شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (18) - حسينيات خلف القضبان

تتصرم الأجساد وتضمحل الرغبات وتنمحي دول وتزول هيمنات ..... ويبقى الحسين ألقاً في سماء الوجود ، الباذل حشاشته لإحياء الشريعة ، الهاتف في وجه العنجهية بـ (لا) ... لأنه الحسين يعود ليبتدأ الأعوام بميثاق العزة والكبرياء .... يفتتح الشهور بشهر الإباء الباسل .


أما هذا العام فيقبل المحرم ونحن مدبرون برغم إرادتنا عن مواقعنا في الحسينيات ... أيستطيع سجاننا أن يفصلنا عن الحسين ؟! .... أيتمكن من انتزاعنا من عقيدتنا وحبنا المتغلغل في قرارة وجداننا ؟ لا وألف لا .... لاتقوى قدرة على حرماننا من التمتع بعطاء الحسين ! الحسين في أعماقنا نفس يصاحبنا اللحظة باللحظة والحسين نور في أعيننا نبصر به كل مانرى .


هذا العام الجديد أقبل وحناجرنا تتكسر في أجوافها العبرات والغبنات .... الدنيا تضج بالحسين ونحن مكتوب على شفاهنا الصمت .... لا لن يكونا الصمت قدرنا ونهاية انصياعنا ، لقد تعلمنا من الحسين التمرد على العبودية والإسترقاق ..... لتكن عزيمتنا محل اختبار لما تعلمناه من دروس عاشوراء .


عاشوراء نعم يجب أن نحييها على كل حال ...... هناك الآن بالخارج حسينيات يملأها حواريو الحسين , حسينيات يطوف في قاعاتها الضجيج بيا حسين .... هناك الآن مواكب تعبر الطرقات معزية الرسول بسبطه الشهيد .... هناك يصيح صوت الرادود بالشجن واللوعة .


هناك كنا نحفظ ألحانا ونتمرن على أدائها ونبذل الغالي والثمين في خدمة أبي عبدالله .... أما الآن فنحن في أرض لاتسمح لنا بإحياء شعائرنا . .... ولكن سنحييها على كل حال ... العنبر يجمع كل مانحتاج له ,الخطباء موجودون والشعراء متوفرون ، والرواديد يتوقون للتقرب من ا لحسين . في محرم الحسين ، بعد أن تغلق الأضوية ويخيم الظلام بأسرابه على الزنازين ينتعش الولاء الحسيني في العروق .... نمتطي فتحات الهواء منشدين وسامعين .... يبدأ الخطباء بإلقاء مجالسهم علينا .... نظل منصتين لصوته بذكر الحسين .. ثم يقوم الرواديد بإلقاء ما في قرائحهم من قصائد عزائية .... حتى الآخرون غير الرواديد يتحمسون لأداء دور الرادود .... تلك مرحلة على الكل أن يكون رادودا .


تتخلل القراءة والعزاء نقاشات حول كربلاء وإلقاء قصائد جديدة من الشعراء... كتبت قصيدة في غرة محرم مطلعها :
أبا الاحرار والعـــــدل يعز وكف الغي في الإسلام تغزو
كانت قصيدة لاتتجاوز العشرين بيتاً ، وكان منها
قصدت الطف عاشوراء ليثا هصورا في وغــــــاها لايبز
وفي جنحيـــك قلب من علي وذاك القلب في الأهوال حرز


وكلما تقترب الأيام من ا لعاشر تنفجر في الأعماق شرارة الأحزان وتلتهب المشاعر لما لها من رابطة بالحسين ولما يتبلج في ذاكرتها من الصور العاشورائية السابقة .... عصراً كنا نقوم بواجب العزاء نقف أمام (الدك) ونمزجه بأصواتنا وأحاسيسنا الحسينية ، أكتب بقلم الألمنيوم فوق الجدار ما أود قراءته وأمحوه بعد الإنتهاء .


حتى اقتربت الأيام من اليوم السابع من المحرم .... هنالك ترى الدمع يتدفق بلادعوة ولمجرد الذكرى .... نتذكر ونعيش مايجري بالخارج وكأننا معهم ..... بلى إننا معهم وإن غبنا عنهم ، فمن أحب عمل قوم أشرك معهم ... ونحن محرومون من عملهم ونعشق طقوسهم وتنصهر نبضاتنا في شعاراتهم ، نتذكرهم ونقول الآن يخرج الموكب بهيبة العباس (ع) ... ثم نقول الآن انتهى الموكب ووزعت الوجبة على المشاركين .... الآن ... الآن ..... وكل آن له في صدرنا وقع السهم المثلث .... وكل ساعة تعبر فوق ضلوعنا كما عبرت الأعوجية على جسد الحسين (ع) ... واللحظات تمضي تشرب من دمائنا كما شربت الظبا من أجساد آل محمد الطاهرين .


في الليالي الأخيرة تلك تشتد مضايقة الشرطة لأنشطتنا ولكل ما يبدر منا .... في ليلة الثامن من المحرم .... اشتدت عين الشرطة علينا .... أحدهم كان يصعد لأعلى الزنزانات يتسقط مصدر الصوت .... حينما كنت ألقي قصيدتي على الأخوه من (الدك) جاء الشرطي مسرعاً إلى العنبر وبيده مفتاح الزنزانة .... ساد الصمت بعد وصول الإشارة من جهاز انذارنا .... دخل الزنزانة وسأل من الذي كان يقرأ؟ .... لم نعطه إجابة تشفي غليله .... ولم يكن بيده إلا الخروج بلا نتيجه .


حتى إذا جاء العاشر بكآبته المضاعفة وفي ظهر العاشر كنت أعددت قصيدة أقول في مستهلها :
قف بالديارالباليات وامعن النظر
واسأل بواقيها عن الماضيين والعبر


ورحت أتلوها بلحن العزاء في يوم ذكرى المصاب حتى وصولي إلى الأبيات
إن انس لا أنسى نداء السبط يومها
حين غدى منــــفردا وقلبه انفطر
يدعو بهم ياقوم هل من ناصــر فلم
يلق بهم إلا كذوبا خـــان أو غدر


ولمعرفتنا بتقصد الشرطة لإبتزازنا حقنا في شعائرنا وضعنا صاحب الرادار أسفل البوابة يرصد مجئ النوايا المفتعلة .... وآخر يرصد جولاتهم التفقديه خلف الزنزانة وليس لنا حيلة في من هو بالأعلى .... فجأة تلقى (م) الواقف في النافذة يحرسها من خطوات الشرطة خلفها ... فجأة تلقى ضربة (بالهوز ) من الأعلى ... أدركنا ما يراد بنا من شر ...
وانتصر الصمت في العنبر ، بعد دقائق قليلة ، دخل علينا شرطي مغضباً وفي عينيه قرأنا الشر والوعيد , بيده (هوز ) .... لم يتكلم إنما تكلم (الهوز) على الأجساد تناول صاحبنا (ج) الواقف بالأسفل بعدة ضربات من وقعها أثر الضغائن يفوح .... وانتقل لنا جالسين على السرير بالأعلى أنا و (م),جرع (م) الضربة الأولى عنيفة ... لم يمهله (م) حتى يثني ضربته وأمسك بالهوز بكامل قواه ....


لم يتمكن الشرطي من انتزاع الهوز من (م) إلا بعد أن رجوته أن يدعه ليمضي غير مغفور له ... أخذ الشرطي الهوز وابتعد يسأل ( منهو كان يقره ) وما ظفر بالجواب ، وذهب يتوعدنا .... السلام عليك يا أبا عبدالله يحاربك الأمويون في كل زمان ... حتىا لبكاء عليك لا يليق في شريعتهم ، وما أعظمها من ظلامة ياغريب الغرباء ... غريب أنت عن الأوطان ونحن غرباء في الوطن .


يمضي الشرطي وتعود مشاعرنا متأججة بحب الحسين .... نعم نحن الآن في ظهر عاشوراء .... ساعة انفرد الجيش بسيد الشهداء .... ساعة أخذت من أعضائه السهام حصصها ... الآن أنت تقف تمسح دماء جبهتك الشريفة ونحن وقوف في هاجرة الزنازين نمسح تأسفنا عن بعدنا عن مآتمك الغالية .... الآن أنت تحاول لإنتزاع السهم من أحشائك المقدسة ونحن نحاول انتزاع القهر عن شعبنا المعذب .... نعم سلام الله عليك يوم ولدت املاً للمستضعفين وسلام عليك يوم قتلت علماً للأحرار .... والسلام عليك يوم تبعث حيا وشافعاً للثائرين


..... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع