شارك هذا الموضوع

كل السواقي تنتهي إلى البحر

كل السّواقي تنتهي إلى البحر

لا يُمكن فصل العلاقات الإيرانية اليمنية عن مفاعيل جيبوليتيكية تتحكّم بشكل مباشر وغير مباشر في السياسة الخارجية لإيران تجاه دول المنطقة، وبالخصوص تلك الوضعية الطارئة المتعلقة بالطاقة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ووقوع إيران ضمن الرقعة الذهبية للمخزون النفطي الهائل ما بين الخليج وبحر قزوين، وقدرتها على الوصول إلى الأسواق الحرة وإلى غرب أوروبا وأعالي البحار.

وإذا كان جيبوليتيك الدولة الإيرانية، ومن ثم وقوعها ضمن مُربع الثمانين في المئة من مخزوني النفط والغاز في العالم، وهواجس السيادة الوطنية، وأخيراً الهيكلية المعقّدة للهوية الثقافية الإيرانية قد تمكّنت كما يقول (السفير آسايش زارج) من فرض استحقاقاتها على السياسة الخارجية لإيران، فإن التفصيل قليلاً فيما ورائيات عقائدية تُشكّل دولاب النشاط الإيراني الخارجي يُمكن أيضاً أن يُفسر كثيراً من الحوادث والسياسات القائمة وبالتحديد في مناطق جغرافية مُحددة تكون متماهية مع النموذج الإيراني الديني أحياناً والثوري في حين آخر .

نظرة تاريخية

تاريخياً ،ارتبط الفرس بالذهنية اليمنية من منظور تنافس وحِراب بعد الهجمات التي قامت بها الجيوش الفارسية لتقويض حضارة سبأ في جنوبي الجزيرة العربية (1000 - 750 قبل الميلاد) والسيطرة على اليمن ضمن الحرب الكونية القائمة بينهم وبين الروم، تكلّلت بإرسال الملك الساساني جيوش فارسية إلى أرض اليمن، استطاعت الحد من النفوذ الحبشي هناك، وبعد أن أصبح اليمن تحت السيطرة الفارسية في نهاية العصر الساماني أصبح بذلك ولاية من ولايات الامبراطورية الفارسية (المدائن - تيزفون) فتذارر الرعايا الفرس هناك عبر السنين وظهرت منهم عوائل مالكة كباذان وسرديويه ومهرويه في القرن الخامس الميلادي، إلاّ أن المفارقة تمّت عندما قامت قبائل يمنية بفتح بلاد فارس وأيضاً لبلاد الشام فنشأت علاقة جديدة بين الضفتين في ظل واقع سياسي جديد بعد الفتح، هذا فيما يتعلق بمرحلة سابقة، أما لاحقاً فإن علاقات البلدين يُمكن تحقيبها من بعد ثورة السادس والعشرون من سبتمبر اليمنية في العام 1962 عندما اعترفت طهران بنظام الحكم الجمهوري اليمني العام 1967 وافتتحت السفارة الإيرانية في صنعاء في العام 1972، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بادرت الحكومة اليمنية لإقامة علاقة حسنة مع القادة الجُدد، إلاّ أنها لاحقاً لم تستطع الخروج عن الموقف القومي للدول العربية بالنسبة إلى الحرب العراقية الإيرانية والوقوف إلى جانب العراق، إلاّ أن التبدل الذي طرأ على المنطقة بعد حرب الخليج الثانية وما آلت إليه العلاقات اليمنية الخليجية من توتر، قد سمح بأن تتوطّد العلاقة البلدين، خصوصاً وأن طهران وعند إعلان الوحدة اليمنية في العام 1990 كانت أول دولة تعترف بحكومة الوحدة، وحتى بعد قيام حرب الانفصال في العام 1994 وقفت طهران إلى جانب حكومة الشمال برئاسة علي عبد الله صالح ضد حركة علي سالم البيض.

ثم جاءت زيارة الرئيس اليمني لإيران في العام 2000 وتوقيعه على عدد من الاتفاقات المختلفة لتُشكّل منعطفاً مهما في مسيرة العلاقة بين البلدين، ثم تجذرت أكثر بزيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي في شهر مايو/ايار من العام 2003 كأول رئيس إيراني يزور اليمن وتوقيعه على ثماني وثائق للتعاون في المجالات المختلفة أهمها اتفاقية التعاون الأمني، وقد بلغت مُجمل الاتفاقات المُوقّعة بين البلدين منذ الوحدة اليمنية أكثر من أربعة وخمسين اتفاقا ومذكرة تفاهم، كما بلغت الزيارات المتبادلة لمسئولي البلدين منذ العام 2000 أكثر من خمسة وأربعين زيارة، وتضاعف التبادل التجاري عشرة أضعاف عما كان عليه في العام 1990، كما تماثل موقفا البلدين بشأن احتلال العراق، ومن المسألة النووية الإيرانية بعد تصريحات الرئيس اليمني الذي أكّد فيها حق إيران في امتلاك طاقة نووية لتوليد الطاقة.
إلاّ أن بوادر أزمة بدأت في الظهور في نهاية عهد الرئيس خاتمي بعد التمرّد الذي قاده أحد شيوخ المذهب الزيدي وهو بدر الدين حسين الحوثي في بعض مناطق اليمن الشمالية وخصوصا في محافظة صعدة في العام 2004 ومن ثم تجدده في مارس/ آذار 2005، وما أسفر عنه من إعدام أحد أئمة المساجد الشيعية وهو الشيخ يحيى حسين الديلمي، والسجن على آخر ثماني سنوات وهو محمد مفتاح، لدعمهما حركة الحوثي، واتهامهما بالتجسس لصالح إيران التي اتُهمت أيضاً بدعم ذلك التمرد، لكن زيارة وزير الخارجية اليمني أبو بكر القربي لطهران في مايو من العام 2005 وتصريحات كمال خرازي حينها بأن »ما يحدث في اليمن شأن داخلي« ومن ثم تصريحات محمد رضا باقري مساعد وزير الخارجية الإيراني في فبراير المنصرف بأن بلاده لا تدعم على الإطلاق أنصار الحوثي وأن الحوادث الجارية في ولاية صعدة، قضية داخلية وستعمل الحكومة اليمنية على تسويتها بحكمة» قد بدد ذلك التوتر.

إيران والتوجّه الإقليمي

بعد حكومتي الإعمار الأولى والثانية برئاسة هاشمي رفسنجاني (1989 - 1997)، تركزت علاقات إيران الخارجية بالمنطقة الواقعة على حدود الصين شرقاً والمحيط الهندي جنوباً ومنطقة الخليج غرباً والقوقاز والبحر الأسود والبحر المتوسط شمالاً على اعتبار أن أجزاءً مهمّة من هذه المناطق تنتظم تاريخياً واستراتيجياً مع الحضارة الفارسية، وهو ما تضمنته الخطة العشرينية الإيرانية فعلياً، اذ بدأت الرغبة في استحصال مكانة إقليمية عبر ذلك المحيط الجغرافي، فتكون إيران صاحبت التوازن الاستراتيجي ودولاباً للتعاون الأمني والاقتصادي، إلاّ أن الإيرانيين بدأوا في الاهتمام أيضاً بالمثلث الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية الذي يُشكل اليمن قلبه، وما يُحاذيه من حدود برية وبحرية تكون سلطنة عُمان فيه بالإضافة إلى بحر العرب والمحيط الهندي. وقد كانت لعدد من المعطيات السياسية والاقتصادية الطارئة أو المستجدة أثرها في أن يتبلور ذلك الاهتمام بتلك المنطقة، وهو ما يُمكن الإشارة إليه فيما يلي .

الدوافع السياسية

بيّنت التوجهات الجديدة لسياسة للولايات المتحدة بعد حوادث سبتمبر/أيلول أنها تتجّه نحو التمدد الأفقي المكارثي على كل منطقة من قارات العالم السبع، رغبة منها في جلب أكبر نسبة تأثيرية مُمكنة للاقتصاد الأميركي ومن ثم على اقتصادات العالم، وبالتالي فإن المكارثية الجديدة اعتمدت على تمكين سلطة المُجمّع الصناعي العسكري، ولاحقاً على بيع السلاح وإشعال الحروب والوجود العسكري المباشر في مناطق مختلفة من العالم، ومن بينها اليمن، وعليه فقد سعى الإيرانيون لنسج علاقاتهم مع اليمن بالمستوى الذي يُؤمن لهم حدودهم الواصلة إلى جنوب الخليج من أي تهديد تقوم به البوارج الأمريكية المتواجدة في الموانئ اليمنية، وربما تكون الاتفاقية الأمنية المُوقّعة بين البلدين في العام 2003 على غرار الاتفاقات الأمنية مع باكستان وتركيا قادرة على تفسير ذلك إلى حد ما، بالإضافة إلى ذلك هو محاولة الحد من نشاط عصابات تهريب المخدرات التي تُعاني منها إيران . كذلك قد يُوفّر وجود علاقة مستقرة مع اليمن فرصاً جيدة لتأمين خطوط مواصلات بحرية للناقلات الإيرانية في بحر العرب والمحيط الهندي والحدود البحرية الدولية للوصول إلى جنوب القارة السمراء التي بدأت علاقات طهران الاقتصادية بها تتوطّد بعد قيام شركة خودرو الإيرانية الضخمة للسيارات (أضخم شركة لتصنيع السيارات في الشرق الأوسط) ببناء مصنع لها في العاصمة السنغالية دكار، وتزايد الاهتمام الإيراني بقضية دارفور بعد زيارة وزير الخارجية السابق كمال خرازي. كذلك الرغبة في الوصول إلى وسط القارة السمراء والبحيرات العظمى واللعب على الخلاف الدائر بين »مشروع إفريقيا« الذي عرضه الفرنسيون و«مشروع القرن الأفريقي الكبير » بضم كل من أوغندا، ورواندا، وبوروندى، والكونغو الديمقراطية، وجنوب السودان (بعد فصله) الذي قدّمه الأمريكيون بهدف إنشاء قاعدة تجارية وصناعية لصالح شركات التعدين والنفط الأميركية.

الدوافع الاقتصادية

أدركت إيران بأن ازدياد قيمة الوديعة الأوربية من حركة التجارة المُرقّمة (الالكترونية) خلال السنوات القادمة، وتحوّل أجزاء كبيرة منها نحو قطاع الأعمال بدلاً من التركيز على المستهلكين قد خلق فرصاً جديدة ومتاحة يُمكن الإمساك بها عبر تجسير علاقات متوازنة مع محيطها الجغرافي ووعائها الاقتصادي، بالإضافة إلى ذلك فإن الخسائر التي مُني بها الاستثمار العربي بعد أحداث سبتمبر والتي كانت أصولها تُقدر بـ 1,4 تريليون دولار قد أعاد أجزاء كبيرة منها إلى موطنها الأصلي، وبالتالي تحولها إلى مشاريع بناء وإعمار وتداول نشط في العقار. وإذا ما عُلِم بأن شبكة الطرق الحالية في اليمن تعد من أقدم الشبكات في العالم العربي، ويعود بعضها إلى فترة الخمسينيات من القرن الماضي وبعضها إلى فترة الاستعمار البريطاني لجنوب البلاد، وتفتقد للصيانة الدورية، وأن الحكومة اليمنية تعتزم استثمار خمسة مليارات دولار لتوسيع تلك الشبكة حتى العام 2015 تستهدف التوسع في شبكة الطرق الرئيسية والريفية الثانوية لتصل إلى نحو 38 ألف كيلومتر» فإن ذلك يعني أن الإيرانيين لديهم فرص ذهبية للإطلاع بدور ما في ذلك، وقد أشارت التقارير بأن السفير الإيراني في صنعاء حسين كماليان قد ناقش ذلك الموضوع مع وزير الخدمات العامة والطرق اليمني عمر عبد الله الكرشمي، عن مدى إمكانية مساهمة الشركات الإيرانية في تقديم الخدمات الفنية والهندسية خاصة في إنشاء الطرق والجسور، خصوصاً وأن هناك اتفاقا بين البلدين تعود إلى شهر إبريل من العام 1996 بين وزارتي النقل في البلدين، وتقوم حالياً شركات إيرانية بتنفيذ عدد من المشاريع الهامة في اليمن منها مشروع مطار سقطرة ومشروع مصنع إنتاج اسطوانات الغاز، ولديهم مشاريع مماثلة في أفغانستان . أمر آخر يُمكن أن تتطلع إليه طهران وهو الرغبة في تسويق منتجاتها العسكرية التي أصبحت تُوَرّد إلى أكثر من أربعين دولة في العالم معظمها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، مع العلم بأن إيران قامت بتزويد السودان قبل أكثر من ثلاث سنوات بسيارات نقل الجنود والعربات العسكرية، كذلك يُمكن أن يُساعد النشاط الإيراني الواسع في مجال الطاقة وبالتحديد في النفط الخام والغاز الطبيعي والبتروكياويات وموضوعات التسويق في إيجاد قابليات براغماتية لتوطيد العلاقات بن البلدين، فمن جهة يستفيد اليمن الذي لا يزيد إنتاجه اليومي من النفط عن 400 ألف برميل ويتقاسم حصته من الصادرات النفطية من تقاسم الإنتاج بموجب عقود مُوقّعة مع شركات نفطية أجنبية المنتجة نحو 63 في المئة من إجمالي صادرات البلاد، ومن جهة ثانية يستفيد الإيرانيون الذي يُديرون تسويق منتهم من خلال ملتقى الطرق البحرية لليمن بين باب المندب والبحر الأحمر غربًا، والفضاء المفتوح له على المحيط الهندي، الذي يرفده أصلاً المحيط الهادي من الخلف.
إن الحديث عن علاقات هادئة ومتوازنة وسحب بؤر التوتر والخلافات يُمكن إسقاطه على طبيعة العلاقة القائمة ما بين الجمهورية اليمنية والجمهورية الإسلامية، فالبلدين استطاعا التغلّب على كثير من المشكلات بطريقة هادئة وبعيدة عن الأضواء والتجييش وهو كفيل باستمرارها وتطورها أكثر.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع