شارك هذا الموضوع

مَـنْ قـــَالَ «ألــف» قَـــالَ «بـــاء»

مَـنْ قـــَالَ «ألــف» قَـــالَ «بـــاء»


لم يعد مُمكناً للولايات المتحدة الأميركية أن تذهب بعيداً في التعاطي الحاد مع الملفات الإيرانية في المنطقة وخارجها ما دامت طهران تتفنّن في تفرّعها السياسي والاقتصادي مع جوارها العربي والإسلامي عبر الملفات الثلاثة الساخنة (العراق، لبنان وفلسطين) ومع القوى الفاعلة خارج الإقليم من جهة الشرق حيث منظمة شنغهاي وعضويتها الكاملة فيها وعبر تزويد الهند بسبعة ملايين ونصف المليون طن من الغاز، والصين بمئة مليون طن بمدة تزيد عن الخمسة وعشرين عاماً وبقيمة تصل إلى سبعين مليار دولار، وفي جهة الشمال حيث التغلغل الإيراني (الأحفوري) هناك عبر تصدير الغاز إلى تركيا وأرمينيا ونخجوان بثلاثمئة مليون متر مكعّب، وتسوير مشكلات آسيا الوسطى عبر المساعدة في إنهاء الحرب الأهلية في طاجيكستان ومحاولة حسم الصراع الآذربيجاني - الأرمني حول إقليم " ناغورنو كاراباخ " في مطلع تسعينات القرن الماضي طمعاً في الاقتراب من خط الأنابيب الواصل بين نفط أذربيجان وبحر قزوين والأسواق العالمية الرئيسية في شمال أوروبا، وفي الغرب ما بعد الخليج عبر النفوذ داخل شمال ووسط وجنوب القارة السمراء وصولاً إلى تسوية الأوضاع مع الجزائر وتونس بعد توتر العلاقات إبّان حقبة التسعينات، وفي الجنوب حيث أفغانستان التي " التهمها " الإيرانيون بدبلوماسية ناعمة ذكية، فأمّنوا المستطيل الجغرافي من طوروس إلى المحيط الهندي والذي تكون أفغانستان في خاصرته الجنوبية الشرقية كمفتاح لآسيا، وإنهاء قلاقل نهر هِلْمَنْد (1,295 كم) وروافده الممتدة من منطقة بهسود الهزارة حتى إيران، وفتح ميناء جديد بالتعاون مع الهند لنقل البضائع إلى الأسواق الأفغانية من ميناء بندر عباس الإيراني بدلاً عن ميناء كراتشي الباكستاني، والمساهمة في ترميم الطرق وتدريب القوات الأفغانية .


هذه الحصيلة من الترتيبات الإيرانية في المنطقة جعلت من طهران قادرة على تحدي الظروف التي تفرزها الدبلوماسية القاسية وخصوصاً من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية بطريقة أكثر ديناميكية، في الوقت الذي تُمسك فيه طهران بكل الأوراق من خلال وضعها الجغرافي الذي لا يتطلّب منها المناورة بحمولات لوجستية مرهونة بقفزات غير مأمونة العواقب كالتي تقوم بها واشنطن في ملفاتها الملتهبة في المنطقة (أفغانستان والعراق مثالاً) .


طهران استفادت من التغييرات الاستراتيجية التي صاغتها حروب وتحالفات مغايرة بدأت في التشكّل منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 الأمر الذي أمّن لها حدوداً هي في الأساس عاملاً نوعياً لحسم الصراعات المباشرة لللاعبين الجدد، وقدرتها على استغلال الظروف الجديدة لملء أي فراغ تتركه القوى المتهالكة (من غُرمائها) تحت الضربات العسكرية الأميركية المُركّزة، فانهارت طالبان التي أرادت حرباً (مذهبية) مع الجمهورية الإسلامية من دون أن تُحرّك طهران لواءً واحداً من جيشها، وسقط نظام صدام حسين من دون أن يُطلق الإيرانيون طلقة واحدة في الهواء (حتى) وعندما احتلت القوات الأميركية الأراضي العراقية في العام 2003 كان الإيرانيون قد فعّلوا علاقاتهم التي نسجوها مع الحُكّام الجُدد في بغداد والذين كانوا لاجئين لديها طيلة ربع قرن، كما أن سياستهم في العراق كانت مزدوجة عبر عدة مستويات، فهم يقيمون علاقات دبلوماسية كاملة تتيح لهم ممارسة أنشطة سياسية واقتصادية وثقافية علنية كما فعلت فيما يتعلق بالقروض الاقتصادية وطباعة الكتب الدراسية وتصدير المواد الغذائية ومنتجات البناء، ومن جهة أخرى يُصعّدون الهجمات المُسلّحة ضد القوات الأميركية والبريطانية منذ البصرة وحتى كركوك عبر المجموعات المسلّحة الثمانية وأربعون، وأيضاً حمايتهم ودعمهم للمجاميع والأحزاب الشيعية، ويكفي أن نعرف أن رجال الحماية لمراجع التقليد في مدينة النجف الأشرف وكربلاء هم من فيلق بدر التابع للمجلس الإسلامي العراقي الأعلى وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني .


وبالتالي فإن الطلب الأميركي لإجراء محادثات بشأن العراق مع طهران لم يكن إلاّ بعد أن تيقّنت الولايات المتحدة بحقيقة الوجود الإيراني داخل العراق، بل إن المُطلعين على ما جرى داخل كواليس تلك المحادثات يتحدثون عن قدرة المفاوض الإيراني على تثبيت قضايا كانت محل خلاف بين طهران وواشنطن التي أرادت في وقت سابق استبدال حكومة المالكي بحكومة يقودها إياد علاوي بدعم من دول عربية، إلاّ أن طهران أصرّت على بقاء حكومة الائتلاف الذي يقودها نوري المالكي واعتبرت ذلك خطاً أحمر، بل إن الخارجية الإيرانية ذهبت أبعد من ذلك عندما قالت قبل أيام على لسان المتحدث باسمها إن " الكثير من الموضوعات بخصوص أمن وصلاحيات الحكومة العراقية في الكثير من القضايا بما فيها الملف الأمني قد طرحت في المحادثات وتقرر أن يتشاور الوفدان الإيراني والأميركي مع حكومتيهما والحكومة العراقية لاتخاذ القرارات اللاحقة " .


إن هذه المفاوضات هي قبل كل شيء اعتراف أميركي وبريطاني بالقوة الإيرانية في العراق وليس تفسيراً آخر، وهي تُفسّر إلى حد ما طبيعة السلوك الأميركي في تعاطيه السياسي مع الحوادث وما تُعمله منظومة المصالح والمتغيرات في التكتيك، ففي العراق مثلاً باتت الولايات المتحدة تدعم العشائر السُّنيّة في الأنبار بحجّة مواجهة تنظيم " القاعدة " وفي الوقت نفسه تقاتل جيش المهدي وتعتقل أبرز قادته، بل إن القوات الأميركية رفضت طلبات أكثر من 600 شاب من جنوب بغداد للالتحاق بصفوف الجيش والشرطة الأسبوع الماضي غالبيتهم من الطائفة الشيعية، بل إن أحد مراكز التجنيد في المحمودية شهد عملية طرد جماعية مطلع الأسبوع الماضي لمجندين من الشيعة الذين يُشكّلون 65 في المئة من الجيش العراقي، أضف إلى ذلك فإن قادة الفرق والألوية في الجيش العراقي غالبيتهم من السنّة، إضافة إلى سبعين في المئة من مديريات الشرطة في بغداد، إذ إن لوزارة الدفاع إحدى عشرة فرقة عسكرية، يقود أربعاً منها الشيعة وثلاثاً الأكراد، فيما يقود السنّة الباقي، كما أن رئيسي جهاز المخابرات واستخبارات وزارة الدفاع وسكرتيرها هم من السنّة، لكن وفي الوقت نفسه نرى الدعم القوي من قِبل واشنطن للسياسيين الشيعة الذين يُمسكون بزمام الحكم في العراق، وبالتالي لا يُمكن لنا أن نُثبّت بأن الانحياز الأميركي للسُنّة في الجيش العراقي هو انتصار للسُّنة في قبال الشيعة، وأن الدعم الأميركي للشيعة في الحكم هو انتصار لهم في قبال السُّنّة! وعليه فإن المفاوضات الأميركية الإيرانية ليست كما يُصوّرها البعض بأنها تكريس لاحتلال " فارسي " بقدر ما هي مسألة مُعقّدة جداً تتعلق بموازين القوى ونظام المصالح في العراق وفي المنطقة عموماً، والعض بالنواجذ على مكتسبات تحققها الأطراف المتنازعة وهو ما يُفسره حجم التراشق الذي يعقب كل محادثات تجرى بين الجانبين منذ الثامن والعشرين من مايو/ أيار الماضي والتصعيد على الأرض لرفع سقف المطالب .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع