شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (28) - وجها ً لوجه

بدأ العنبر يتخلص من ساكنيه القدامى ، والشرطة شرعوا يحشرون الأعداد مع بعضها ، يقلصون عدد الزنازين الممتلئة ، ليوفروا على أيديهم فتح الزنازين وحمل المفاتيح ....... بتنا (أنا ) و (ج) لوحدنا في الزنزانة بعدما نقلوا (م) لزنزانة أخرى تلبية لرغبته ...... صاحبي وأنا نحمل حاجات بعضنا أعينه ويعينني ..... حين يمضي للمقابلة أو العيادة يبقيني منفرداً ..... كالسجين في حبس إنفرادي ..... ننجز مع بعضنا كتابة الأدعية على قطع القماش .


إحدى المرات التي تبقى صورها نابضة في الذاكرة ، ذهب صباحا ً للعيادة وآب ظهراً بعد ما كتب له الطبيب بعض جرعات الحبوب ، يأتيه بها الشرطي ليلاً ..... في الليل كنا نمارس جريمة الكتابة ....... وضعت الإصدار الثاني من دعاء كميل الذي أنجزته سابقاً تحت السرير الحديدي ، والنسخة الجديدة أكتب فيها فوق خشبة السرير بعد إزالة الفراش .... صاحبي يفرك قطعة الألمنيوم في البلاط ويصب الماء بين الحين والآخر ..... تكونت بقعة بمساحة وجه الإنسان ..... بقعة سوداء داكنة مشبعة ببرادة الألمنيوم ...... يداي تخوضان فيها تغط القلم وتدبج فوق القماش أحرفا أسيرة في طريقها إلى الحرية .



مستمتعين بوظيفتنا دأبنا نؤدي عملنا بنشاط ..... متقابلين وجهاً لوجه ، هو يواجه البوابة وأنا معطيا لها ظهري لا يكدر طيب أنسنا منغص وإن كنا في الأسر مظلومين .... وما أذهلنا إلا صكيك صوت العمود الفاتح للزنزانة .... طق... وانفتح الباب بسرعة خاطفة أوقفت التفكير في رؤسنا ..... حملنا أجسادنا مسرعين نسد بها عين الشرطي عما هو خلفنا... قبل نهوضي أغلقت قطعة القماش التي أكتب فيها على بعضها وانطلقت أضع جسدي ترساً في نظر الباحث عن إدانة ما ...... لمس الشرطي قلقاً في أعيننا واضطراباً في حركتنا وتلهفاً على صده عن الدخول لعمق الزنزانة ... كان قادماً ليعطي صاحبي وجبة الدواء ..... لكنه كان خبيث السريرة يفتعل الحجج للأذية وكان ذو نزعة عدائية .... كيف به وقد وجد مايبرر نزعته .


نحى أجسادنا بيده ، كل جسد إلى ناحية ، في اليمين وفي الشمال وشق طريقه في الفراغ المنفرج بيننا .... وبانت له بقعة سوداء ,الماء يغمرها ، وقطعة من الألمنيوم متوسدة بجنبها لها حد قاطع ..... لم تسعفه نباهته بإدراك ما نصنع أبدا واستمر يفكر ليصل إلى حقيقة مانفعل .... لم يجد في إدراكه شيئا ..... إذن عليه سؤالنا والبحث .... بحث خلف السرير المستند إلى الجدار وفي ما يدور حوله .... لم يجد شيئا ..... ولم تسعفه البصيرة في إيجاد قطعة القماش المتوارية أسفل السرير ... أما القطعة التي في الأعلى فكانت كقطعة قماش ملقاة بعد إلقائها على بعضها ، ولحسن الحظ لم يبدو من ظهرها أثر للكتابة .


سألنا ماذا تصنعان ؟ في تلك اللحظة أبكمت الدهشة لساني عن أي تبرير أتفوه به ... صاحبي البسيط جدا كان أفطن مني لإبتكار وسيلة تبرير لحظتذاك ... قال : نحن نفرك القطعة في البلاط لتكون حادة ، نقلم بها أظافرنا .... أنتم لاتسمحون لنا بمقاريض نقلم بهاما لا رغبة لنا به من الأظفار .


الشرطي الأسمر الفارع الطول لم يقتنع بقول صاحبي ولكنه لايجد أمامه أيضا ما يوحي لغير هذا .... فهو لم ير أثراً للكتابة أمامه .... صادر الشرطي قطعة الألمنيوم الحادة كالسكين وأعطى صاحبي دواءه وانصرف مغلقاً باب الزنزانة علينا ننتظر ماتعود به مصادرة القطعة من بلاء ..... بادرنا وأخفينا القطعتين حيث لايتمكن الجن من العثور عليهما .


في اليوم التالي بادرنا رئيس النوبة بالدخول إلى الزنزانة, كان كبيرا في السن ، شعرات الشيب تطل من رأسه ، يحاول إخفائها ويظهر الشباب ..... ثلاثة خيوط مثبتة على زنده .... يتكلم العربية بحكم طول بقائه في البلد .... عربيته تصيب كلمة وتحرق أخرى! ....


استخرج القطعة الحادة من جيبه ... لوح بها أمام عينه قائلاً ماهذا ؟ توليت الإجابة بجواب صاحبي السابق .... قال : لا! إنكم تجعلونها حادة لتعتدوا بها على الشرطة .... ربما تمنينا أن يعرف الحقيقة ولانلبس تهمة كتلك ... قال : أصحابكم في السجون الأخرى يضعون (السطل ) على السرير استعدادا لضرب الشرطة . قلت له نحن هنا مايزيد على سبعة أشهر وليس لنا أية مشاكل مع الشرطة فلماذا يصدر الضرب معهم .


قال بلهجة لينة : أنا هذه المرة سأسامحكم على أمل ألا تعودوا لصنع هذه الأدوات الحادة ..... كان رئيس النوبة هذا هو نفسه الذي تجاوز عن جارنا عندما وجد لديه قطعة القماش مكتوبا عليها دعاء كميل .... تجاوز رئيس النوبة عما وجد لدينا في حين كان الشرطي شديدا وملكيا أكثر من الملك .....في الفترات اللاحقة كان هذا الشرطي ذاته من يختلق الحجج للمضايقات معنا .


كل مالا يرغب فيه يصبح حراماً وشرعاً .... عينه تضيق بكل ما يوسع فرحتنا .... جاء يوما ورأى ملصقا لإحدى دعايات الفانيلات وضعها صاحبي فوق باب الزنزانة ..... انتزعه كما ينتزع منشورا ضد الدولة ، وبدأت المشادة بينه وبين صاحبي وهو لايتنازل عن فعلته التي فعل .


هذا هوالبشر عندما ينسلخ من بشريته وينحط في أدنى درجات الكراهية والسلوك الاإنساني .... وهذه هي العقول التي يلقى على عاتقها ثقل الطاعة ... الطاعة العمياء ... عمى القلب والعقل .... أحدهم أيام القيد الفولاذي داخل الزنزانة ، نادى عليه أحد المعتقلين ليفك (الهفكري ) كي يقضي واجب الغسل ، ويبدو أن بعض الزنازين البعيدة استدعت الشرطي نفسه قبل لحظات مرت ....


استنكرت سذاجة الشرطي الأمر وقال : ( شيطان واحد داخل اثنين زنزانة ) ونبقى أنا وصاحبي وحيدين داخل الزنزانة يأنس بخطي وصوتي ، وأنس بظرفه وسلامة نيته .... نتقاسم القوت كما تتقاسمنا طقوس البلاء .... آخر ماتطبق عليه أجفاني صورته ، وأول ما يبكر في أجفانه صورتي ..... جسدان خلف الباب الحديدية أمرض فيتحمل أوجاعي في جسده ..... ويتشكى فيغرس في سمعي صليل شكواه .... جسدان ما استطاع الضيق أن يضيق بهما ..... وروحان ماتمكن الأسر من تكسير أجنحتهما .... يحلقان بودهما على محنتهما ضاحكين .... يزرعان في كل فجر ابتسامة محبة في وجهيهما .... يتناولان من فائضها حتى المساء ...... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع