شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (27) - الفرحة الناقصة

ثلاث زيارات حصلت عليها في عام واحد ، بعد ستة أشهر من العناء وملاحقة الجهات المسئولة استطاع الأهل الحصول على مقابلة ..... لستة أفراد فقط ومن الأقارب , جهد مضني يتطلب الحصول على زيارة , إحياء الموتى أسهل منه . وفي التالي لكل شهرين زيارة ..... عقاب لك ولأهلك أن لا يعلموا عنك شيئا ولاترى لهم وجها بعد استلابك من بينهم .


بعض الأهل رغما عن سمع الشرطة يوصلون مايريدون من أخبار لمعتقلهم ...... كذلك بعض المعتقلين بطرقهم الخاصة يوصلون رسائلهم لأهليهم لتتجاوز أسوار القلعة وتصل إلى من كتبت له .


بعد انتهاء الزيارة ..... عند جمعنا في الغرفة العليا بانتظار اكتمال عددنا .... أحد المعتقلين في عنبر غير عنبرنا لديه رسالة لابد من إيصالها لصديقه في عنبرنا .... جلس على الكرسي الذي بجانبي ..... نتشاور في كيفية نقل الرسالة إلى حوزتي بعيدا عن الرصد ..... هو يضعها في قاعة النعل من الأعلى .... مثبتة بلاصق تدوس عليه قدمه .... إنحنى إنحناءة عند غفلة الشرطي وبسرعة الممارس أزالها من نعله وثبتها في قاعدة نعلي حين كانت رجلي فوق الرجل الأخرى بلا نعل ..... أنزلت رجلي كابسة على الملصق وتم نقل الرسالة منه إلي ....


انطلقت السيارة بنا وبالرسالة ..... وصلنا عنبرنا .... قبل الدخول تفتيش أيضا .... تلمست كفوفه كل مايمكن أن يحوي مخبأ وما ظفرت بشي .... الرسالة في مخبأ لايهتدي إليه الشيطان حتى .... عدت سالماً إلى موطني المغيب ... أبلغت صاحب الرسالة بها عن طريق فتحة (الدك ) ... خرج ليملأ الماء البارد مر على بابنا وتوقف ليطبع قبلة على فمي من خلف الشبك بينما أضراسي تدفع الرسالة من فمي لفمه .... تناولتها أضراسه وتابع المسير وكأن شيئا لم يحدث ... بتلك الطريقة ذاتها بعث لي أحدهم رسالة يبدي فيها تأسفه وندمه حيال ذنب قام به بحقي ، ويرجو المغفرة .... أضمرت غفران ما اقترفته يداه, ما أحلى النفس حين تراجع دفاترها القديمة وتتوقف عند كل سطر لتجرده من المغالطة .... وما أحراها وهي في رحلة الموت الدنيوي هذا أن تخرج من ذنوبها لتعود إلى حياتها طاهرة نقية لا يشوهها نجس أو دنس .


تتكرر الوجبات علينا كما هي وإن أضافوا يوما شيئا من البطاطس المقلية على الرز فذلك اليوم مميز ليس له مثيل . الشاي كما هو أسود كالقار ..... الحليب كما هو بطعم الملل الطويل ,مع الإنتهاء من شرب الحليب .... تبقى في الكوب بقية لاتحجب قاع الكوب ...


حرك (م) الكوب براحة .... تحركت بقية الحليب مع سواد توزع فيها .... كرر التجربة ثانية .... توصل إلى الحقيقة المنغصة أخيرا ... ذلك السواد أثر من صدأ الكوب ينتقل من الكوب إلى الحليب ..... إذن نحن كل هذه المدة نشرب حليبا بطعم الصدأ ....


أخذت الصدمة منا مأخذا بليغا ومنذ تلك اللحظة صرنا لانشرب الشاي ولا الحليب ماداما في تلك الأكواب الفانية ..... خاطبنا الشرطة في تغييرها دون فائدة ....يعتذرون بعدم وجود سواها ..... المطالبة المتعقلة مع هؤلاء لاتجدي ..... رحنا كلما وقع بين أيدينا كوب معدم ثقبنا قاعه وأعدناه دون علمهم .... قضينا على فيلق كامل من الأكواب ولم يؤثر في أعدادها الهائلة .....


إذن لابد من التحريض والوقوف وقفة رجل واحد أمام ما يسمونه حليبا وما هو إلا صدأ الحديد .... استجابت الزنازين شيئا فشيئا لمطلبنا ..... كل الزنازين في العشاء والإفطار الصباحي لا تستلم الأكواب ..... وتبقى الأكواب حائرة بجانب الزنزانة ....


نظرة نظرتها من الفتحة وكانت كل الزنازين مغلقة وأمامها أكواب الشاي مملوءة غير مشروبة, الشرطة طلبوا منا إدخال الشاي والحليب وشربه ... رفضنا ... قالوا هل أنتم مضربون عن الطعام أجبناهم : جيئوا لنا بأكواب لاينبع الصدأ من قاعها ولا يساهم الحديد في شرابنا ونحن ندخلها عندها ونشرب ما فيها بكل ترحاب .


وصل الأمر للجهات العليا يبدو ... وما أصبحنا في يوم من أيام المر تلك إلا والشرطة توزع علينا أكوابا من الألمنيوم جديدة .... جديدة مطرزة بالنقوش ..... فرحة عارمة اجتاحت قلوبنا وعمرت بها آمالنا بالنصر ولكن ( يافرحة ماتمت ) .... صبوا لنا الحليب في الأكواب الجديدة ...... لنفتتح استخدامها ..... المقبض يغلي ولاتتمكن اليد من لمسه أكثر من ثانيتين ..... كيف نتناوله ونشرب ..... طرف الكوب يلظي ولاتتمكن الشفاه من الوقوف عليها مطلقا .....


الشاي يبرد ويصبح صقيعا والكوب حار ... تدلت شفاهنا وانتفخت من فرط الحرارة ! ..... هل نحتاج لحركة أخرى نستبدل بها الأكواب ؟ ..... لا, إنها مهمة نتركها للقادمين .... أما مقبض الكوب فنسجنا حوله من القماش ما جعل الأمر محلولاً ويتعدى المشكلة ... تقضت الأيام ويبدو أن الإستجابة للحقوق الإنسانية باتت أقرب من حبل الوريد .... وإلا لما استجابوا لتبديل الأكواب .


ومن كان قبلنا وسكنوا نفس العنبر لسوء حظهم .... يحكون أنهم كانوا يشربون الشاي والحليب في علب الفواكه المشكلة ..... وببساطة تلك العلب لايمر عليها وقت بسيط بملامسة الرطوبة والهواء إلا ويكون الصدأ ركبها من أسفلها لأعلاها .... الآن بدأت الضغوط تقوى لتحسين ظروف المعتقلين .... الظروف التي يسمع بها الحقوقيون ولا يرونها .


نعم بعد تسعة أشهر جاءونا لنكتب رسائلا لأهلنا نطمأنهم على صحتنا .... وليروا صورة خطنا بأعينهم .... وضعوا طاولة وسط الممر .... يضعون ورقة على الطاولة عليها قلم رصاص ... وتفضل وأكتب ولا تعتقد أنك ستكتب مالم يقرأ من قبلهم .... تكتب والشرطة وقوف بجانبك .... موقف يذكرني بأيام الإمتحانات .


كان بعض المعتقلين يتخذونها فرصة للإستلال من القلم وقطع جزء منه يحتفظون به لديهم .... بحيث لا يلاحظ الشرطة فرقا في القلم .... ولو شاهدوا الفرق فيما بعد أنى لهم بالحصول على الجزء المقطوع .... كتبت رسالة وانتهيت من تضمينها بما أريد وعدت إلى زنزانتي ومن طريف الأمور أني وصلت إلى بيتي بعد إطلاق سراحي والرسالة لم تصل .... وصلت بعد وصولي بمدة مديدة وكأنني أرسلت رسالة لنفسي .


.... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع