شارك هذا الموضوع

قسوة أب

قســــــــــــــوة أب

ألقى بجسده فوق السرير منهكا من ساعات عمل ثمان قضاها في التنقل من مهمة لأخرى , ولكن لازالت مهمة دون سواها تقرع ذاكرته وتعبر مرأه بصمت كئيب , ألقى برأسه ليستقر فوق وسادته المزينة بصور الورود الحمراء علها تبعث بشذاها لينتزع إصرار ذاكرته الدوؤب.

استراح جفناه لملاقاة بعضهما وانفتح شريط الذاكرة في غمضه, قذفت به ذاكرته حيث أول الحدث , صوت الهاتف في موقع العمل يخترق الصمت بالحاحه ...رفع الموظف المسوؤل السماعة بادئا المكالمة : نعم ... أجابه الصوت الآخر : لدينا حالة طارئة , نحتاج لمساعدتكم , وتشرد ذاكرته من الحدث لتذكره بتكرار هذه الصورة يوميا في حياة عمله ... لحظات ويسيطر عليه تدفق الذاكرة ... أعطاه الموظف المسوؤل العنوان وأكد عليه قائلا :هناك أطفال بحاجة للمساعدة.

لاتفتئ الشوارع تشرد من عجلات سيارتهم , والطرقات تنفرج عن مارتها وعابريها مفسحة المجال لمرورها ... فرق بين التقاء جفنيه واستفاق من إغفاءة الذاكرة, وانتصبت أعصابه متوترة , وعيناه يأكلهما الاحمرار كالمقبل على حبل المشنقة المدلى أمامه والمطلوب منه أن يهب رأسه له بيديه , بلى بذاكرته سيعود إلى فاتحة الألم.

وصل وأصحابه إلى الموقع المطلوب , بيت نخرت الأيام جدرانه وألقت أحجاره خارج سربها , ورجل قصير القامة بانتظارهم ,يتلفت برأسه المكورة أعلى جسده شمالا ويمينا...ولا أثر لتجمع الساكنين , استقبلهم الرجل مرحبا بصوته الخافت وقادهم إلى باب المنزل الصغير , دفع الباب بيده دفعة رحيمة , تبعه الرجال منتظرين رؤية الحالة الطارئة , رائحة المنزل توحي بشعور الحيرة ...الرائحة خليط من الحريق والنتن والعفن.

قادهم الرجل إلى حجرة ضيقة ,وانزوى على أعتاب بابها ودعاهم للتفضل بالدخول ... لاتستطيع النكبات مهما عظمت أن تمحو من ذاكرته أول وهلة سطع في عينيه المشهد ... تلك الصورة التي غارت في ذاكرته حتى النخاع ’ ولربما الكلمات لا تمتلك سعة بسعة ذاك الألم ... رأت عيناه زاوية تكور فيها ثلاثة أطفال, صبيين عن اليمين وعن الشمال وصبية في وسطهما تطوقهما بيديها إلى جنبها.

ثلاثة أطفال يختضون من الرعب والدهشة , أعينهم تدركها ولا تدرك عمق ما هي مختبة في جماجمهم. أجسادهم نهشها النحول وحولها إلى هياكل مكسوة بلحم , الخوف يحاصرهم من كل الجهات ... الصبيان ملتحمان بجسد أختهما خوفا ... شئ ما من السواد يغطي صفحات وجوههم , وأثار دموع بادية من أسفل أجفانهم , الطفلة لاتتجاوز السادسة وأخواها أحدهما يصغرها بعام والثاني أصغرهم جميعا , لما رأوا المسعفين برقت في أعينهم الذابلة إشراقة أمل يشوبها خوف وتردد.

ولا تزال ذاكرته تقوده إلى موقع المأساة , وعيناه حاميتان وقلبه يتصدع من تذكرها .... نظر المسعفون إلى بعضهم البعض , عل أحدهم يجود بتفسير لما يرون , بادرهم الرجل كاسرا دهشتهم ... أبرز إصبعه السبابة منتصبة وأدارها حول نفسه وقال : هذا المنزل منزل جارنا , وهؤلاء الضحايا أبناؤه من زوجته الفلبينية الهاربة ...كانت بينه وبينها نزاعات لم تحجبها جدران منزلهم عن سمعنا ... ولطالما أزعجتنا صرخاتهم ليل نهار... جارنا عفا الله عنه يتعاطى شرب الرجس ولا يكاد يفيق حتى يعب كأسا آخر، حتى ذهبت بعقله ووقاره واستلت توازن جسده.

كنت مارا بمحاذاة هذه النافذة , واستل كفه من جيبه وصوبها إلى نافدة من الحديد الصدئ لم توفق لستارة تحجب ما تظهره فتحاتها ...لما قرع آذاني عويل مشترك يشوبه صوت طفلة ناعم ... حركني فضولي للتطلع إلى مصدر العويل , ترددت في أول الأمر في التلصص من خلف الزجاج ... لكن العويل مازال شديدا ويشدني إليه... أخيرا دسست عيني على النافذة لأستطلع مايدور خلفها ، وانفرجت لي النافذة عن صورة مروعة تستأصل القلوب من الصدور ، وجدتهم يعولون عويل من آيس من الحياة وهم أحياء ولكنهم أموات ، توجهت للباب محاولاً فتحه حيث لاجدوى وهو مقفل تمكنت أخيراً من كسر القفل والدخول إليهم ويكفيكم أن تعيروا آذانكم قليلاً لهذه الضحية البطلة لتعرفوا ماكانت تضمه هذه الجدران بين أحجارها من مأساة .

عاد إلى نفسه قليلاً يريحها من عناء الألم ويخفف عنها من شديد المأساة ، إستدارت عيناه نحو الساعة القابعه فوق باب الحجرة وتمكن عقربها الأكبر من أسره بإيقاعه الرتيب .. تك .. تك .. تك .. حيث لا صوت آخر يحتل الزمان .. وتارة أخرى عاد ليواجه أقسى فصل في مأساة يومه ... توجه للطفلة يستفهم ماتبقى منها ، علّه يجد حلاً لهذا اللغز ... ها....بنيتي منذ متى وانتم هنا ؟ ومن الذي أقفل الباب ؟ ..و....و.... أفاض عليها سيلاً من الأسئلة وهو يراقب شعرها الكثيف المبعثر على وجهها .

تصادمت الكلمات في فمها من الرهبة والذهول ولم تجد إلى الإفصاح سبيلاً ، ولا تزال عيناه تحمل في صورها صورتها وهي تمزج الكلمة الأولى ببكائها .. أبي .. أبي من أقفل الباب علينا ، إستقرت الكلمات في مسامعهم كالصواعق صاعقة تتلو صاعقة ، وإستمرت تنبش مأساتها أمامهم ! أبي غضب علينا بدون جناية جنيناها .. لقد كان يتمايل من السكر عندما حمل جسده بين ميلة لليمين وأخرى للشمال وتوجه نحو الباب وأدار رأسه الثمل نحونا وقال : سترون أي عقاب ستواجهون ! ، وألقى بجسده خارج المنزل وأحكم المفتاح في القفل وأداره مرتين ، ولم نسمع بعدها إلا خطواته السكرى تتعثر بثقلها مبتعدة عن المنزل .

تكاد أنفاسه تنقطع من عظيم مايتذكر وماتنوء به ذاكرته الجريحه ، سألها وهو يغالب دمعاً يقف خلف أجفانه وبصوت تأسره المرارة ، منذ متى أنتم هكذا ؟! .. وتلاقت عيناه بعينيها محدثتان سرارة اللهيب ، أرخت جفنيها على بعضهما ورفعت ذراعها وفتحت أصابعها أمام صفحة وجهه المنهك ... خمسة أيام ونحن هكذا .. عصفت بذهنه الكلمات وأجتثته من سكونه وأسرت لسانه وجرته خلفها ليقول : خمسة أيام هكذا ؟! وماذا كنتم تأكلون ؟! ران الصمت على الطفلة وعيناها تتفحصان الأوجه المقابلة . قالت : بحثت في البيت عن طعام لأخوتي في كل مكان فلم أجد ... لم أجد إلا عدداً من البيض تبقى في الثلاجة .

استعاد جسده من السرير واستقام واقفاً أمام نافذته ذات الستائر الفستقية الموشاة بمزيج من الزخرفة والألوان الزاهية ، وراح يتأمل دوران الزخرفة فوق جسد الستارة وشده انحناء بيضاوي الشكل في وحداتها .. بيضاوي أعاده إلى آخر ماتوقفت عنده ذاكرته ، بلى وجدت بيضاً متبقياً في الثلاجة ...لكن ارتفاع الموقد يحول بيني وبين طهو البيض ،وجدت علبة زيت فارغة استعنت بها للإرتفاع إلى الموقد ... وضعت صحناً من ( المعدن ) فوق الموقد ، وقرعت بيضتين ببعضهما وأشعلت الموقد ، فسرت النار تحت الإناء تنضج البيض ونار جوعنا أشد إنضاجاً لأكبادنا .

يمعن نظراته في وجه الطفلة البريئة .. برائتها قادتها لتمثل دور الأم الرؤم على أخويها ... لقد بكرت في استلام مهام الأمومة الثقيلة ... وياترى ماالذي دفعها لتناول المبادرة بإيجاد طعام لأخويها؟ ... سافرت به الأفكار بعيداً ... وما أعاده إلا وجهها الملائكي المتراكم عليه سواد الموقد ... قالت : ولم أكن أتمكن من رفع البيض إلاعند ما يطاله الإحتراق ... خمسة أيام عبرناها ببعض بيضات محروقات ، يحيل وجهه للصغيرين ، فيجد الإعياء مستولياً عليهما وجسداهما الهشان يرتعشان ، وصورة تعلقهما بأختهما ناشبة ملامحهما في يقظته ، وكأنهما أدركا فيها أماً تواجه حرمانهما ، وكانهما لمسا في شفقتها عوضاً عن أم هجرتهم في أشد لحظات حاجتهم لها ... ملتصقان بها يقتلان أي فتحة للفراغ .. وبما وهبتهما من حياة جديدة أصبحت هي الأم بعد أمهم وبما شاطرتهم من حنان وشفقة أصبحت هي الأب بعدما عاشوا من قسوة الأب وتخليه عن أدنى إنسانية ترجى منه .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع