطير علاقة حلفائها في العراق بإيران وفق مصالحها الحيوية والمباشرة، من دون أن نغفل أن الحاكم الحقيقي في العراق هو الأميركي وليس أحداً غيره، فالحكومة التي لا تستطيع الإفراج عن تسعة عشر ألفاً من المعتقلين في السجون الأميركية داخل الأراضي العراقية هي حكومة بتراء، والساسة الذين لا يستطيعون ردّ الاعتبار للعراقيين الذين أهينوا ومُثّل بهم في سجن أبي غريب على أيدي مُجندات هم ساسة يملكون ولا يحكمون، وبالتالي فإن إعادة النظر في مثل هذه القضايا بين فينة وأخرى هو أمر مطلوب .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع