شارك هذا الموضوع

نداء سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني الخامنئ إلى الحجاج

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيد المرسلين وعلى آله الطيبين وصحبه الصادقين.
لقد حلّ موسم الحج، كما في كل عام، حاملاً معه البشائر المعنوية، ليضع فرصة ثمينة أمام العالم الإسلامي. ورغم أن القلوب المتلهفة تطير شوقاً إلى تلك الجهة من كل مكان، إلا أن المحظوظين الذين يتسنى لهم نيل هذه الأمنية لا يشكلون إلا غيضاً من فيض. وهذا بدوره يشكل مصدر هذا التواصل الخالد لهذا النبع المتدفق باستمرار.
إن اللقاء الذي يتكرر سنوياً بين الإخوة في بيت الحبيب، يُعيد ربط القلوب بقبلة الكون من جهة، وبالأحبّة الذين يعيشون منفصلين عن البعض من جهة أخرى؛ ليبعث النشاط والحيوية في جسد الأمة الإسلامية من الناحيتين الروحية والسياسية.
إنه لزاد ثمين للإنسان أن يتحرر مطلقاً في كل مكان وعمل، من الأدران المادية، و يرى الله ولو لأيام معدودات. وإن جميع مناسك الحج وآدابه إنما هي من أجل أن يعيش الحاجّ هذه التجربة الروحية، وأن يحسّ بهذه اللذة في أعماق نفسه.
أما من الزاوية السياسية، فإن المحور الرئيسي في الحج، هو استعراض الهوية الموحّدة للأمة الإسلامية. إن التباعد بين الإخوة يفسح المجال لمن يتربص بهم من الحاقدين و ينمّي بذور التفرق بين المسلمين.
إن الأمة الإسلامية تتكون من شعوب وأعراق وأتباع مذاهب عديدة. و إن هذا التنوع المصحوب بالتوزّع الجغرافي في منطقة حساسة ومهمة من وجه المعمورة، من شأنه أن يشكل-بدوره-مصدر قوة لهذا الجسد العملاق؛ وأن يزيد من فاعلية تراث الأمة وثقافتها وتاريخها المشترك على نطاق واسع؛ وأن يجنّد أنواع المواهب والطاقات الإنسانية والطبيعية في خدمتها.
و قد استهدف الاستعمار الغربي هذه النقطة ذاتها منذ دخوله البلدان الإسلامية وظل يعمل باستمرار على إثارة ما يبعث على الفرقة والشقاق.
إن الساسة المستعمرين كانوا يعلمون جيداً أنه مع تبلور الهوية الموحدة للعالم الإسلامي، سينسدّ الطريق أمام هيمنتهم السياسية والاقتصادية. فدأبوا على العمل في نطاق شامل وبشكل طويل الأمد لتصعيد الخلافات بين المسلمين. وتحت مظلة هذه السياسة الخبيثة، استغلوا غفلة جماهير الأمة والنفسية المتخاذلة للقادة السياسيين والثقافيين، فنجحوا في مسعاهم الرامي إلى فرض السيطرة على البلدان الإسلامية.
إن عملية قمع الحركات التحررية في البلدان الإسلامية خلال القرن الماضِي، ونجاح المستعمرين في فرض سيطرتهم على هذه البلدان وخلق أو (دعم) الحكومات المستبدة فيها، ونهب الموارد الطبيعية وتدمير الطاقات البشرية، ما ادى إلى إبقاء الشعوب المسلمة متخلفة عن ركب العلم والتقنية؛ كل ذلك حصل في ظل حالة التفرق والتباعد التي كانت تبلغ أحيانا مرحلة العداء والصراع والتقاتل بين الإخوة.
و مع بداية الصحوة الإسلامية التي شكل قيام الجمهورية الإسلامية في إيران ذروتها، أصبح معسكر الاستعمار الغربي أمام تهديد كبير. إن فشل المدارس السياسية الشرقية منها والغربية، وانكشاف عدم مصداقية القيم التي كان المستعمرون يقدمونها باعتبارها السبيل الوحيد لسعادة البشرية، وانهيار هذه القيم؛ قد أدى إلى تأصل الوعي الإسلامي بين الجماهير المسلمة. كما أن حالات الفشل المتلاحقة التي مني بها المستكبرون في مسعاهم للتغطية على هذه الشعلة الإلهية وإطفائها؛ قد نمت شجرة الأمل في نفوس الشعوب المسلمة.
إن إلقاء نظرة على فلسطين اليوم التي وصلت فيها إلى السلطة حكومة ملتزمة بمبدأ ۲۲% التحرر من الاحتلال الصهيوني ۲۲% كمبدأ لايمكن المساس به، والمقارنة بين هذه الحالة وبين ما كان الشعب الفلسطيني يعاني منه في الفترة الماضية من غربة وعزلة وعجز وضعف؛ ومن فلسطين إلى لبنان، حيث تمكن المسلمون المتفانون هناك من إلحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي المدجج بكامل السلاح رغم كل المساعدات التي كانت تتدفق عليه من قبل أمريكا والغرب والمنافقين؛ والمقارنة بين ذلك وبين لبنان الذي كان الصهاينة قد اعتادوا على أن يتوغلوا فيه متى شاؤوا إلى أي عمق من أعماق أراضيه دون أن يجدوا أي مانع أمامهم؛ وإلى العراق الذي مرَّغ شعبه الغيور أنف أمريكا المتغطرسة في التراب وورّط في مستنقع من المشاكل السياسية والعسكرية والاقتصادية ذلك الجيش والساسة الذين كانوا يتشدقون - بنبرة الغرور والاستعلاء - بتملكهم للعراق؛ والمقارنة بين هذا وبين العراق الذي كان حاكمه السفاح قد حبس أنفاس الناس في الصدور محتمياً بأمريكا؛ وإلى أفغانستان التي تبين أن جميع الوعود الأمريكية والغربية فيها كانت كذباً وخداعاً، وان الغزو الذي تعرض له هذا البلد من قبل جبهة التحالف الغربي وبشكل قلما يوجد له نظير، لم يؤدّ إلا إلى الخراب والدمار للبلد وإلى الفقر والمجازر للمواطنين بالإضافة إلى تنامٍ مطّرد لمافيا المخدرات؛ و أخيرا، إلى شريحة الشباب في البلدان الإسلامية و إلى الجيل الصاعد، الآخذ في النمو، الذي أصبح ينمو ويترعرع مقبلاً على القيم الإسلامية وهو يحمل بغضاً يتزايد يوماً بعد يوم تجاه أمريكا والغرب؛ نعم، إن إلقاء نظرة على كل ذلك يبين صورة حقيقية لما للمستكبرين الغربيين وعلى رأسهم أمريكا، من حظّ عاثر وسياسات فاشلة، كما أنه يبشر بتبلور هوية إسلامية موحدة.
إن الإدارة الأمريكية والرأسمالية الغربية والنشطاء المفسدين من الصهاينة كلهم أصبحوا يشعرون بحقيقة الواقع المتمثل في الصحوة الإسلامية. وإنهم يستعينون بكل طاقاتهم المتاحة، لممارسة أنواع الألاعيب والأساليب السياسية، معترفين بعدم فاعلية الأسلحة والقوة العسكرية أمام هذه الحقيقة.
اليوم هو يوم يجب فيه على الأمة الإسلامية-بنخبها السياسية والثقافية والدينية، وبجماهيرها الشعبية أن تكون يقظة أكثر من أي وقت مضى، وأن تعرف مكائد العدو وتتصدى لها.
إن تأجيج نار الخلاف والشقاق، هو من أكثر المكائد فاعليةً. إنهم ينفقون الأموال ويبذلون جهوداً هَلِعَة وحثيثة، لإلهاء المسلمين بالخلافات التي تنشب فيما بينهم، ويستغلون مرة أخرى حالات الغفلة وسوء الفهم والتعصب لتحريضنا ضدِ بعضنا.
إن كل حركة تؤدي إلى الفرقة والخلاف في العالم الإسلامي، تُعد ذنباً تأريخياً. فإن أولئك الذين يكفرون بكل عناد جماعات كبيرة من المسلمين بحجج واهية، والذين يسيئون إلى مقدسات فرق من المسلمين على أساس ظنون باطلة، والذين يطعنون من الخلف الشبان اللبنانيين المتفانين الذين رفعوا رأس الأمة الإسلامية عزاً وفخراً، والذين باتوا يتحدثون عن خطر وهمي يسمى الهلال الشيعي استرضاء لأمريكا والصهاينة، والذين يصعدون موجة الإضطرابات وانعدام الأمن والتقاتل بين الأشقاء في العراق وذلك سعياً منهم لإفشال الحكومة المسلمة المنبثقة من الشعب في هذا البلد، والذين يمارسون الضغوط من كل جهة على حكومة حماس المنتخبة من قبل الشعب الفلسطيني والمحبوبة لديه؛ كل أولئك يُعتبرون مجرمين، سواء أعلموا ذلك أم لا، حيث سيذكرهم التاريخ الإسلامي والأجيال القادمة بمشاعر الكراهية والاستياء بصفتهم عملاء للعدو الغادر.
وليعلم المسلمون في كل أرجاء العالم أن عهد تخلف العالم الإسلامي والازدراء به قد ولّى، وأن عهدا جديدا قد بدأ.
فبفعل الغربيين أنفسهم وبسبب طغيانهم وتطرفهم وغرورهم، زال من عقلية الجماهير المسلمة ذلك الوهم الباطل المبني على أن البلدان الإسلامية مكتوب عليها أن تبقى للأبد أسيرة براثن القدرة الثقافية والسياسية الغربية، وأنها يجب أن تقلد الغربيين في التفكير والسلوك الفردي والجماعي.
وبسبب أنواع الظلم السافر والسلوك البعيد عن المنطق والتوجه الإستكباري والغرور الفائق، تحول الغرب إلى قيمة مضادة في العالم الإسلامي، خاصة بعد خضوعه للزعامة الأمريكية. فهناك تعامل الغربيين مع الشعب الفلسطيني ويقابل ذلك تعاملهم مع الحكومة الصهيونية السفاحة؛ وهناك موقفهم من اعتراف الكيان الصهيوني باقتنائه السلاح الذري، ويقابله موقفهم من استخدام إيران السلمي للطاقة النووية؛ وهناك موقفهم الداعم للهجمة العسكرية على لبنان ودعمهم الطرف المهاجم سياسياً وعسكرياً، ويقابل ذلك موقفهم المعارض للمدافعين اللبنانيين المتفانين؛ هناك ابتزازهم المستمر للدول العربية، ويقابل ذلك خضوعهم الدائم لابتزاز الكيان الصهيوني؛ هناك تأييدهم لمن يسيء إلى المقدسات الإسلامية بل وتوجيه الإفتراء والإساءة إلى هذا الدين الإلهي بكل صراحة من قبل كبارالشخصيات الغربية منأمثال البابا، ويقابله تجريمهم القيام بأي بحوث أو إثارة أي شكوك حول الهولوكوست والكيان الصهيوني؛ هناك غزوهم العسكري للعراق وأفغانستان وقيامهم بالقتل والتدمير باسم الديمقراطية، ويقابل ذلك تآمرهم ضد الحكومات المنتخبة ديمقراطياً في فلسطين والعراق وأمريكا اللاتينية وفي أي مكان آخر لاتصل فيه العناصر الأمريكية والصهيونية الى سدة الحكم والسلطة؛ هناك ضجة يثيرونها حول مكافحة الإرهاب، ويقابلها قيامهم بالحوار السري مع الإرهابيين السفاكين في العراق وحتى تقديم العون لهم وما إلى ذلك من مفارقات أخرى.
إن هذه التصرفات اللامعقولة والحاقدة أتمت الحجة لدى الشعوب المسلمة وساعدت على تنامي الصحوة الإسلامية. لقد بدأت اليوم حركة عميقة ومتجذرة في العالم الإسلامي-شاؤوا ذلك أم أبوا-وهذه الحركة هي التي ستنتهي إلى استقلال الأمة الإسلامية وعودة عزها وحياتها المتجددة عندما يحين وقت ذلك.
إن هذه المرحلة هي مفصل تاريخي مصيري. وإن النخب و العلماء و المثقفين، يتحملون مسؤولية جسيمة في هذه المرحلة. إن أي فتور أو تهاون أو موقف مشوب بالغرض والقصور من قبلهم، من شأنه أن يؤدي إلى كارثة. فعلى علماء الدين ألا يقفوا صامتين أمام المحاولات الرامية إلى بث الخلاف المذهبي؛ وعلى المثقفين ألا يتوانوا في بث روح الأمل بين الشباب؛ وعلى الساسة والقادة أن يعملوا على إبقاء شعوبهم في الساحة، وأن يعتمدوا عليها. وعلى الدول الإسلامية أن تعزز التضامن فيما بينها لتتمتع بهذه القوة الحقيقية أمام تهديد قوى الهيمنة.
إن أجهزة التجسس الأمريكية والبريطانية قد عكفت اليوم على بث فيروس الخلافات الطائفية في العراق وفي لبنان وفي بعض دول شمال أفريقيا وفي أي مكان آخر تقدر عليه. فلابد لاجتماعنا في الحج أن يحصننا ضد هذا الداء المهلك، وأن يجعل نصب أعيننا دوماً الآية الكريمة: (و أطيعوا الله و رسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين).
إن البراءة من المشركين تشكل اليوم نداء القلب والفطرة لجميع الشعوب المسلمة. وإن موسم الحج هو الموقع الوحيد الذي يمكن لهذا النداء أن يدوي فيه بكل قوة من قبل هذه الشعوب كافة.
إغتنموا هذه الفرصة، واغتسلوا أينما كنتم في هذا المحيط العظيم، مبتهلين إلى الله بالدعاء للأمة الإسلامية ولتعجيل ظهور المهدي الموعود (سلام الله عليه وعجل الله تعالى فرجه).
أسأل الله لكم جميعاً التوفيق والسعادة والحج المقبول.

السيد علي الخامنئي

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع