شارك هذا الموضوع

الإسلام محمدي البدء ، حسيني البقاء

إن من أمعن النظر وسير غور الوقائع التاريخية في يده الديانة المقدسة الإسلامية وفلسفة نشوها وارتقائها، وانتشارها واعتلائها، وجد أقوى الأسباب العادية بعد العناية الربانية، الوجود المحمدي وكفاحه وتحمله الأذى في سبيل الدعوة الحقة، حتى ورد ما أوذي نبي مثل ما أوذيت، وسيف الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ومواقفه المشهورة، ومساعيه المشكورة، بحيث لولا كفاحه وصفاحه لما أخضّر للإسلام عود، ولما قام له عمود، وكذلك من أعطى التدبر حقه وأمعن النظر في أسباب انتشار مذهب التشيّع، واتساع نطاقه، وارتفاع رواقه، لم يجد له سبباً حقيقياً، وسراً جوهرياً، سوى شهادة الإمام أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) بذلك الشكل الغريب، والوقع الهائل، ولولا شهادته (سلام الله عليه) لكانت الشريعة أموية، ولعادت الملة الحنيفية يزيدية، فحقاً أقول: أن الإسلام محمدي وعلوي، والتشيّع حسيني.


أقول وحقاً ما أقول: إن من ليس له حبل ولاءٍ خاص إلى علي (صلوات الله عليه) فليس من الإسلام على شيء، ومن ليس له حبل ولاءٍ خاص بالحسين (سلام الله عليه) فليس من التشيع على شيء.


ولعل من هنا تجد أن لكل شيعي علقة خاصة مع الحسين (عليه السلام) ليست له مع غيره من سائر الأئمة (سلام الله عليهم) مع أنه يعتقد بإمامتهم وفرض طاعتهم.


نعم، قد كان لنفس النبي (صلى الله عليه وآله) ولذات الأئمة (عليهم السلام) علقة خاصة بالحسين بخصوصه ليست لبعضهم مع بعض، فلقد كانت لهم لهجة خاصة بذكره، يعرفها من أنس بإخبارهم، ووقف على بعض أسرارهم، وهذه ميزة قد امتاز سلام الله عليه بها، ومزية قد تفرّد هو فيها، وكانوا جميعاً يشيرون إلى أن الحسين (عليه السلام) هو مستودع ذلك السر الإلهي الذي يستبين به الدين ويميّز الله به الخبيث من الطيب؛ والحق من الباطل. وما تبين الرشد من الغي، والهدى من الضلال، إلا الحسين (سلام الله عليه)، وإلا فقد ارتبك الأمر بعد النبي على عامة المسلمين واختلط الحابل بالنابل، والحق بالباطل، سيما بعد صلح أخيه الحسن (سلام الله عليه) الذي كان أيضاً بأمر من الله سبحانه، ولكن نهض الحسين (سلام الله عليه) تلك النهضة الباهرة فقشع سحب الأوهام؛ وانتزع النور من الظلام، وأصحر بالهدى لطالبه، وبالحق الضائع لناشده.


وهذه إحدى المزايا التي امتاز بها وتفرّد وكان من قبله من الأئمة ومن بعده يشيرون إليها، ويدلّون الناس عليها، وكانت نسبته إليهم في تلك على حد قول القائل:


ولست ترى في محكم الذكر سورةً ***تقوم مقام الحمد والكل قرآن


ويتفرّع من هذه المزية مزايا تفوت حدّ العدّ؛ ويحصر عنها لسان الحصر؛ كان من مزاياه التي انفرد بها؛ وامتاز عن غيره فيها:


أنه ربما رآه وكلّمه أعدى عدوٍ له فانقلب أكبر محب له.


وحسبك بحديث زهير بن القين وكان عثمانياً أبغض شيء إليه أن ينازل الحسين (عليه السلام) في منزل فما اجتمع به وكلمه بضع كلمات حتى طلّق الدنيا وزوجته وفداه بنفسه، ولا تحسب أن هذه من منفردات الشيعة ورواياتهم، فإن في كتب علماء السنة قد يوجد ما هو أعجب من ذلك.


هذا مجد الملك بن شمس الخلافة أحد وزراء العلماء في مصر، المتوفى في حدود الستمائة على ما ذكره ابن خلكان في ترجمته، ذكر في كتاب له ألّفه في محاسن المحاضرة وآداب المسامرة فقال: إن عصام بن المصطلق وكان شامياً أموياً قال:


دخلت المدينة فرأيت الحسين بن علي (سلام الله عليهما) ومعه غلمانه وحاشيته فأعجبني سمته ورواؤه؛ وحسنه وبهاؤه؛ وأثار الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض فجئت إليه وقلت له: أنت ابن أبي تراب؟ فقال: نعم.


فبالغت في شتمه وشتم أبيه.


فنطر إليّ نظرة عاطف رؤوف برقة ورحمة، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم، إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذّكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون)[سورة الأعراف: الآية 200 ـ 202].


ثم قال لي: خفّض عليك، استغفر الله لي ولك، إنك لو استعنتنا لأعنّاك. ولو استرفدتنا لرفدناك، ولو استرشدتنا لأرشدناك.


قال عصام: فندمت على ما قلت وتوسّم مني الندم على ما فرض مني فقال: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)[سورة يوسف: الآية 92].


ثم قال (عليه السلام): أمن أهل الشام أنت؟


قلت: نعم.


فقال: شنشنة أعرفها من أخزم، حيّانا الله وإياك انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجدنا عند أفضل ظنك إن شاء الله...


قال عصام: فضاقت عليّ الأرض بما رُحبت ووددت لو أنها ساخت بي، ثم انسللت من بين يديه لواذاً وما على وجه الأرض أحب إليّ منه ومن أبيه.


انتهى ما علق بخاطري من ذلك الكتاب وكم لهذه الواقعة من نظائر لا يسعها المقام ـ ولكن من عرف للحسين (عليه السلام) بعض هاتيك المزايا والخصوصيات لا شك أنه يستقل في عزائه الكثير، ويستحقر الأمر الخطير، ويرى دون ما يستحقه كل تلك الشعائر والمظاهرات، والمواكب والنزعات.


نعم وإذا كان الشامي الأموي بنظرة واحدة وكلمات معدودة يعود وما على وجه الأرض أحب إليه من الحسين وأبيه، فما عذر الشيعي في إبداء الوهم والتشكيك في المواكب الحسينية والشؤون العزائية؟


وأما والله لولا استمرار تلك الشعائر، وقيام أعواد هذه المنابر، واستدامة التوجّع والتفجّع، لانطمست أعلام التشيع؛ ولكني أختم كلمتي هذه بالآية الشريفة التي استشهد بها سلام الله عليه حيث قال: (إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون)[سورة الأعراف: الآية 201 - 202].


نسأله تعالى أن يمن علينا بنفوذ البصيرة، ونزع بذور الأغراض من لوح السريرة، لنرى الحقائق كما هي إن شاء الله والسلام.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع