أفلاطون أستاذي .. لكنني أحب الحقيقة أكثر
ما بين نظرة جورج بوشنر لمآسي البشر وصيرورتها كحجر للإلحاد وبين رؤية الله في المحايثة والحلول وقوة التحولات الاجتماعية بنظرة إنثروبولوجية للأب كاردينال تفتّقت نماذج جديدة من التمردات لا تخضع إلى المعيارية الصرفة بقدر ما هي حالات قيمية ترتبط بعوالم الأفكار والأشخاص والأشياء ضمن فضاء عام مُؤطّر بشرعية سماوية مُطلقة، وهي في الوقت نفسه منسابة مع الحجر والمدر، ومع الروح والجسد، أو كما يقول مالك بن نبي " في الاجتهاد ثورة على التقليد وفي الجهاد ثورة على الاستسلام وفي التجديد ثورة على الجمود وفي الإبداع ثورة على المحاكاة وفي التقدم ثورة على الرجعية والاستبداد وفي العقلانية ثورة على بلادة النصوصيين " .
وبما أن الحديث مازال مرتبطاً بمصادر الشرعية للنظام السياسي الناشئ عن الثورة الإسلامية في إيران؛ فإن تثبيت موضوعة الثورة كمهمّة تاريخية يُجمع عليها إصلاحيو الأرض والسماء يبقى أمراً حاسماً دون ضرورة في التوطئة لتوصيف كيميائها، سواء أكانت ماركسية أم فرنسية أم برتقالية أم دينية، لذلك فليس غريباً أن تتقارب الثورات جميعها في وضع أهداف استراتيجية وأخرى مرحلية ثم تقوم بحرق المسافة الزمنية والفكرية القائمة بين الهدفين لتصل أحياناً إلى ديالكتيك من الترف وتجميع النفوذ والسلطة في نقطة ارتكاز واحدة، ثم التحول من شعارات الإصلاح إلى نقيضه كضرورة للوصول إلى الحال المدنية المطلوبة .
في الحال الإيرانية كان الإمام الخميني يضبط إيقاع حركته من خلال خلاصة سياسية ستكون آلياتها الحتمية هي التمرد والوثوب نحو اقتلاع أسس النظام السياسي المصاب بالشللية والوظائفية وكل مفردات الفساد، لذلك فقد كان برنامجه السياسي لا يحمل تأويلات معقدة بقدر ما هي مسلكيات واضحة واختزالية ومُوجّهة من خلال مناهل نصّية تمتلك حق إعطاء المراسيم الدينية بسهولة ومن دون عناء، ولم تكن هناك حاجة سوى إلى منظومة ميكانيكية فاعلة لحركته السياسية، تستطيع المواءمة بين التناقضات الحاصلة واستثمار الفرص، وتمييل الجانب بحسب الظروف الموضوعية. وكان السقف الآيدولوجـي لطبيعة الثورة يدور حـول " نهوض نظام الخليقة على قاعدة الحق، وأن الثورة لا تكون حقّة إلاّ بعد أن تكون البنى التحتية عميقة الاعتقاد بالمعارف الإلهية، وأن الاتحاد لا يتمثّل بين الأرواح بأسباب مادية لأن القلب ليس رهناً بالمادة (آية الله جوادي آملي) " وقد جاء هذا التنظير منسجماً مع صيرورة تاريخية/ دينية لمفاهيم العدل والمساواة وتطبيق أحكام السماء، وأيضاً مع ضرورة وجود من يقود هذا التحرك وفق منهج الأولياء والصالحين بحسب الفهم السماوي، وبالتالي فإن الثورة ضمن هذا السياق لا تُقرأ إلاّ من خلال النظريات القيمية التي تُفسّر الثورات باعتبارها رداً عنيفاً من قِبَل الحركات العقائدية على التمايزات واللامساواة الاجتماعية بحسب تقسيمات تيدا سكاج بل، وأيضاً قد تكون هناك بعض الأسباب العِلّية المزدوجة لها كتوحش الرأسمالية بشكل غير متوازن، إلاّ أنها في النهاية ليست أكثر من مُسخَّرات لتغييرات جذرية يحتاجها المجتمع الطامح في التغيير والدولة المترهّلة ومن ثم الوصول إلى وضع اجتماعي وسياسي أفضل .
وبالرجوع إلى خطابات الإمام الخميني التي سبقت انتصار الثورة الإسلامية في 11 فبراير/شباط من العام 1979 يُمكن تلمّس طبيعة الفكر السياسي الناظم ومدى تفسيره للثورة، فهو قائم على " إلفات الانتباه إلى منظومة فلسفية تقسم بالعمومية والشمول وتستوعب العقائد والآراء السياسية كفعل سياسي (لكزائي) " وهذا ما نراه جلياً في خطاب للإمام موجه للشاه محمد رضا بهلوي في يونيو/حزيران من العام 1963 عندما قال " أيها التعيس، أيها الذليل لقد انقضى من عمرك خمس وأربعون سنة تأمل قليلاً واعْتَبِر بأبيك، من هي الرجعية السوداء ؟ الإسلام والعلماء ! أم أنت يا صاحب الثورة البيضاء .. عليكم أيها السادة أن تنتبهوا... إن الأحداث التي تجري اليوم تهدد أساس الإسلام وتُعرضّه للخطر الكبير والدمار الشامل، حيث أن المؤامرة مُحاكة بدقة ضد الإسلام والشعب المسلم " هذا الخطاب يُفسّر الطريقة التي كان ينظر بها الإمام الخميني لطبيعة االحوادث التي كانت جارية، فهو يختزل كل المثالب التي تجري ضمن خانة العداء للدين، وقبلها محاولة تتبع الأخطاء السياسية وتوظيفها والرد عليها بشكل تعبوي . المتتبع لطبيعة الحدث السياسي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية سواء الأحداث الداخلية أو الخارجية يلحظ مباشرة مدى أهمية استدعاء موضوع الثورة وضروراتها التاريخية والتكليفية، بل إن التنشئة العقائدية داخل أروقة السلطة وبالتحديد في قوات الحرس الثوري (الباسدران) وقوات التعبئة (الباسيج) تُشكّل الثورة بالنسبة إليهم مهمّة إلهية حسب اعتقادهم، بل إنها الدولاب الذي ينتظم عليه حسهم الوطني والديني، فالمعادلة بالنسبة إليهم أنهم جيل تمّ اصطفاؤه وادّخاره لمسئولية قد لا يتحمّلها غيرهم، وهي مسئولية مرتبطة أصلاً بعوالم الغيب والأهداف العليا للسماء . ومن هذا المنطلق يظهر مدى تأثير الآيديولوجيا في الثورة، وعدم قدرة النظرية التحديثية والبنيوية على قراءتها بالشكل الذي استطاع فيه فوكو قراءتها في سلسلة مقالته والتي أهمها " بماذا يحلم الإيرانيون " بل إن النواة الحقيقية لأصل الثورة والمرتبطة بقضايا نفسية لا أعتقد أنها كانت خارجة عن أن أصحابها كانوا ومازالوا يعتقدون بأنهم يحملون مهمّة تاريخية وفاصلة ليقدموا للعالم نموذجاً آخر يُخلّصهم من متاعب المادية .
التعليقات (0)