شارك هذا الموضوع

المنطلقات الأخلاقية للنهي عن الاختلاط

يبدو أن مسألة الاختلاط في المجتمع الإنساني تُمثِّل في الحديث عنها جزءاً من حياة الأمم، وأن الحياة المدنية الحديثة والمفاهيم الثقافية الجديدة وإنسان اليوم المثقف له نظرة مختلفة تجاه هذه المسألة لا يتفق فيها مع نظرة الأديان التي تعطي بعداً خاصاً لهذا الموضوع الذي يعتبر متلازماً مع القيم الأخلاقية والإنسانية، ولا ينفك عن كونه جزءاً أساسياً في إحياء الأسماء الفاضلة في صفات الفرد والمجتمع على السواء.


ليس المقصود بالحديث عن موضوع الاختلاط بين أفراد المجتمع من الرجال والنساء في هذه الزاوية الثقافية الواعية من ناحية شرعية بحتة، وإنما نريد أن نطل على الموضوع بوجهه الآخر الذي يعكس حقيقة المضمون الشرعي والفقهي لأننا كما نعتقد أن الحدود والأحكام الشرعية تمثل الصورة الظاهرية للمضمون الأخلاقي والقيمي لرسالات السماء على الإطلاق، وكذلك ليس فيه استهداف لآثار سلبية اجتماعية، إنما نطل فيه من نافذة لها ارتباط وثيق في تكامل المجتمع والفرد روحياً وأخلاقياً ومعنوياً.وإذا ما كان الإنسان هو محل استهداف جميع الرسالات السماوية، وأن الكمال الإنساني هو غاية هذه الرسالات، فإننا نبحث في ما يحول بين الإنسان وكمالاته، لأن العقل يستحسن كل ما يقرب الإنسان من الكمال، ويستقبح كل ما يبعد عنه، فحقيقة الأمر أننا نحاول السير في ظلال هداية العقل الذي يمثل نبوةً باطنة شرعية وهو أصلاً من أصول التشريع الذي تعتمد عليه الرسالة في تحقيق أهدافها، والعقل هو وعاء العلم والنور الذي يضي‏ء الظلمات ويفتح أبواب السماوات وبه عرف الحق تعالى، والعقل موهبة إلهية منسجمة أيضاً مع مقتضيات الفطرة الإنسانية «فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه».
إنسانية الإنسان‏


إن الودائع الإلهية في هيكل الإنسان صاحب التقويم الأحسن لا تعد ولا تحصى، وهي بحجم العالم بأبعاده المترامية «أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر».


ولا يخفى أن القوى المشتركة التي تختزنها النفس البشرية من غضبية وشهوية ووهمية وادراكية وغيرها، تلعب دوراً أساسياً في انعكاس الصورة الحقيقية على الجوارح فهي تعتبر الأدوات التي تمارس الحركة الصادرة عن النفس، وهذا التركيب العجيب للإنسان بوجهه اللاهوتي والحيواني يشكل الشخصية المتميزة عن سائر المخلوقات لأن المشيئة الإلهية أوجدت هذه العناصر، وجمعتها في الإنسان الذي يمثل الصورة اللائقة لصاحب المشيئة «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير».


إن مجموع الغرائز التي انطوت عليها النفس الإنسانية دائمة التفاعل والتأجج ولها من القدرات ما عجزت عن نيل مداه العقول، للتداخل العجيب بين إمكانيات الشر والخير والفجور والتقوى والعفة والشره «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها»، وإن إقامة الغرائز البشرية على حدود الاعتدال يحتاج إلى الترقي لمرحلة عالية من التزكية والترويض للجم جموح هذه الغرائز المستنفرة، والتزكية عمل إرادي يعتمد على القدرة على ضبط هذه الغرائز وتوجيهها في حدود ما يعود من منفعة على صاحبها، من هنا ليس الكبت ووضع الأغلال عليها هو الدافع لتزكيتها، وإنما في إعطائها المدى اللازم واللائق لما تحتاجه هذه الغرائز لإشباعها تحت سيطرة العقل الواعي لمصالحها ومفاسدها والتحكم العادل في تفاعلها الذي يلعب دوراً أساسياً في تكامل هذه النفس، وإن حقيقة إنسانية الإنسان تكمن في هذا النوع من المواهب المودعة لديه، كتركيبه من عقل وشهوة يرفعه عقله عن دائرة عالم الملك والحيوان، وتهبط به الشهوة إلى منزلة الحيوان.



العفة حاجة الفرد والمجتمع‏


إن أهم الصفات التي تساعد في سير الإنسان نحو كمالاته وتكامله الإنساني والأخلاقي هي العفة التي يأتي بمقابلها الشره.


والعفة صفة إنسانية سامية تدخل مع كل معنى من معاني الخير والفضيلة، وكل صفة إنسانية لا يمكن أن تأخذ معناها الحقيقي إلا بتلبسها بهذه السمة التي تتحلى بها الروح الإنسانية المجردة قبل نزولها في مغمسات المادة والشهوة.


عندما تنسلخ النفس البشرية من معاني العفة فإنها تسقط في حظيرة البهيمية الجامحة لا قرار لها ولا هدى، وإن الحفاظ على النوع البشري بمثله وقيمه هو بمقدار الحفاظ على اتسامه بالعفة، فمن الواجب الأكيد عقلاً العمل لردع كل ما يشكِّل خطراً على هذه القيمة الحية البرَّاقة الساطعة وتوفير كافة الظروف التي تتلاءم مع بقائها وتناميها ورقيها.وأن تنامي وانبعاث العفة في الإنسان بصورها المتكثرة تضفي عليه آثاراً ملكوتية وصورة رحمانية تجعل حاجزاً وحاجباً بينه وبين قبائح الأفعال ومفاسد الأخلاق.


والحديث عن العفة حاجة إنسانية للفرد كما للمجتمع بما يمثل بجانبيه الذكوري والأنثوي، فحاجة الرجل إلى العفة في بناء وتزكية النفس التي تشكل الصورة المشرقة الإلهية هي بنفس مقدار حاجة المرأة لها إن لم نقل أكثر.والمشهور العرفي أن هذه الصفة متوقفة على المرأة حصراً.لأنها تمثل لها في ملازمتها والمحافظة عليها والتحلي بها شرفاً وقدساً خاصاً تنفرد به عن ما تمثل للرجل.


ولكننا نقول هنا أن للعفة مجموعة من الفضائل والخصال الحميدة التي تقع تحت ظلالها.كالشرف والحياء والنزاهة والصدق والإيثار والكرم. وغيرها، وكل من الرجل والمرأة يحتاج في سيره التكاملي نحو الفضيلة إلى التحلي بهذه المثل والخصال بنفس المستوى والحاجة التي تستقبلها كل نفس بحسب قابليتها التي فطرها اللَّه تعالى عليها.ولكن من كرامة المرأة وموقعها ودورها الحساس في حملها لمسؤولية إلهية عظيمة يرتكز عليها أساس البناء الإنساني في صنع الأجيال والرجال، كما وأن أعظم وصف لموقع المرأة ودورها الحقيقي في هذا الوجود هو ما أشرقت به سماؤنا من أنوار الروح الإلهية للإمام المقدس الخميني المفدى «قدس سره الشريف» بقوله: «المرأة كالقرآن كلاهما أوكل إليه صنع الرجال» فأسقط كل النظريات المبتذلة في جعل المرأة سلعة تباع في أسواق مجون الغرب الفاسدة تحت شعار حقوق الإنسان.


دور المرأة في بناء المجتمع الفاضل‏
والمرأة كما نجده جلياً في رسالات السماء تعني الروح الإنسانية المتمثلة فيها معاني الحب والتضحية والكمال، التي تمثل إرادة اللَّه تعالى في بناء الإنسان الذي يسير نحو الحق تعالى.
إن دور المرأة مرتكز بشكل أساسي على معرفة الأهداف الإنسانية التي تسعى إليها الرسالات السماوية والفطرة الإنسانية وبناء مجتمع الخير والفضيلة والعدالة الاجتماعية التي تحفظ فيها القيم والحقوق والأعراض والفضائل، وتنتصر فيها الفضيلة على الرذيلة والخير على الشر والعدل على الظلم والحق على الباطل وترتفع راية المكارم التي بعثت من أجلها الرسالات والرسل «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».


إن بناء المجتمع الفاضل والعادل يحتاج إلى توفير إمكانيات وقدرات متكافئة مع حجم القيم والمبادى‏ء التي يفترض السعي لتحقيقها، والمرأة في هذا المجتمع عنصر أساسي، لأنها تلعب دوراً يحتم النتيجة النهائية لمصير ومستقبل هذا المجتمع.لأنها تشكل المحور الأول في احتضان المجتمع الكبير من خلال احتضانها للمجتمع الطفل كأم تقوم بزرع ما تريد في أرض رطبة وخصبة تستقبل كل ما ترغب وتريد.


إن مسؤولية المرأة في الحفاظ على مجتمع متكامل قابل للنمو والتكامل هي بمقدار حفاظها على عفتها وشرفها وحيائها وكرامتها وحرصها على القيام بما ينسجم مع فطرتها الأنثوية الملكوتية التي جعلها اللَّه تعالى مصدر الرحمة والخير في هذا العالم وأعني بذلك هنا المرأة الأم التي أسفر عن حقيقتها الحقة فيض الوجود الأقدس محمد بن عبد الله «ص» رسول الإنسانية على الإطلاق «الجنة تحت أقدام الأمهات».


سموم الثقافة الغربية
فإن كل ما تنافى مع قدسية وحقيقة المرأة يشكل خطراً حقيقياً على دورها في إقامة مجتمع الخير والفضيلة... وما استهلك في عالمنا المعاصر من ادعاءات واهية وساقطة في مفهوم حق المرأة وحقوقها في مشاركة الرجل كجزء أساسي من هذا المجتمع وما تمثله كالنصف الآخر للرجل؛ أخذت بيد المرأة نحو الانحدار في ثقافة المثل والحق المِثْل المبتدع الذي لا يمثل روح الحقيقة، وإنما هو شعار لتعمية الحقيقة من خلال مشروع عالمي تقوده أساطنة النقمة على المشروع الإلهي الذي يقوم على أساس التكافؤ والعدل الذي تمتد جذوره إلى بداية التاريخ والنشأة، فقد سلط أعداء الفضيلة سهامهم على القطب الأساسي في صياغة المجتمع الإنساني الذي هو المرأة، وعملوا على مسخ هذه القيمة الإنسانية من خلال شعارات وأفكار وثقافات براقة جوفاء تحمل في أحشائها سموما قاتلة كادت حتى اللحظة الأخيرة تفتك بالمجتمع الإنساني بأكمله، وهذا ما نراه اليوم سائداً من مفاهيم وثقافات حولت المرأة في المجتمع إلى دمية عرضت للبيع في أسواق العالم المتحضر، وأخرجوها من صدفها المذهب والمرصع بكل معاني العفة والفضيلة وأدخلوها في شرنقة ظلماء حتى الاختناق والنفس الأخير، إلا ما رحم الله تعالى لحفظ النوع الإنساني في بقية أراد تحصينها بمشيئته وإرادته.


إن ثقافة الاختلاط بين الرجال والنساء في المجتمع الغربي واحدة من المخاطر الكبرى تلعب دوراً أساسياً في مسخ الصورة الملكوتية للمرأة وتخرجها من حصن حمايتها وتستدرجها للوقوع في وحول الغي والفساد، فالسيطرة في المجتمع الغربي تقوم على أساس الوغول في الشهوانية المفرطة التي لا حدود لها والتي تلعب فيها المرأة الدور الرئيسي، وهكذا تحلل المجتمع الغربي والمجتمعات التي تأثرت به وفككت أواصر التماسك والترابط الاجتماعي والخلقي بين أفراده.


أول خطوات المهواجهة
إن فك عرى الإيمان في النظام العالمي الجديد الذي يقوده الغرب يسعى إلى فرض ثقافة خاصة للقضاء على كل قيمة أخلاقية ومشروع إنساني، واستبداله بمواقع أخرى تقوم على الشره والأطماع التي تسقط كل حقوق الآخرين، فالمواجهة لهذه الثقافة الحديثة الجديدة بأساليبها وغزوها الإعلامي يرتكز أساساً على فهم حقيقة هذا المشروع والهادف بشكل خاص إلى نسفٍ لكل أساس للفضيلة والخير في هذا العالم، والمرأة الفاضلة لها دورها في هذه المواجهة الحقيقية والصراع الحق في قيامها بما تتحلى به من روح وعاطفة إنسانية وفهم لحقيقة الصراع القائم وأنها المستهدفة باستهداف رسالتها وعفتها.


إن المفهوم الذي تقوم عليه أسس المواجهة لأي مشروع إفساد هو معرفة عناصر الفساد الذي يحمله هذا المشروع، وكما أشرنا سابقاً فإن الهدف الرئيسي لإفساد المجتمع الإنساني هو من خلال إفساد المرأة وانحرافها عن خط تكاملها وعفتها وبإشارة واضحة، إن الاختلاط والسفور المفرط ونسف حواجز الحياء والعفة بين الرجل والمرأة هو أول موقع يسعى إليه أصحاب مشروع الفساد في العالم.


إن الاختلاط والسفور المفرط الذي أصبح عادة مستحبة في مجتمعاتنا له الأثر البالغ في نسف حدود الحياء بين الرجل والمرأة خصوصا عندما نقلد الغرب في ذلك، إن الحفلات واللقاءات والسواحل والمسابح تلعب دوراً خطيراً في القضاء على روح العفة والحياء عند الرجل والمرأة وتأخذ بالمجتمع إلى دائرة السوء وقد أخذت المجتمع إلى هذه الدائرة عندما أصبح البحث في موضوع الاختلاط بحثاً يتعدى على الحقوق الشخصية لدى كثير من أبناء مجتمعنا.


العودة إلى حصن الدين‏
إن خطاب العقل يدعونا إلى مراجعة حقيقية للحفاظ على آدابنا وعادتنا فضلا عن قيمنا الأخلاقية والدينية التي جاء بها الرسل العظام «ع» يدعونا إلى العودة إلى حصن الدين والقيم الدينية المنسجمة مع الفطرة والعقل.يدعونا إلى الرجوع إلى الأسرة التي تبني أفرادها على روح المسؤولية في حفاظها على طهارتها وعفتها في زمن أحدثت الثقافة الغربية المتوحشة فجوة كبيرة في مجتمعنا، عندما ابتعد شبابنا عن تحمل مسؤولياتهم الاجتماعية والأخلاقية في مواجهة الفساد والابتذال والميوعة حتى أصبحت هذه الحالات سمة عند كثيرين من هذا المجتمع.


إن مواجهة الخطر المحدق بمجتمعنا يحتاج إلى دراسة واعية لأساليب المواجهة والعناصر الفاعلة فيها K فإن اللبنة الأولى في مواجهة الخطر هو وضع الحدود وبناء السدود وتحصين أنفسنا من الرياح العاتية التي تحمل معها رسالة شهوانية حيوانية تريد القضاء على رسالة العفة الملكوتية في دائرة السفور والابتذال ونسف الحدود والحواجز التي تقتضيها العفة في مجتمعنا الإنساني، وتبقى قيم وفضائل رسالات السماء والفطرة الإنسانية تصرخ دائماً:«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع