شارك هذا الموضوع

دراسة أثرية ونقدية في عصمة النص القرآني من التحريف عند الشيعة الإمامية

بمناسبة أسبوع الوحدة


النص القرآني وعصمته من التحريف عند الشيعة الإمامية .. دراسة أثرية ونقدية


تستجد الحاجة بين الحين والآخر إلى مراجعة مواقف الأئمة عليهم رضوان الله فيما يتصل بسلامة النص القرآني، وما يروّجه بعض الكتاب من تهم ملفّقة بهدف الإساءة إلى فريق من الأمة بدافع من التعصب الطائفي، ولكنها في المآل ليست إلا إساءة واضحة للقرآن الكريم الذي أكد الله تعالى معصوميته من أن يصيبه تحريف أو تبديل، وذلك بنص الكتاب العزيز : " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " . وقد كثر الجدل في مسألة سلامة النص القرآني عند علماء الشيعة، واتخذها بعض الناس سبباً للطعن في إيمان القوم ووصمهم بالزندقة، واعتقاد النقص والزيادة في كتاب الله، ولا بد من القول هنا بأن الحديث في سلامة النص القرآني مروي عن علماء من الطائفتين، وهناك خلط بين ثلاثة أنواع من الروايات : الرواية في تعدد القراءات، والرواية في محاولة التحريف والتبديل التي عصم الله منها الكتاب العزيز، والرواية التي يدل ظاهرها على وقوع التحريف والتبديل ولا بد من مناقشة كل على حدة للوصول إلى اليقين فيه .
وفيما روي عن علماء السنة فإن الحافظ ابن أبي داود السجستاني قد جمع في كتابه الشهير المصاحف عشرات من الروايات التي يوهم ظاهرها بأن التحريف أو التبديل، أو محاولة ذلك على أقل تقدير قد وقعت في عهد الرسالة أو بعد وفاة النبي " ص " بقليل، وهي روايات حَرِيّة بالدرس والتأمل والنقد، للوصول إلى حقيقة العصمة الإلهية لكتابه المنزل، ولكن هذا الجهد قام به أئمة عارفون يستحقون الثناء ولذلك نكتفي بما أوردوه ونحيل هنا على ما حرره العلامة السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن باب حروف القرآن الكريم، حيث كفانا مؤونة البحث في ذلك، ويتجه هذا البحث بشكل خاص لدراسة ما روي في التحريف عند علماء أهل البيت من الشيعة، ودراسة المرويات بهذا الشأن سنداً ومتناً للوصول إلى حقيقة محاولات التحريف التي عصم الله منها هذا الكتاب الخاتم المعجز . والحق أن الطعن في سلامة النص القرآني منقول عن طائفة من علماء الشيعة، بل في بعض الكتب المصادر عند القوم، وهو ما يزيد المسألة تعقيداً، فقد ورد على سبيل المثال في الكافي للكليني، وهو من أوثق مراجع القوم في الرواية النصوص التالية :
" عن جعفر بن محمد قال: لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة، وإن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد " ص " كان سبع عشرة ألف آية " .
" عن أبي الحسن المضاي قال : قرأ أمير المؤمنين: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك «من خلافة علي» وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، فقلت : تنزيل ؟ فقال : نعم " .
«عن محمد بن جهم الهلالي أن أبا عبد الله قال: «أمة هي أزكى من أمة» في سورة النحل، ليست كذاك، ولكنها: «أئمة هي أزكى من أئمتكم».
وقد أدى ورود مثل هذه الروايات عن القوم إلى فتح باب الطعن في عقائد الشيعة، وذهب بعض المتشددين من أهل السنة إلى الحكم بكفر القوم وفساد عقائدهم، والحق أن من يعتقد تحريف القرآن الكريم كافر بالإجماع، مخالف لهذه الأمة، ولكن ينبغي أن لا نتعجل على الناس حتى نتبين حقيقة ما يعتقدون، فليس مجرد وجود الرواية في كتبهم دليلاً على أنها لهم اعتقاد، وكذلك فإنه ينبغي أن نتبين مذهبهم في تأويل ما يروون .
والمحققون من الشيعة لا يعتقدون صحة سائر ما في الكافي للكليني، ولم ينزلوه عندهم منزلة صحيح البخاري عندنا - كما يعتقد عامة الناس، بل إنهم يذكرون أن فيه ضعيفاً ومرسلاً كثيراً، وإن الشيخ المتقي الكليني صنف كتابه في عشرين سنة، يسند عمن يسمع، فالعهدة على الإسناد، كما صنع الإمام الطبري، إذ أثبت لك أسانيده، وقال هذا إسنادي، ومن أسند فقد أعذر.
وفي دراسة علمية صدرت حديثاً لمحقق شيعي هو السيد هاشم الحسيني جزم فيها بقوله: «إن المتقدمين لم يجمعوا على جميع مرويات الكليني جملة وتفصيلا».
وقد تعقب النقاد من الشيعة روايات تحريف القرآن الواردة في الكافي فإذا هي نحو ۳۰۰ رواية وردت من طريق أربعة وهم : أبو عبيد الله السياري، ويونس بن ظبيان، ومنخل بن جميل الكوفي، ومحمد بن حسن بن جهور.
وهؤلاء الأربعة مطعون في عدالتهم عند علماء الاصطلاح من الشيعة، وإليك ما قالوه فيهم: يقول الغضائري عن السياري: «ضعيف متهالك غالٍ منحرف» ويقول عنه الشيخ النجاشي: «ضعيف الحديث، فاسد المذهب». وقال الشيخ النجاشي في يونس بن ظبيان: «ضعيف جداً، لا يلتفت إلى كل ما رواه، بل كل كتبه تخليط». وقال عنه ابن الغضائري: «كوفي غالٍ كذاب، وضاع للحديث». وأما منخل بن جميل فقد نقل السيد هاشم الحسيني عن علماء الرجال أنه من الغلاة المنحرفين. وقال العلامة الحلي في محمد بن حسن بن جهور: «كان ضعيفاً في الحديث، غالياً في المذهب، فاسداً في الرواية، لا يلتفت إلى حديثه، ولا يعتمد على ما يرويه».
وهكذا، فإن تواثب القوم على توهين رواية هؤلاء وتجريحهم والطعن في صدقهم وأمانتهم دليل واضح على تبرؤ مراجع الشيعة من هذه الأوهام ويبقى ورودها في الكافي مشروطاً بصحة الإسناد، وهو لم يتحقق كما رأيت.
وقد نقل عن أئمة الشيعة نصوص كثيرة تدفع توهم اعتقادهم بشيء من التحريف، وأنا أنقل لك طائفة منها :
۱- العلامة أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي المشهور بالصدوق . «اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد«ص» هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومن نسب إلينا أننا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب».
۲- السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي : «إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت، والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء آخر.
إن القرآن كان على عهد رسول الله«ص» مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه في ذلك الزمان حتى عين النبي«ص» على جماعة من الصحابة حفظهم له، وكان يعرض على النبي«ص» ويتلى عليه، وإن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي«ص» عدة ختمات وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث.. وإن من خالف من الإمامية والحشوية لا يعتقد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قومٍ من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته».
۳- الشيخ أبو علي الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان:
«الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فأما الزيادة فمجمع على بطلانها، وأما النقصان منه، فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من الحشوية العامة أن في القرآن تغييراً أو نقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه وهو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه».
ولنترك الكلمة الفصل في هذه المسألة لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، إذ يلخص اعتقاد الشيعة في سلامة النص القرآني، وأسباب هذه الشائعة عنهم بقوله :
«وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها وأما النقصان منه فالظاهر أيضاً من مذاهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى رضي الله عنه، وهو الظاهر من الروايات، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد ولا يستوجب علماً، فالأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها، لأنه لا يمكنه تأويلها، ولو صحت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه، وروايتنا متناصرة على قراءته والتمسك بما فيه، وردِّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه وعرضها عليه فما وافقه عوِّل عليه، وما خالفه يجتنب ولم يلتفت إليه، وقد ورد عن النبي«ص» رواية لا يدفعها أحد أنه «ص» قال: «إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» وهذا يدل على أنه موجود في كل عصر لأنه لا يجوز أن يأمرنا بالتمسك به، كما أن أهل البيت عليهم السلام ومن يجب اتباع قوله حاصل في كل وقت، وإذا كان الموجود بيننا مجمعاً على صحته فينبغي أن يتشاغل بتفسيره وبيان معانيه وترك ما سواه».
ويجب القول هنا بأن كثيراً من الروايات التي حملها المتجادِلون محمل التحريف، إنما هي أوهام رجال توهموها ثم فاؤوا إلى رشدهم فيها، وهي موجودة في كتب السنة كما في كتب الشيعة، ولا مسوغ لاتهام إحدى الطائفتين الأخرى، بأنها تعتقد شيئاً من ذلك بعد أن ثبت سلامة مراجع اعتقاد الطائفتين جميعاً بسلامة النص القرآني.
وهكذا فإنه لا مسوغ لاتهام طائفة عظيمة من المسلمين بالقول بتحريف القرآن، بسبب هذه المرويات التي يجب حملها على واحد من أربعة محامل:
۱- الطعن في إسنادها ورواتها.
۲- حملها على أنها أوهام رواة، وجلَّ الذي لم يعصم غير نبيه«ص».
۳- حملها على أنها من باب المنسوخ.
وأخيراً : حملها على أنها مما كتبه الصحابة في مصاحفهم على سبيل التفسير.
ومن أراد تفصيل القول في هذه الوجوه فليرجع إلى الإتقان للسيوطي أو مناهل العرفان للزرقاني، بقي أن نقول إن الشيعة اليوم تلتزم القراءة برواية حفص عن عاصم، وهي القراءة السائدة في العالم الإسلامي، لا تخالف جمهور الأمة في شيء منها، لا في رسم ولا شكل ولا ضبط ولا علامة وقف ولا علامة ابتداء، ولا رقم آية ولا رقم سورة، ولا إثبات علامة صلة ولا حذفها، ولا إثبات ألف خنجرية ولا حذفها.
وسيأتي في هذه الدراسة أنهم يقولون بمسح الأرجل في الوضوء، ولكن مع ذلك يقرؤون قراءة الجمهور، الآمرة بالغسل، وذلك موافقةً لرواية حفص التي يلتزمونها: «فامسحوا برؤوسِكم وأرجلَكُم إلى الكعبين».
وهو وجه ظاهر في التزامهم ما التزمه المسلمون من القراءة على رغم مخالفتهم في بعض الفروع الفقهية.
ويتضح مما سبق أن الأمة الإسلامية على اختلاف طوائفها تتفق في التسليم بأن القرآن الكريم المسطور بين الدفتين هو عين ما تلقاه النبي«ص» من الوحي الأمين، وأن القراءات المتواترة لا تخرج في حرف من حروفها عن الرسم الذي كتبه عثمان رضي الله عنه في المصاحف، والذي يتفق المسلمون اليوم على أدق تفصيلاته، فقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن أبد الدهر «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» والمعنى إنا للقرآن حافظون من أن يزاد فيه ما ليس منه أو ينتقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه وهذا الحفظ أكد وثاقة النص القرآني مكتوباً ومقروءاً، سليماً من التغيير والتبديل منذ نزوله وحفظه بالاستظهار في الصدور والتدوين في الصحف وبقى المصحف كذلك لم يتغير فيه شيء غير تطور رسمه عبر العصور ولم يكن الاعتماد على مجرد حفظ الصدور وقراءة المصحف وفقه العمل والحكمة التي طبقها الرسول«ص».
وقد شهد المنصفون من الباحثين - حتى من غير المسلمين - بسلامة النص القرآني من التحريف والتبديل ومن هؤلاء المستشرقون الألمان حيث جمعوا النسخ الخطية المتداولة للمصحف، في شرق العالم الإسلامي وغربه للوقوف على ما توهّموا من اختلافات بين النسخ، وقارنوا بين هذه النسخ على العصور والبلدان المختلفة فلم يجدوا اختلافاً أصلاً. مما يؤكد سلامة القرآن من التغيير والتحريف والتبديل، وهو رد من داخل الدراسات الغربية على كل ما أثير من شبهات لا أساس لها من الصحّة، ولا غرابة في ذلك، بعد ما شهد القرآن الكريم بأن الله تولى حفظه أبد الدهر.
كما تكفل الله تعالى بحفظ القيم في الكتاب والسنة من أي تحريف أو تبديل سواء في ذلك تحريف الكلم عن مواضعه أو تحريفه بالتأويل والخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، وهذا التكفل بالحفظ للنص الإلهي والحراسة لبيانه وقيمه عن طريق النبوة يعتبر من أبرز سمات الرسالة الخاتمة وأخص خصائصها.
والخلاصة أن سائر أهل التوحيد متفقون أن القرآن الذي نزل به جبريل الأمين على النبي محمد«ص» هو المسطور في المصاحف ذاته، لم يسقط منه حرف ولم يزد فيه حرف، وما ورد من المرويات بعد ذلك في كتب السنن فهو محمول على واحد من الاحتمالات الأربعة التي أوردناها والتي يتعين تأويلها وفق ما قام به الدليل القطعي وأجمعت عليه الأمة وارتضاه أهل التوحيد بلا مخالف وهو الإجماع القطعي على ثبوت كل حرف في القرآن الكريم بدون استثناء .


 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع