شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (16) - حين يحل الإبتلاء

وجبات الطعام تأتينا بلا طعم ,لا تعبر أفواهنا ولا تتذوقها ... يوم الأربعاء وجبة السمك ، سمك لو رأيته ما حسبته إلا حوت يوشع بن نون الذي نسيه عند الصخرة ، أسماك مجمدة أذهب التجميد فوائدها ... ولكن ما الضير سيتناولها أولئك التائقون إلى لقمة الطعام .... سمك مقلي ملتو على نفسه لكل منا صحن رز وسمكة تأنفها حتى قطط الشوارع .


في يوم الجمعة يأتينا الغداء مصحوباً بفخذ من الدجاج ولربما صاحبته ورقة يتيمة من الخس لكل منا ... أما باقي الأيام فلا غير البرياني ... برياني يطبخه الجنائيون ... يصطحبون معهم أحد الجنائيين الأجانب ، يعد الوجبات في الصحون ، يصطحبونه أجنبيا كي لانظفر منه بكلمة ود تكشف كرب الغربة .


عندما يقدمون وجبة الغداء ويغلقون الباب علينا وعلى وجباتنا ، يحدق الأستاذ عـ طويلا في الطعام ... يتأفف من رداءة الطعام .... أخاطبه قائلاً : كل يا أستاذ ( العيش زين ) ... تحملق عيناه في وينفجر مغضباً ( لازنت ) لعلك تقف إلى صفهم أيضا ... وينفجر باقي الإخوان ضاحكين . أخيرا يستجيب الأستاذ ويأكل حيث لامناص من الأكل للبقاء على قيد الحياة كما يقول لنا بين الوجبة والوجبة ووجبات أخرى .


وجبات سمر واستزادة من المعرفة . ( ج ) شاب بسيط المدارك والفهم ، برئ السليقة ، سليم الفطرة ... أحدق فيه أحياناً وأسرح مفكراً ما عسى هذا أن يكون قد جنى ليأتى به إلى معتقل مرير . لم يتمكن من إتمام دراسته لصعوبة الظروف . لديه عائلة عليه أن يعيلها . استجاب (ج) لطلبنا في تعليمه أبجدية العربية .


رسم الأستاذ الحروف العربية فوق الجدار بقطعة الألمنيوم وابتدأ المشوار من الصفر ... كان من الصعب على (ج) حفظ الأحرف وتهجئتها ... بذلنا جهداً واسعاً لإيصال المعلومات لديه ... ولكن استيعابه لم يكن قابلاً ، كان لايستطيع التمييز بين الجيم والخاء ولا يفرق بين القاف والفاء .


كانت وسيلة الدخول به للقراءة هي قراءة القرآن الكريم .... حيث لاوسيلة سواها ولو وجدت سواها لما كانت خيراً منها ... أعطينا ( ج) مصحفاً فتحناه له على قصار السور ... راح (ج) يقرأ الكلمة في تأتأة وتوقف بين الحرف والثاني, راح يقرأ سورة الجمعة حتى إذا وصل إلى ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا إنفضوا إليها ) قرأها ولدى وصوله .. أو لهوا ... قرأ ... إن ... إن ... إنقضوا عليها ... لم يكفه قلب الفاء إلى قاف وإنما حول كلمة ( إليها ) إلى كلمة (عليها) ... لقد كان جناساً جميلاً لو لا إنه كتاب الله ولاينبغي العبث بآياته .... في الليلة التالية أعطيناه جزء عم ، وعند وصوله إلى ( إن الفجار لفي جحيم ) قرأ ( إن الفخار ) .


يقولون : إذا أردت أن تعرف أحدا ما فسافر معه تقع على حقيقة ذاته ... هذا سفر أيضا ، سفر المجبرين المكرهين بلا خيار سفر لا تختار فيه وقتا ولا مكانا .... ولا تختار فيه صاحبا ولا قرين ... بهذا المكان تعيش اللحظات كلها برفقة أصحاب المحنة .... تأكل ويأكلون ... تصبر ويصبرون .


في المعتقل أيضا تكشف معادن الرجال ، الصابرون يتألقون بشموخهم ، والجازعون يقللون من عزيمتهم .... في المعتقل تنكشف لك الأيدي الرحيمة المعطاءة حيث تعاش الأوقات بحلوها ومرها .... وتتقاسم اللحظات بنعيمها وجحيمها , في المعتقل حياة أخرى تجبرك على التعاون ... حياة لاتستطيع التنصل من واجباتها ... تحمل الأذى ، وكما يقول الإمام الكاظم (ع) ليس حسن الجوار كف الأذي ، وإنما حسن الجوار تحمل الأذى .


هناك تصبح وجها لوجه أمام خصال الآخرين ، خصال معراة بأكملها مهما إجتهد صاحبها في إخفاء بعضها لا يفلح ... الوقت المترامي الأطراف كالصحراء كفيل بكشف كل خافية من السلوك .


يحكى عن أحدى الزنزانات, عن من طالته القمعة الأمنيه بشباكها دون ذنب صدر منه , يحكى أنه انتصب في النافذة العليا يتأمل في السماء طويلا ، ويعتصره الحنين للإبحار في قاربه ... ولكن أنى له ذلك والقضبان تقف دونه والبحر .... راح يبعث بنظرة للبحر وتتجدد في صدره لوعج الشوق لملاقاة البحر ، ونظرة ملتهبة للسماء ... وبقلب نازف تتسع فتحتا جفنيه في السماء ... أخرج كفه نحو الفضاء المديد .... رفعها وراح يخاطب إلهه ... رباه ألا تطلق سراحي؟ .... رباه أليس هو إمتحان تختبرني به ؟! بلى هو امتحان! ... وأنا سقطت في الإمتحان .... رباه أطلق سراحي ولن أخبر أحدا أني نجحت في إمتحانك .


بلى هو إمتحان للصابر بالجازع ، وإمتحان للجازع في نفسه ، لذلك كان الجزع لصاحب المصيبة مصيبتان .... صاحب الرسالة لا يجزع ولا يرجع ، ففي نصب عينيه هدف وغاية ينشدها .


وفي المعتقل تعود النفس لذاتها تفتش عما انكسر لتبدأ في إصلاحه ... أي كسر ؟ وأي إصلاح ؟ ... الكسر الذي يمكن اصلاحه بالتوبة والندم ... هناك تصفو مرآة النفس فلا يكدر صفوها غبش ولا يرنق صفاءها تمويه .


ندم أحدهم على ما فرط في جنب الله .... حادثته حين كنت لا أراه ولا يراني ، أبدى تحسره على ما قصر في ماضيه ... الندم ينخر في أعصابه .... شبهت له الماضي بطبخة حاول صنعها ، لكنها فسدت ولم يتقنها ... عليه الآن أن يستأنف العمل ويبدأ في صنع طبخة جديدة يستفيد فيها من أخطاء الطبخة السابقة .... ألح .... على أنه لا يزال يفكر في الطبخة الماضية ، نبهته إلى الإحتمال الكبير في فساد الطبخة الثانية حالة انشغاله عنها والتفكير في الأولى .


للدعاء تأثير السحر في النفس ... استطعت تدوين بعض الأدعية من صدور الحافظين لها ومنها دعاء الإمام السجاد (ع) في مناجاة التائبين ( إلهي ظلل على ذنوبي غمام رحمتك وأرسل على عيوبي سحاب رأفتك ) ... هنالك كانت النفوس تلجأ لحصن حصين .... تتحصن بجبار السماوات والأرض ، فمن القادر على التعرض لها وهي في عنايته ... وإنما عليها الصبر والإستعداد لملاقاة حب الله ... الله الذي إذا أحب عبدا إبتلاه ، وأي ابتلاء كالسجن ، بلاء في الروح والجسد والأهل والوطن ... لهذا لما أحب الله يوسف (ع) أعطاه الجمال ، وابتلاه بمحنة السجن نتيجة لذلك الجمال ....


البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع