شارك هذا الموضوع

كـالـهِـرِّ يـَحْـكِـي انـتـِفـَاخـاً صـَولـَةَ الأَسـَدِ

كـالـهِـرِّ يـَحْـكِـي انـتـِفـَاخـاً صـَولـَةَ الأَسـَدِ


كان المشهد في طهران عصر الرابع من إبريل/ نيسان الجاري وبحسب وكالات الأنباء كالآتي : « قبيل عقد المؤتمر الصحافي للرئيس محمود أحمدي نجاد فُرضت إجراءات أمنية مشددة بجانب مقر مجلس الوزراء بالمجمّع الرئاسي الإيراني، تولّتها وحدات خاصة من الحرس الثوري (الباسدران) التي ارتدَت عناصرها بزّات سوداء وهم مدججون بالسلاح، وطوّق عدد منهم سيارات (فان) من طراز مرسيدس لمنع مشاهدة مَن في داخلها، وبعيد انتهاء المؤتمر الصحافي للرئيس وإعلانه قرار الإفراج عن البحّارة البريطانيين الخمسة عشر استقبلهم نجاد في الغرف الخلفية لمجلس الوزراء، وكان الجنود وقتها يرتدون بزّات رسمية رمادية اللون من دون ربطات عنق، فيما ارتدت المُجنّدة فاي تورني قميصاً أحمر مخططاً بالأبيض وفوقه سترة من الجينز على سروال فضفاض، وبعد وداع إيراني رسمي في صالون الشرف المخصص للضيوف والشخصيات الرسمية بحضور السفير البريطاني في طهران جفري أدامز ومساعد وزير الخارجية الإيراني لشئون غرب أوروبا مجيد قهرماني، صعد البريطانيون المُفرج عنهم إلى الطائرة محمّلين بهدايا قدمها لهم الرئيس الإيراني وقيادة الحرس الثوري، هي عبارة عن حلويات إيرانية من كرز وفستق ومزهريات من صناعة يدوية، وردوا على تحية الرئيس بكلمة شكر باللغة الفارسية ثم أقلعت طائرة البريتش أيرويز من مطار مهرآباد الدولي في طهران متوجهة نحو مطار هيثرو بلندن « ليُسدل الستار على واحدة من أهم الحوادث الساخنة التي سيطرت على المشهد الإقليمي والعالمي طيلة نصف شهر. وسواء أكانت مكالمة «الثلثاء» ما بين سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني والمستشار الدبلوماسي لرئيس الوزراء البريطاني نايجل شاينوالد هي التي فتّتت جليد أزمة البحّارة البريطانيين الخمسة عشر أم لم تكن؛ فإنهم (أي البحّارة) الآن أحرار، لكن السؤال «السّر» الذي يبقى مُسيطراً على أذهان الجميع : كيف انتهت هذه الأزمة فجأة كما بدأت ؟ ومن كان فيها الرابح ومن كان الخاسر ؟ وهل ما زال البعض يعتقد بـأن طهران كانت تُريد من أزمة البحارة أن تَسِير ولمدة ثلاثة عشر يوماً بهذا المنسوب الدبلوماسي والإعلامي ؟! وكيف عصرت القيادة الإيرانية آخر قطرات الاستثمار السياسي من تلك الأزمة؟ هذه مجموعة التساؤلات التي كانت ومازالت تُطرح، لأنها في نهاية المطاف تعبّر عن تجربة سياسية من نوع خاص .


بعد خطاب الرئيس أحمدي نجاد والذي أعقبه قرار الإفراج؛ خرجت طهران أمام الرأي العام العالمي بأنها صاحبة المبادرة القادرة على إنهائها متى ما كان السقف مؤاتياً، وأن ما قامت به يُشكّل خطوة «إنسانية» دفعت بالمعنيين وغير المعنيين لأن يُرحّبوا بخطوتها تلك ابتداءً من الأمين العام للامم المتحدة مروراً بالاتحاد الأوربي وانتهاءً بالبيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، بل إن بريطانيا حُشِرت في زاوية المدين لهذا العمل بعد أن كانت تتمنّع حتى في التعاطي الثنائي لحلّ الأزمة . البريطانيون «وغيرهم» قد تلقّوا رسالة صريحة، من أن طهران قادرة على إيذائهم في المنطقة، وأنها مازالت تُشكّل الخصم الذي يجمع لديه الأوراق الإقليمية المؤثرة وإن لم يَحِن أوان استخدامها ليُوظفها بشراسة في الدفاع عن مصالحه . طوني بلير حاول في أيام الأزمة الأولى إشراك أطراف أخرى كمجلس الأمن والاتحاد الأوروبي بغية تدويل القضية استجداءً لمزيد من الضغط على طهران، بل إن الحكومة البريطانية لم تفوّت صديقاً ولا عدواً إلاّ ورجته التدخل، فطلبت بداية من أنقرة للتوسّط، ثم لجأت إلى دمشق العدو العنيد لها للتوسّط لدى حليفها الإستراتيجي، بل إن الأنباء ذهبت أبعد من ذلك عندما ذكرت أن لندن قد وصلت حذاء دول الخليج والمنظمّات الإسلامية الشيعية (المجلس الأعلى) والسُنّية (حماس) على حدّ سواء للتوسط أيضاً، إلاّ أن هذه الدبلوماسية المتشنّجة ارتدّت عليها بطريقة عكسية، واضطرت للرجوع إلى ذات الطلب الإيراني القاضي بإجراء مباحثات ثنائية مباشرة . كانت سياسة طهران تقضي بأن يتم استثمار القضية بشكل مُزدوج وعلى عدة جبهات، أولاً : إبقاء الأزمة بالمستوى الذي يستطيع فيه توتير أسعار النفط لدفعها نحو الصعود، وهو ما حصل خلال الأسبوع الأول من الأزمة عندما وصلت أسعار النفط إلى مستوى 69.14 دولاراً للبرميل وتالياً إلى مستوى 66 دولاراً، بمعنى أن طهران جنت وفي خلال أقل من سبعة أيام أكثر من نصف مليار دولار كفائض على الأسعار الأصلية وتكلفة الإنتاج والتسويق الخاصة بـها، وثانياً : تمّ توظيف الآلة الإعلامية الإيرانية عبر عرض الصور المتلاحقة للجنود البريطانيين لإحراج حكومة بلير وإرغامها على القبول بلائحة الطلبات الإيرانية في طريقة التعاطي مع الأزمة وهو ما حصل فعلاً وبالتحديد بعد إعلان مجموعة من ضباط وزارة الدفاع البريطانية السابقين بأن الجنود الخمسة عشر كانوا بالفعل داخل المياه الإقليمية الإيرانية، وبعد ما بثّته شبكة سكاي نيوز التلفزيونية من تصريح للكابتن كريس إير قائد الزورق الذي أسره الإيرانيون بأن مهمتهم كانت جمع معلومات استخباراتية عن النشاطات الإيرانية في الخليج، وهو التصريح الذي أُخِذَ عنه قبل احتجازه والبحارة بساعات . ثالثاً: كانت طهران تودّ من طريقة إدارتها للأزمة أن تُحجّم أي رغبة لدى القوات الأجنبية الموجودة في الخليج للقيام بضربة عسكرية لمنشآتها النووية أو الصاروخية، وأن مقدمات تلك الضربة ستكون وخيمة العواقب فضلاً عن تداعياتها اللاحقة، وهو ما دفع بالبحرية البريطانية لأن تُعلّق عملياتها لمراقبة السفن وتفتيشها في شمال الخليج إلى حين مراجعة قواعد الاشتباك في المنطقة، بل إن الوفد العسكري البريطاني الذي زار طهران لإجراء مباحثات بشأن البحارة مازال موجوداً هناك لمناقشة وضع أسس تفاهم والاتفاق على أساليب التعامل بين الطرفين، وتحديد صلاحيات كل طرف وحدود نفوذه في المياه الإقليمية بين إيران والعراق . رابعاً : استطاعت طهران من خلال هذه الأزمة الدخول في مقايضة سريعة وناجزة لتسوية مصير السكرتير الثاني في سفارتها ببغداد جلال شرفي الذي اختطفته قوة عراقية أميركية مشتركة في الثالث عشر من فبراير/شباط الماضي، وأيضاً الحصول على معلومات عن دبلوماسييها الخمسة الذين اعتقلوا في أربيل في يناير/ كانون الثاني الماضي من قبل القوات الأميركية، وتحريك ملفهم، وهو بالتحديد ما عبّر عنه وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري قبل ثلاثة أيام، وهنا نتساءل : إذا لم تكن هذه صفقة كما ينفي الجميع، فلماذا لم تتمهّل واشنطن يومين وتُبقي على جلال شرفي لديها لكي لا يُفَسَّر إطلاق سراحه والبحارة مازالوا محتجزين على أنه صفقة ؟! ولماذا لم تتمهّل إدارة بوش وتُؤجّل لقاء الدبلوماسي الإيراني المنتدب من السفارة الإيرانية في بغداد بالدبلوماسيين الخمسة المعتقلين لديها في أربيل ؟! خامساً : ربما حصلت طهران ومن خلال أزمة الرهائن على مجسّات لمدى جدّية الخيار العسكري الذي قد تتخذه الولايات المتحدة ضدها والذي بدا فاتراً للغاية خلال أسبوعي الأزمة، بل وحتى عندما أعلن من وزارة الحرب الصهيونية أرييه هرتسوغ من أن نظام صاروخ حيتس (السهم) المضاد للصواريخ المستخدم حالياً، قادر من دون شك على مواجهة التهديدات العملانية في الشرق الأوسط ولاسيما تلك التي تأتي من إيران وسورية؛ لم تتفاعل معها أطراف الأزمة في الغرب، بل بالعكس كانت التصريحات البريطانية والأوروبية وخصوصاً بعد اليوم العاشر من الأزمة هادئة وداعية للحوار.


الغريب من كل ذلك أن المندوب الأميركي السابق لدى مجلس الأمن جون بولتون وهو اليميني المتطرف قد صرّح بُعيد إطلاق سراح البحارة البريطانيين الخمسة عشر بأن «نجاد قد خرج من هذه المعركة منتصراً، فقد تمكن من الفوز في عملية احتجاز البحارة أولاً، كما فاز مرة ثانية عندما اتخذ وحده قرار إطلاق سراحهم» .


 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع