شارك هذا الموضوع

أعطني قبراً لكي لا أموت !

أعطني قبراً لكي لا أموت !

كُتِبَ على إحدى اليافطات المعلقة على مسجد السراجي في أبي الخصيب بجنوب العـراق (( تنعى عشيرة بني تميم فقيدها الراحل مصعب عثمان عبدالرحمن الذي اغتالته يد إرهابية جبانة، حيث ستقام الفاتحة على روحه في حسينية الحاج عبدالرضا علي .. إنا لله وإنا إليه راجعون )) وبالعودة إلى متن النعي سيُفهم أن المجني عليه سُنّيُّ المذهب كما يدل على ذلك اسمه، بينما المكان الذي ستقام فيه مراسم العزاء هو مكان شيعي! ويُعلِّل ذلك الشيخ عمار يونس الذي كان يقرأ القرآن الكريم خلال أيام العزاء» بأن المجني عليه هو من عشيرة بني تميم وهي من العشائر المعروفة في العراق والعالم العربي وهي خليط كبير من الشيعة والسنة، فهم شيعة غالبية في الجنوب، وسُنّة غالبية في الوسط والشمال (كما تذكر الصحيفة التي أوردت الخبر) .
هذا الحادث شاهد ضمن مئات الآلاف من الشواهد المماثلة على مأساة العراق منذ احتلاله غدراً من قِبل الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأكثر إرهاباً في العالم. من يقرأ العراق يُدرك أن هذا البلد المُدمّر لن يعود أبداً إلى أن يكون هو نفسه على رغم التطمينات الحالمة لبعض السياسيين العراقيين. كثيرات من النساء فَقَدنَ وحيد حياتهن، وكثير من الرجال أصبحوا تحت رحمة الحظ والقدر يأكلون ما يجدون وينامون حيث يشاء الله، وآلاف من الأطفال أضحوا بلا أب ولا أم وهي مأساة لا يشعر بغمّها وهمّها سوى من عايشها. مقبرة وادي السلام في النجف ضاقت بأهلها وزحفت نحو الصحراء الغربية ونحو حدود كربلاء شمالاً، في حين لجأ سكّان المحافظات البعيدة إلى تشييد مقابر جديدة يُنزلون فيها موتاهم، فأنشأ أنصار التيار الصدري مقابر لضحاياهم باسم مقبرة شهداء المهدي في النجف الأشرف، واثنتين في كربلاء واحدة باسم مقبرة المُمهدين، والثانية باسم مقبرة الغُرباء التي تضم الجثث المجهولة التي عادة ما تُوجد مرمية في أماكن النفايات أو بين آجام مهجورة، هذه مأساة الشيعة، أمّا السُنّة فقد أنشأوا هم أيضاً عشرات المقابر داخل أحيائهم، مقبرة في الفلوجة، ومقبرة الشهداء في الرمادي وأخرى في القائم وثانية في الصقلاوية وثالثة في منطقة عرب جبور باسم مقبرة الأنصار ورابعة في ناحية الخضر القريبة من مدينة اللطيفية باسم مقبرة المجاهدين! ولكيلا تضيع حرمة الميّت بين أهله وذويه فقد لجأ العراقيون سُنّةً وشيعةً إلى وَشمِ أجسادهم بأسمائهم وبأرقام هواتفهم، حتى يُمكن التعرف إليهم في المشرحة المركزية بمنطقة الباب الأعظم عندما يُنقلون إليها وهم مقيّدو الأيدي إلى الخلف مع رصاصة مُستقرة في الصدغ الأيمن للرأس! قبل أيام اكتُشِفت مذبحة رهيبة عندما وُجِدَت سبع عشرة جثة مقطوعة الرأس لعُمّال شيعة، وبعد يوم واحد فقط شهدت مدينة بلد (80 كم شمال بغداد) مجزرة مماثلة عندما اقتحم مُسلّحون البلدة وقَتَلوا ستة وأربعين من سُكّانها السُنّة ثأراً، تلاها قتل ثمانية من عائلة شيعية واحدة في اللطيفية، تلاها حادث خطف عائلة سُنّية بكاملها من أفخاذ عشيرة الجبور، وهي مقطع لمشهد يومي مُتكرر، قتل هنا وثأر هناك وهكذا دواليك، لذلك فليس كذباً ما نشرته صحيفة »ذي لانسيت« دراسة قبل أسبوع عندما قالت إن عدد المدنيين الذين قُتلوا منذ غزو العراق قبل ثلاث سنوات زاد على الـ 650 ألف قتيل !

العوائل التي كانت تعيش متجاورة مع بعضها بعضاً لم تكن تعلم ماذا تعني كلمة »سُنّي وشيعي« فهي متصاهرة مع بعضها بعضاً، إلى الحد الذي عُرِف لاحقاً بأن آل الحكيم وهي من أعرق العوائل الشيعية في العراق لهم أخوال من السنّة! وأن شُمّر والجبور والزبيدي وربيعة وكعب هي عشائر عراقية مُختلطة والنسب بينها غائر لا يُمكن فكّه أو غربلته. العراق قبل الاحتلال كان السُنّة فيه يخدمون في مراقد أئمة الشيعة (العسكريَّان مثالاً)، والشيعة يخدمون في مزارات أئمة السنة (عبدالقادر الجيلاني مثالاً)، وهي حياة قد لا تتكرر في الكثير من بلاد الإسلام. اليوم الأحياء المختلطة في العراق قد طالها الزحف المذهبي بشكل مؤلم... الشيعة يُطردون من الوسط والسُنّة يُطردون من الجنوب، والعرب يُطردون من الشمال، والأكراد يُطردون من الغرب، وأهالي سبع البور يُعانون التهجير والقصف بقذائف الهاون، حتى وصلت أعداد النازحين في الداخل إلى مليون ونصف المليون مُهجَّر، وقبل أيام أكد وزير الهجرة والمهجرين العراقي عبدالصمد رحمن سلطان، أن وزارته تعتزم إنشاء مخيمات نموذجية للمهجرين في مناطق سكناهم، في محافظات نينوى وميسان وذي قار، إلى جانب بناء بعض الوحدات السكنية الجاهزة في محافظات أخرى، في محاولة لتخفيف العبء عن العائلات المهجَّرة التي زاد عددها بشكل كبير في الأسابيع القليلة الماضية، بسبب تزايد الاحتقان الطائفي، والتنسيق مع الوزارات الأخرى لقبول أبناء العائلات النازحة في المدارس والكليّات القريبة ونقل الحصة التموينية إليها، في حين حذّر منسق الأمم المتحدة للشئون الإنسانية من تفاقم ظاهرة النزوح الجماعي في العراق، مؤكداً فرار نحو 315 ألف شخص من أحيائهم خلال الشهور الثمانية الماضية فقط! كما أشارت الدراسات الديمغرافية إلى ازدياد ظاهرة هجرة العراقيين إلى بعض الدول المجاورة مثل الأردن وسورية، إذ تشير المعلومات إلى وجود أكثر من مليون ونصف مليون عراقي فيها بالإضافة إلى دول الخليج وأوروبا والأميركيتين هاجروا من العراق بعد سقوط بغداد. من يُدرك ماذا تعنيه كلمة احتلال، أو بصورة أوضح ماذا تعنيه سياسة الولايات المتحدة الأميركية سيعلم أن ما يجري في العراق هو لعبة استعمارية قديمة، تثوير الأقليات، وتأليب الإثنيات على بعضها، ضرب النسيج الاجتماعي للبلد، تغريب الثقافة وتحطيم موروثها، السيطرة على الثروة القومية للبلد، خلق طبقة سياسية بمقاسات مُحددة، توريط البلد بمشروعات اقتصادية مُنهِكة تجعله تابعاً لا يقوى على فك الارتباط، ومن لا يرى ذلك في العراق فالأكيد أنه لا يقرأ جيداً، بل وربما تكون حاله كحال بعض السياسيين العراقيين الذين اعتادوا على استيعاب هذه المأساة حتى غدت من المُسلَّمات التي يتم تخريج القبول بها من زاوية تبادل المصالح أو عدم تكافؤ ميزان القوى.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع