شارك هذا الموضوع

تاجُ المُلْك لا يَسَعُ لرأسين

شكّل قيام حكومة دينية بقيادة الإمام الخميني في العقد السابع من القرن المنصرف حسماً لجدل قائم، ما بين القبول بحكومة "جمهورية" أو حكومة "دينية" لينتهي الأمر لصالح الثانية بتشذيب أفضاها لأن تتماثل إلى حدّ كبير مع الأولى التي لم تدخل الأدب السياسي الإيراني كمقولة تخيلية وثقافية سوى قبل مائة وخمسين سنة . وقد نتجَ عن ذلك التماثل ظهور اجتراحات في المفهومين مكّنت من إنتاج دستور مُختلط لأوتوقراطية اختيارية ضمن دولة كليّة السلطة، وديمقرطية ذات سمات كامنة تعمل كأي نظام جمهوري آخر يُساهم في تحريك مواقع النفوذ وتشتيتها منعاً لأي صنوٍ أرستقراطي أو طبقي قد ينشأ . وفي موازاة ذلك وضمن التفصيل السيميوتيقي للكشف وإعادة الصناعة؛ فقد نشأت ضمن مفاعيل الدولة المُعقّدة أساليب وطرق إدارية وسياسية وحزبية جديدة لا تستطيع العمل إلاّ في مستقيم التحالفات بين الأفراد والتجمّعات والتيارات بل وحتى بين مراكز القوى المختلفة، لذا فإن المتابع للشأن الإيراني الداخلي يلحظ بقوة حجم الاصطفافات الحزبية والصفقات البينية في أي مواجهة سياسية واجتماعية، فمن الصعب أن يستطيع أحد أن يتمركز ضمن كيان خاص دون الاستقواء بأطراف نافذة، وهو أمر ينسحب على كافة المواقع التنفيذية والتشريعية والتصويبية في السلطة . وخلال هذه المرحلة التي تُعتبر "مُلكا"ً شبه مطلق للقوى المحافظة كثُر الحديث عن اللاعب الحقيقي اليوم في إيران، وهو اعتقاد لا وجود له عندما يُقصد به الذاتية والتجريد، لأن من يريد أن يمسك بنفوذ أو موقع هنا أو هناك لا يُمكنه إلاّ من خلال الاستناد إلى حليف أو مجموعة حلفاء من المركز أو الطرف .

المُرشد

قد يختزل البعض الدور الذي يقوم به المُرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله السيد علي الخامنئي في صور معنوية أو دينية صرفة ترتبط بشؤون مرجعية تقليدية، لكن الصحيح هو غير ذلك، فالمُرشد اليوم وحين يُراد له أن يُشَرّح أو أن يُقرأ فلا بد من تجميع التراكمات التي نشأت منذ توليه الزعامة بُعيد وفاة الإمام الخميني، لأن تلك المنظومة هي التي أفضت لأن يستحصل مكانته ضمن فضاء السلطة دون الاعتماد على قضايا الدستور وصلاحياته، كما أن تلك التراكمات لم تكن تعمل بمتغير أو بنشاط محدد بقدر ما كانت تعمل بطريقة مُنظّمة، فعلى المستوى الديني والدعوى قام المرشد بحملة نشطة في الحوزتين العلميتين لمدينتي قم ومشهد المُقدستين وباقي الحوزات الفرعية في المحافظات الثلاثين لإيران عبر تشجيع تدريس العلوم الإنسانية الحديثة، ونظّم من خلال جماعة المدرسين طرق استخدام الأدوات الكلاسيكية فنشأت لجان عقد الندوات والمناظرات العقائدية ومراكز إدارة المعاملات المالية في الخُمس والنذور والهبات، مع الاهتمام بصوغ جيل ثاني يخضع لأدبيات مُحددة ومطمئنة أخذ يشقّ طريقه لمواقع متقدمة في السلطة، وفي الجانب الآخر سعى إلى تدويل بعض المفاهيم الدينية الرتيبة وتبنّيها من جديد، فكان المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الذي ينشط كأي حكومة إيرانية، ثم رمى بحبائل صداقة ودعوة في أماكن متعددة في آسيا وإفريقيا وأوربا فأسّس مراكز إسلامية في لندن وباريس وبلجيكا تُدار من قبل شخصيات ثقافية دينية تُتقن لغة العصر . وفي الداخل الإيراني أدار المرشد اللعبة السياسية بقدرة احترافية في أزمات كانت تُبشّر بانقسام عمودي حاد، ففي عهد القوى الإصلاحية أمسك بعصا النفوذ والاستقواءات، فميّلها حيناً إلى هنا وحيناً إلى هناك طبقاً للظروف والمقتضيات، وعندما أراد الإصلاحيون المتطرفون أن يُجروا تعديلاً على قانون الصحافة المُقَر من المجلس الخامس استخدم صلاحيته ومنعهم، لكنه قَبِلَ لهم بممارسة الرقابة على الأجهزة والمنظمات التابعة له مباشرة كمؤسسة الإذاعة والتلفزيون ومؤسسة المستضعفين والشهيد، وعندما فاز المحافظون في المجلس النيابي السابع وأرادوا الاستفراد بحكومة الرئيس محمد خاتمي عبر استجواب أكثر من خمسة وزراء من حكومته تمهيداً لعزلهم عارض المرشد تلك الخطوة ومنعهم من القيام بذلك، لكنه أجاز لهم تعديل البرامج والقوانين الاقتصادية، كما أنه لم يتردد في محاكة عدد من مُريديه من قوى الأمن الداخلي أو عزلهم بعد أحداث الحي الجامعي في طهران في العام 1999 وهي جميعها تعكس ضرورات التحالف وموجباته .

الشيخ الرئيس

منذ اليوم الأول للثورة الإسلامية كان علي أكبر هاشمي رفسنجاني الرقم الصعب في معادلات السلطة، فحين يُذكر البرلمان تعلم بأنه كان رئيساً له لدورتين، وعندما تُذكر الحرب مع العراق تعلم بأنه كان اللاعب الحقيقي في شؤونها وقرار إنهائها بتفويض من الإمام الخميني، وعندما يُذكر الإعمار تعلم بأنه صاحب أول حكومة تكنوقراطية تشكّلت بعد الحرب بعام أو أقل وصاحب أو خطّة خمسية ضمن اقتصاد السوق، وعندما يُذكر الإصلاح تعلم بأنه أو من وضع لبناته إبّان حكومته الثانية . وبالجوع إلى وضعيته الآن وبالرغم من تعرضه لهزيمتين انتخابيتين قاسيتين، إلاّ أنه لا يزال الوتد المهم لخيمتي الإصلاحيين والمحافظين على السوّاء، ففي جبهة الإصلاح يرونه كوادر البناء وبيت العامل بأنه الأب الروحي لهما، وفي جبهة اليمين تراه روحانيت مبارز والجمعايت المؤتلة الإسلامية بأنه الخيار الوحيد بالنسبة لها لأي تجربة انتخابية قادمة، وبين اليسار واليمين تكمن مساحة إتقان اللعبة بصورة مُذهلة، عبر خلق أوضاع جديدة كلما جدّ جديد .

الرئيس التعميري

مثّل فوز الدكتور محمود أحمد أحمدي نجاد انتصاراً للتيار المحافظ بنسخته المُحسّنة، وإذا كان العهد الخاتمي قد امتاز بموزاييك ثقافي وسياسي مختلف، فإن العهد النجادي اليوم قد حقّق تميزاً أكثر من اللازم سواء في الداخل الإيراني أم في العلاقات الخارجية لإيران، عبر مواقفه المختلفة من الصهيونية العالمية أو تجاه واشنطن أو في الملف النووي . على مستوى الداخل تمكّن أحمدي نجاد من إبعاد الكثير من المظاهر السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية الموروثة من عهد الرئيس خاتمي وقد تمكّن من تحقيق ذلك بهدوء تام وبعدياً عن الأضواء، كما أنه وازن في عمل الحكومة التاسعة ما بين توجهاتها وقناعات أعضائها ومتطلبات التحالف مع تيار اليزديين في الحوزة وما بين ميدانيتها تنفيذياً واجتماعياً، فزاد من عمل المراقبة على المظاهر "المُضرّة" بالالتزام بطريقة جديدة لا تُثير شكوكاً ولا هواجس، لكنه أيضاً أبدا رغبةً في إعطاء المرأة حقوقاً أكثر، وفي جانب آخر قام الرئيس أحمدي نجاد بمنع كل الأنشطة الثقافية التي يُشَمّ منها رائحة "التغريب" لكنه وفي موازاة ذلك ولامتصاص أي ردة فعل من مجاميع الإصلاحيين قام بصرف راتب شهري لأكثر من مليوني طالب جامعي ينتظرون فرص عمل، وكانت تلك الأدوات ذات وجاهة حقيقية لأن يَنفذ إلى الطبقات الفتيّة في المجتمع الإيراني . وبلحاظ التحالف ما بين التعميريين واليزديين في حوزتي قم ومشهد يُمكن إضافة لاعب جديد في الساحة السياسية الإيرانية ضمن سلسلة طويلة ومتغيرة .

أستاذ الفلسفة

لم تشهد إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية فيها نهاية سبعينيات القرن الماضي رئيساً تشريعياً للمجلس النيابي من غير طبقة رجال الدين إلاّ في فبراير 2004 عندما تولّى الدكتور غلام علي حداد عادل رئاسة المجلس الذي سيطرت عليه القوى المحافظة بعد أزمة الأهليّة، ورغم أن الرجل كان مولعاً بمعارف الإلهيات والفلسفة وقضايا التمهيدات ونقد العقل المحض والانفصاليات ومحورية الله، إلاّ أنه أيضاً لم يغفل جوانب العمل الثوري والسياسي منذ أن كان مُدرساً في جامعات إيران قبل انتصار الثورة، فكان بعد ذلك رئيساً للجنة وضع الكتب المدرسية ومناهج وزارة التربية والتعليم التي أصبح لاحقاً وكيلاً لها مدة أحد عشر عاماً . وقد برز نجمه لاحقاً بعد فوز خاتمي في العام 1997، عندما فاز عن دائرة طهران للمجلس النيابي السادس فصار زعيماً للأقلية المحافظة في هذا المجلس . العارفون بحداد عادل يعلمون كيف أنه استطاع أن يُدير تكتّل الأقلية بمهارة فتحالف مع المستقلين من نواب المحافظات حتى استطاع أن يُمسك باللجنة الاقتصادية وجعلها أكثر اللجان نشاطاً، كما أنه استطاع أن يُشكل جبهة معارضة مُزعجة للأغلبية الإصلاحية بالمجلس السادس في مواجهة المشاريع التي كانوا يُقدموها كمناقشة قانون الصحافة ومعارضة اللائحتين اللتين تقدم بهما محمد خاتمي بغرض تعديل صلاحيات رئيس الجمهورية .

الأكيد أن هذه الشخوص اليوم هي البارزة في النظام الإسلامي الإيراني، والأكيد أيضاً أن خلف هذه الشخوص مجموعة عير مُحددة من الأفراد والجماعات التي إمّا أن تكون عوامل دعم لها أو أن تكون مراكز قوى غير مرئية تنشط في الأزمات وفي القرارات المصيرية والقومية قد يُصدّق أحد أنها تقوم بذلك، لكن الحديث عنها بإسهاب يحتاج إلى مقال منفرد .

محمد عبد الله محمد – مملكة البحرين

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع