شارك هذا الموضوع

دور المرأة المسلمة إزاء التحديات المعاصرة

عندما نريد أن نعيش الحاضر حين الإطلالة على الماضي، فإننا لا نريد أن نغيب في التاريخ لننسى واقعنا، ولكنّنا نريد للتاريخ ـ لا سيما العناصر المشرقة فيه ـ أن يمثل جذورنا، لأن أمة بلا جذور هي أمة يمكن لأية ريح أن تستأصلها بكل سهولة، ولأن قيمة الفكرة في حياتنا ـ أية فكرة كانت ـ أن قيمتها بمقدار ما تتجسّد في إنسان، كل الأفكار تمثل في حركة الإنسان مجرّد انطباعات تعيش في الفراغ، ولكن الفكرة عندما تتحول إلى إنسان فإنها تصنع للحياة حيويتها وحركيتها.


لذلك كانت المسألة في الماضي وفي الحاضر، هي أن نبحث عن الفكرة في الإنسان، حتى نستطيع أن نعرف واقعية الفكرة، وأنها ليست مجرد حالة مثالية تجريدية ينظّر لها المنظّرون.


وقفة مع زينب.. الإنسانة المرأة


وفي ضوء ذلك، عندما نلتقي بالسيدة زينب(ع)، فإننا لا نريد أن ندخل في قداسة النسب في نسبها، ولا أن ندخل في فيض العاطفة الذي نحمله لها في قلوبنا، بل نريد زينب الإنسانة المرأة، بعيداً عن كل التهاويل، وبعيداً عن كلِّ الصفات، نريد أن نتمثّل فيها العناصر الحيوية، بحيث يمكن لنا أن نجد من خلال هذه الإنسانة عنصر القدوة التي تُجسِّد الفكرة، لا نريد أن نتحدث كيف كانت طفولتها وكيف انفتحت على أبيها فتغذّت من كل فكره وروحه وشجاعته وصلابته، وكيف انطلقت مع أخويها تعيش معهما كل الأخلاق الإنسانية التي جعلت منهما نموذجين للإنسان الكامل، ولكننا نريد أن نلتقط مواقفها.


في كربلاء، كانت زينب(ع) رفيقة الحسين(ع)، يحدثها وتحدثه، فنحن لم نقرأ أن هناك حالة مناجاة بين الحسين وبين أي شخص من أصحابه ومن أهل بيته يفتح فيها عقله وقلبه وشعوره إلا مع زينب(ع). في ليلة عاشوراء، عندما بدأ يحدثها عن طبيعة المعركة وعن النتائج الصعبة التي سوف تنتج عن المعركة، وكيف يجب عليها أن توازن عاطفتها، فلا تندفع فيها، لأن المستقبل القريب الدامي المأساوي لا يسمح لإنسانة في مستوى زينب ـ وهو مستوى القيادة ـ أن تعطي عاطفتها حريتها. صحيح أنّ العاطفة في الإسلام لها قداسة إنسانية، فإنسان بلا عاطفة هو حجر، وعقل بلا عاطفة هو حالة لا يمكن أن تنفذ إلى وجدان الإنسان، لكن القضية أن هناك موقفاً إذا تحركت العاطفة فيه مع كل المأساة التي تحيطه، فإنها تؤثر فيه تأثيراً سلبياً، وعند ذلك تصبح القضية تفصيلاً من تفاصيل العاطفة، ولا يكون هناك شيء جديد.


صاحبة الموقف الصلب


لذلك، عندما ندرس حركة السيدة زينب(ع) في كربلاء أثناء المعركة وبعدها، فإننا نجد أنها كانت تعيش صلابة الموقف كأقوى ما تكون الصلابة. والصورة التي تُعطى للناس عند عرض المأساة عن شخصية زينب، أنها كانت تنهار أمام هذا الشهيد وتسقط أمام ذاك الشهيد وتدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، هي قصة ليست هي الحقيقة، ولكن حاجة الناس إلى ما يحرك الدموع تجعل للخيال أن يأخذ حريته في أن يصوّر ما يشاء كما يشاء.


كانت الإنسانة التي تعيش صلابة الموقف، وعندما كانت تتدخّل بأسلوب عاطفي، فلكي تحتضن موقف الحسين(ع)، ولكي تدخل إلى وجدانه، حتى يبقى الحسين(ع) في كبرياء الموقف إنساناً أكبر من الألم، ذلك هو مغزى المواقف الصغيرة المحدودة التي انطلقت فيها عاطفة زينب(ع). وبعد الشهادة، ينقل تاريخ السيرة الحسينية، أنها وقفت بكل شموخ الإنسان القوي الذي يشعر أنه لا يعيش حالة ذاتية، بل يعيش حالة رسالية، وقفت موقف القوة إلى جانب موقف العبادة، ووضعت كفيها تحت جسد الإمام الحسين ـ كما تروي الرواية ـ وقالت: "اللهم تقبّل منا هذا القربان". إنه قربان الرسالة وقربان القضية، ونحن ـ يا رب ـ لم نبتعد عنك على الرغم من قسوة المأساة، وفي هذا المجا فإن الإنسان الذي يعيش إشراقة الرسالة، لا يفقد إحساسه بالقضية عندما يعيش في تفاصيل حركتها في ساحة الصراع.


وهكذا رأيناها عند ابن زياد في الكوفة، عندما وقفت وهو يحاول أن يتكلم بطريقة سلبية عن الإمام الحسين(ع) عندما قال لها: "كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيته"، قالت له:"هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أمك يابن مرجانة".


إنني أتصوّرها وهي تختزنُ كل آلام المأساة، تقف لتُشعر هذا الإنسان ـ الذي يطل على الناس بسطوته ـ بأنه حقير، أرادت أن تحقّره من حيث أراد أن يعظِّم نفسه، ولذلك لم يجد جواباً إلا أنه أمر بأن تُقتل، لولا أن بعض أصحابه نصحه بغير ذلك. وعندما وقفت في مجلس يزيد، وقفت بكل كبرياء المرأة الرسالية، وبكل عنوان الإنسانة التي تعيش آفاق الرسالة في الحياة كلها وصلابة القوة في موقفها، وهي السبية، ورأس الحسين أمامها، والأطفال حولها والنساء حولها، قالت له: "فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا"، قالت له إننا أصحاب الرسالة لا أنت، وإن الموقع الذي أنت فيه ليس موقعك، ولكنه موقعنا، والله عندما حجب عنا النصر لم يحجبه مهانةً بنا، ولكنها سنة الله في الحياة في موازين حركة القوة والضعف.


زينب.. قائدة القضية


من خلال هذه اللقطات الصغيرة، نستطيع أن نستوحي زينب المرأة التي تنتصر على ضغط العاطفة على مشاعرها، فتملك أن توازن عاطفتها، حتى لا تتحرك عاطفتها لإسقاط موقفها. وزينب الإنسانة القائدة، التي إذا لم يكن لها في مسيرة السبي من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام، من تقوده من الرجال، ولكنها كانت تقود القضية. وهناك فرق بين من يقود الناس بدون قضية وبين من يقود القضية ليفتح عقول الناس عليها. القيادة ليست حركة قوة يسيطر فيها الإنسان على الناس، ولكنّ القيادة حركة عقل ووعي وانفتاح على الواقع، من أجل أن تمنع الواقع من أن يسقط وينهار أمام ضغط الذين يريدون مصادرته. لو قُتِل الحسين(ع) في كربلاء وأغلِق الملفُّ لما حدث هناك شيء، ولكن زينب التي كانت تتحرك بكل دراسة للموقف وبكل وعي وبكل صلابة، كانت تعطي القضية من عقلها ووعيها وإحساسها وقوتها الشيء الكثير.


ثم نتمثّل زينب المعارضة، الإنسان المؤمن، المحجبة العابدة الخاشعة التي تقف في نادي الرجال لتتحدث بأقوى أساليب المعارضة السياسية، في موقع كانت المعارضة فيه شيئاً غير معهود، فنحن عندما نلاحظ تلك الفترة، نلاحظ أن الناس كانوا لا يملكون أن يعارضوا الشخص الأول في المجتمع. عندما بويع ليزيد وقف من يأخذ البيعة له وهو يحمل سيفاً في يمينه وصرّة من الدراهم في شماله، وقال: مَن بايع فله هذا، ومن لم يبايع فله هذا، ولم يعترض أحد!!


إن هناك فرقاً بين معارضة في موقع لا يجرؤ الناس على أن ينبثوا أمامه ببنت شفة، وبين معارضة استهلاكية يمكن لك أن تتحدث فيها بأي شيء. نحن لا نريد فقط أن نتحدث عن الموقف السياسي المعارض للسيدة زينب(ع) عند ابن زياد أو عند يزيد، كموقف استهلاكي من مواقف المعارضة الاستهلاكية في البلاد التي تملك فيها حرية الكلمة، ولكن إذا أردتم أن تعرفوا قيمة الكلمة القوية المؤنبة ليزيد ولابن زياد، فتصوّروا أن يقف إنسان اليوم أمام أحد ملوك الأنظمة العربية أو رئيس له مطلق السلطة في واقعنا العربي أو واقعنا في العالم الثالث، تصوّروا كيف تكون المعارضة، حتى تفهموا قيمة معارضة السيدة زينب(ع) في الواقع.


فاطمة الزهراء وزينب.. أساس سياسي


ومن خلال ذلك كله، نستطيع أن نعتبر أن موقف السيدة زينب(ع)، كما هو موقف أمها السيدة الزهراء(ع) سيدة نساء العالمين، هو موقفٌ يعطي الشرعية لحركة المرأة المنفتحة على مسؤوليتها في الواقع، بأن تقف عندما تواجه الأمة الكثير من الانحرافات والكثير من الانهيارات، لتتحدث عن وعي مسؤول وعن موقف مسؤول، تماماً كما هو الرجل.


إنّ شخصيةً كفاطمة الزهراء(ع) وكزينب(ع)، هما الأساس في شرعية مشاركة المرأة في العمل السياسي بالطريقة الإسلامية التي لا تمثل أي خروج عن خط الإسلام ولو بنسبة الواحد في المئة.


من خلال ذلك، ونحن في أجواء الذكرى، نريد أن نتفهّم دور المرأة المسلمة المعاصر، لنتساءل أولاً: هل أن دورنا في الحياة المتنوعة أن نلغي التنوّع؟ وهل التنوّع يلغي الوحدة؟ أم أن قيمة الحياة بمقدار تنوّعاتها، وقيمة تنوّعاتها بمقدار ما تمنحه للحياة من غنى ينطلق من خصوصية هذا النوع وذاك النوع؟ تصوّروا أن تكون أشجار البلد من نوع واحد، كيف يكون جمال البلد؟ وتصوّروا أن تكون الغرف في داخل البيت على هندسة واحدة، كيف يكون شكل البيت؟ أنت في بيتك تشعر بالحيوية لأن هناك تنوعاً ينقلك من غرفة ذات خصوصية إلى غرفة ذات خصوصية أخرى، وهكذا في الأشجار والجبال والأنهار وما إلى ذلك.


قيمة الحياةِ التنوّع


قيمة الحياة التنوّع، ولا معنى لأن تساوي بين ظاهرة وظاهرة في كل الخصوصيات، وهذا هو قانون الزوجية في الكون {ومن كلِّ شيء خلقنا زوجين} [الذاريات:49]. إن قانون الزوجية هو قانون الوجود، لأن الوجود لا يمكن أن يحمل عنصراً واحداً، لأن العنصر الواحد يفقد التفاعل، والعنصر الثاني هو الذي يتيح تحقيق التفاعل الذي ينتج شيئاً جديداً، ولذلك يقول الله: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}[الحجرات:13]، {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها} [الأعراف:189]، فالإنسان من الإنسان، ليس هناك عنصر غريب في إنسانيتنا، خلق من المرأة الرجل، وخلق من الرجل المرأة، بمعنى خلقهما من عنصر واحد ونفس واحدة، فإنسانية الرجل هي من عمق إنسانية المرأة، وإنسانية المرأة هي من عمق إنسانية الرجل، ولكن هناك تنوعاً في الشكل وفي الخصائص، ومن الطبيعي أن يكون هناك تنوّع في الدور.


إن المرأة والرجل شريكان في مسألة استمرار الإنسان، ولكن هناك فرقاً يفيد أنّ أبوّة الرجل في معناها الذاتي لا تكلّفه شيئاً، ولكن أمومة المرأة تثقلها، لأن أمومتها في جسدها، ولأن أمومتها في حضانتها وفي كل المعاني الداخلية التي تجعل احتضانها للولد بعاطفتها وروحيتها أكثر من الرجل مهما كانت عاطفته على ولده، لأنّ ولدها كان نتيجة كلِّ قطرة من دمائها، وكل عصب من أعصابها، وكل أنّة من أناتها، وكل صراخ من صرخاتها، وكل مناغاة من مناغاتها.


لذلك، فالأمومة شيء متجذّر في عمق شخصية المرأة، بينما الأبوّة ليست شيئاً متجذراً، وإنما هي شيء يتحرك بفعل الإلفة والعادة وما إلى ذلك. والأم لا يمكن أن تترك ولدها، ولكن الأب يمكن أن يتركه ـ من الناحية الشعورية.


لذلك عندما تنطلق الأمومة والأبوّة بهذا الشكل، فمن الطبيعي أن الأمومة تضعف حركة المرأة في بعض جوانب الحياة، وفي الجانب الخارجي للحياة تحديداً، بينما لا تضعف الأبوّة حركة الرجل في الواقع العام، بل ربما تفتح له نافذة على مسؤوليته ليتحرك، بينما تجعل المرأة في دائرة خاصة في بدايات الأمومة وما بعدها، بحيث تثقلها عن الحركة الحرة.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع