شارك هذا الموضوع

أَنْ نُضِيَء شَمْعَةً خَيْرٌ مِنْ أَنْ نَلْعَنَ الظَّلام .

عاشت العلاقات الإيرانية الخليجية رهينة لعدد من المتغيرات السياسية التي هي أيضاً كانت صدى واجتراراً للتحالفات القائمة في المنطقة، وكذلك ما كانت تشهده العلاقات المتوترة بين الدول العظمى من خلاف على نظام المصالح التي كانت مفاعيله الطاقة الأحفورية والنفوذ، ولم تكن تلك الأجواء التي تحكّمت بالمنطقة خاصة بإيران الشاهنشاهية أو الإسلامية، إلاّ أنها وبُعَيد انتصار الثورة فيها في فبراير من العام 1979 قد أخذت مناحي أخرى أكثر تصعيداً بعد انفكاك التحالف القائم آنذالك ما بين حكومة الشاه محمد رضا بهلوي والولايات المتحدة الأمريكية، وقد تعلّق ذلك التصعيد بشكل رئيسي بأمن الخليج ودوله بعد تعاظم المد الثوري الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى تشكّل أحلاف عربية عربية، وأخرى عربية غربية، وكذلك زحافات جديدة بين الدول، كان أهمها ما أعْمَلته الحرب العراقية الإيرانية من تباعد شديد بين إيران وجوارها وامتداده الإقليمي والدولي دام أكثر من عشر سنوات .
 
بعد انتهاء حرب الخليج الأولى في العام 1988 وبداية نمو الرفسنجانية وما صاحبها من إعادة تفسير للقيم الثورية وللمصالح القومية الإيرانية المباشرة وغير المباشرة، وأيضاً إرهاصات أحداث كحرب الخليج الثانية وضمور دور العراق كلاعب إقليمي رئيسي قد أدت لأن تدخل العلاقات الإيرانية الخليجية مرحلة جديدة تأسّست ميكانيزماتها الجنينية أصلاً أثناء إتمام اتفاق الطائف في العام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، حيث كان الدور الإيرانية بيّناً للملمة الفرقاء اللبنانيين خصوصاً لنفوذها لدى حزب الله وحركة أمل، بل إن تلك المفاعيل يُمكن ردّها إلى القمة الثامنة لمجلس التعاون الخليجي عام 1987، والتي أقرّت إجراء حوار خليجي إيراني يكون مدماكه الأساس هو المصالح المشتركة . وخلال مرحلة التسعينات بدأت العلاقات بين الجانبين تتحسّن بشكل لافت خصوصاً بعد فوز السيد محمد خاتمي في يوليو من العام 1997 وانتهاجه لسياسة سحب بُؤر التوتر في علاقات إيران الخارجية وما تمخضت عنه تلك السياسة من تزييت للعلاقات غير المستقرة بين بلاده وجوارها، ثم تطورت لاحقاً لتتكلّل بإبرام اتفاقية أمنية ما بين الرياض وطهران ووصول حجم التبادل التجاري بينهما إلى 750 مليون دولار، وأيضاً اتفاقية أمنية مع سلطنة عُمان لمراقبة الممرات المائية وعمليات التهريب، ومع وقطر والكويت في مسائل تتعلق بالمياه العذبة المتدفقة من نهر قارون وأيضاً تسوية الجرف القاري وتبادل العمالة والخبراء، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين طهران والكويت إلى 180 مليون دولار في عام 2003، بل حتى قضية الجزر الثلاث المتنازع عليها بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإيران لم تمنع من تنامي التعاون الاقتصادي والثقافي حيث لا تزال الإمارات هي ثالث الأسواق أهمية بالنسبة لإيران، وقبل ثلاثة أعوام وصل التبادل التجاري بين البلدين إلى 4.4 مليار دولار، وكذلك الأمر انسحب على العلاقة مع البحرين التي زارها الرئيس الإيراني السابق وزار ملك البحرين أيضاً إيران ووصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى سبعين مليون دولار . وقد كان لهذا التحوّل الأثر الكبير على الأوضاع البينية بالنسبة لإيران ودول الخليج، حيث كسبت إيران تشكيل أول لجنة تجارية مشتركة في العام 1998 ثم الاتفاق بين البلدين على رفع أسعر النفط الخام بعد التراجع الرهيب الذي طرأ على الأسعار العالمية حين وصلت إلى أقل من 6 دولار للبرميل، ثم تواصل التنسيق إلى اتفاق 09 مارس عام 1999 حول سقف ثابت للإنتاج النفطي وإيقاف كل سياسات الخلط في احتساب التخفيضات المقررة، الأمر الذي أدى لدخول كل من السعودية وإيران كطرفين في مباحثات رباعية ضمت أيضا فنزويلا والمكسيك بشأن إجراء تخفيضات جديدة في الإنتاج وهو ما أثّر بإيجاب على أوضاع العُملة الصعبة في إيران وتحسّن واضح على مسيرة الخطّة الخمسية الثالثة، وأيضاً على مسيرة التطور الإقتصادي وزيادة التبادل التجاري وتحسين التجارة الخارجية . في الجانب الآخر استفادت دول الخليج من التقارب الإيراني الخليجي في تسوية العديد من المشاكل الأمنية العالقة والتي كانت محل هاجس كبير من قِبَل تلك الدول، كما استفادت دول الخليج في إجراء مصالحات وطنية مع أطراف كانت محسوبة على الخط الإسلامي (الشيعي) المتأثر بشعارات الثورة الإسلامية في البحرين والمملكة العربية السعودية وأيضاً في الكويت . هذه البيئة الجيدة فتحت المجال واسعاً لتقرير سياسة جوار إقليمية إيجابية، إلاّ أن مسيرة التقارب الخليجي الإيراني بقيت متأثرة بمتغيرين اثنين :


الأول : الملف العراقي : حيث أن العلاقة القائمة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والحكومة العراقية اليوم هي أبعد من علاقات سياسية واقتصادية وثقافية فهي تمتد إلى أمور استراتيجية تتعلق ببقاء إيران كرديف عقائدي لحكومة الائتلاف العراقي الموحّد أمام ضغوطات الدول العربية، لذلك فإن طهران ورغم العداء المُزمن بينها وبين واشنطن فقد ساندت حكومة الإئتلاف العراقي الموحّد فاعترفت بمجلس الحكم الانتقالي وبالحكومة المؤقتة، كما رحبت بالقرار الأممي رقم 1546 بشأن نقل السيادة للعراقيين، وساندت إجراء انتخابات عامة، وأبقت على علاقاتها مع التيارات السياسية وبالأخص التيار الصدري، هذا من الناحية السياسية، اقتصادياً قامت طهران بشحن آلاف الأطنان من البضائع والسلع والمؤن بمختلف أنواعها عبر حدودها الشرقية الشمالية وتزويد المناطق الجنوبية بالطاقة الكهربائية، وقدمت خلال الاجتماع الدولي الثالث لخبراء صندوق الدعم المالي لإعادة بناء العراق (آي.آر.اف.اف.آي) في طوكيو مبلغ عشرة ملايين دولار كوجبة أولى، وأخيراً ما صرح به وزير الاقتصاد والمالية الإيراني داود دانش جعفري من أن بلاده ستقدم للعراق قرضاً بقيمة مليار دولار لتعمير منشآت البنى التحتية، كما قامت طهران بتسيير خط بحري بين مدينتي خرمشهر والبصرة بهدف تنشيط التجارة البينية عبر نهر أروندود، ثقافياً قدمت إيران خدمة طباعة الكتب الدراسية العراقية وتنظيم المهرجانات الثقافية والسينمائية، وهي كلها أمور جعلت من الدور الإيراني يتنامى ويتعاظم في العراق الأمر الذي دفع بدول الخليج لأن تُبدي هواجسها من ذلك النشاط، خصوصاً وأن القيادات السياسية الكبيرة التي تحكم العراق اليوم هي قريبة من إيران ويُخشى من أن تتبدل الموازين في الداخل العراقي وفي المنطقة بسبب تلك العلاقة، كذلك يخشى الخليجيون من التماهي التام في الأهداف والخطط ما بين الحكومة العراقية وبين الولايات المتحدة التي اتبعت في المقابل سياسة زعزعة الأنظمة القائمة في المنطقة قبل أن تتبدل بسياسة مُحافظة تقليدية، وبالتالي انتقال مركز الاهتمام الغربي إلى بغداد التي تنظر لها دول المنطقة بأنها مُلكٌ مُطلق لقوتين متنافرتين هما إيران والولايات المتحدة . إلاّ أنه وبالرغم من التصريحات التي أطلقها عدد من المسؤولين السعوديين تجاه الوضع في العراق وتجاه الدور الإيراني أيضاً هناك، فقد حافظت الدعوات الأخرى بحظوتها بضرورة وجود تنسيق سعودي إيراني فيما لتسوية الأوضاع في العراق، وبات البعض يرى في التنسيق السعودي الإيراني في لبنان مدخلاً جيداً لنموذج مماثل في العراق، وقد تواترت الأنباء التي تُفيد بأن الرسالة التي حملها المبعوث الشخصي للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية قد تضمنت ترحيباً إيرانياً بهذا الاتجاه مع تثليث الموضوع أيضاً باتجاه سوريا بعد تسوية مُشكلاتها مع واشنطن .


ثانياً : الملف النووي الإيراني : سيطر هذا الملف طيلة الأعوام الأربعة الماضية على بوصلة الأحداث في الشرق الأوسط، وهو ما أثّر بشكل لافت على نظام المصالح والعلاقات القائمة بين الحلفاء والمتخالفين في المنطقة، وعندما بدأ النقاش يحتدم حول هذا البرنامج في الشهرين الأخيرين من العام 2002 كانت طهران قد بدأت فعلاً في الموائمة بالتزامها بمعاهدة إن بي تي (1968) ومعاهدة سي تي بي تي (1971) وبالقرار الأممي رقم 687 حول إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية والتوقيع على البرتوكول الإضافي في ديسمبر من العام 2003 رغم توسع أعضاء النادي النووي وإلغاء واشنطن لاتفاقية أي بي إم حول حظر الصواريخ الباليستية الموقّعة في العام 1972 ورغبتها في تنفيذ مشروعها الصاروخي إن إم بي ومروراً ببقاء إسرائيل كسادس قوة نووية في العالم ورفضها المستمر وغير المكترث بقرارات الأمم المتحدة 5547 و7848 و4851 ووجود قوتين نوويتين آسيويتين (جنوب غرب) وهما باكستان والهند، ورغم أن سياسة حافة الهاوية التي اتبعتها طهران لكسب المزيد من الوقت وأقصى مساحة متاحة من المناورة لتقليص التنازلات والالتزامات، قد وصلت في نهاية المطاف إلى طريق مسدود بصدور القرار رقم 1737 إلاّ أن الموضوعات الثمانية التي وضعتها طهران والتي من ضمنها مساعدة الأوربيين لها في الدخول إلى منظمة التجارة العالمية لم تُغلق بعد وهو ما مكّن دول المنطقة لأن تعيد إنتاج البرامج الاقتصادية فيما بينها وفق معايير المصالح المشتركة . لقد شكّل هذا الملف هاجساً قوياً بالنسبة لدول الخليج فيما يتعلق بمصير الأمن في المنطقة وحركة التبادل التجاري إذا ما صُيِّرَ مضيق هرمز إلى ساحة قتال بين طهران وواشنطن عند حدوث أي نزاع مُرتقب، وقد كاد هذا الإشكال أن يكون إسفيناً لتراجع العلاقات الثنائية، إلاّ أن المنظومة الخليجية في دول المجلس وازنت في ذلك من خلال اتباع سياسة متوازنة مع طهران طيلة الأعوام الخمسة الماضية، وأيضاً المضي قُدماً في صياغة متغير آخر جديد تمثّل في الإعلان عن الدخول في التقنية النووية السلمية، وقد أوضح ذلك بجلاء البيان الختامي للقمة السابعة والعشرين لمجلس التعاون الخليجي في الرياض التي دعت إلى إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل وتكليف لجنة لدراسة إمكانية امتلاك دول المجلس لتقنيات نووية بهدف الاستعمالات السلمية .


إذا ما استطاعت إيران ودول الخليج في تسوية هذين الموضوعين فإن انطلاقة جديدة تنتظر مسيرة العلاقات بينهما لمزيد من الاستقرار والهدوء للمنطقة .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع