شارك هذا الموضوع

همسات من بلاد الأَرز

أظهر العُدوان الصهيوني على لبنان موزاييكاً عجيباً من المواقف والتصريحات التي من المُؤكّد أن تجاوزها كما السابق سيعني أننا دخلنا عملياً مرحلةً ماستودونتيةً بشكلها الأسوأ، بعد أن عِشنا نمطية بصرية وسمعية وحتى قلبية اعتدنا عليها منذ زمن، فلم تعد أحداثاً جِساماً لتؤثر فينا بأكثر من " هزّة كتف " !! وهو زمان كئيب وقاسي أنسى من قبله وأتعب من بعده .. قدّيس هذا الزمان ومُلهمه جورج دبليو بورش قال بلغة استعمارية حاقدة " بأن التحدي المشترك للعراق ولبنان في هذه المرحلة هو في محاربة الارهاب !! " أما مندوبه لدى الأمم المتحدة جون بولتون فقد قال بتحامق يميني فجّ رداً على سؤال لبرنامج محلي على قناة فوكس نيوز أن " على السوريين أن يضعوا حداً لاطلاق الصواريخ على أناس أبرياء في إسرائيل !! " أما البطريرك مار نصر الله بطرس صفير فقد قال بأن " المآسي التي تتوالى على لبنان لا سبيل لنا إلى التخلص منها إلاّ بالصلاة والتوبة " !! في حين صرّح مساعد الأمين العام لشؤون الإغاثة إيان إيغلند قائلاً بُعيد زيارته التفقدية للبنان " اليوم رأيت الدمار في الضاحية الجنوبية، وقد أثر فيّ كثيراً، كيف أن مباني سكنية بكاملها سوّيت بالأرض، ولم أكن أعرف أنها مجمّعات سكنية، ووجدت بقايا كتب مدرسية وهي أحد الأمثلة على معاناة الأطفال، الوضع مروع " أما العزاء فقد كان لدى مدير الوكالة الأميركية في الشرق الاوسط عندما سأله أحد الصحفيين المحترفين " ألا تعتقدون بأن من سخرية الأقدار أن ترسلوا مساعدات طبية لضحايا يسقطون بواسطة أسلحة أرسلتموها إلى إسرائيل ؟! " وهو ما دفعه لأن يلوذ بصمت أبدي ممزوج بعرق طارئ، الأمر الذي شجّع صحافياً آخر كان موجوداً أيضاً لأن يُفاجأه بسؤال أمرّ من سابقه " هل هذه الشحنة التي تبرعت بها واشنطن تتضمن أدوية للأسلحة الفوسفورية التي قيل بأن الإسرائيليين يستعملونها ؟! " فأجاب بفم مغمـور بلعـاب داكن " لست خبيراً طبياً " . وهنا أترك القارئ الكريم للتعليق كيفما أراد حول ذلك .


وفي الميدان سجّلت كاميرات الصحفيين وأقلامهم مشاهد تندى لها الجباه وتشيب لها الوِلدّان، وكيف كانت الصواريخ الأمريكية الذكية المُهداة للكيان الصهيوني تصطاد أهدافها بدقة متناهية .. ففي بلدة طلوسة سقط صاروخ على منزلٍ تختبئ فيه امرأة عجوز فأصيبت بجروح خطيرة وبقيت تنزف من دون أن يتمكن المسعفون من انتشالها من تحت الأنقاض فقضت هناك، وفي تطور آخر أغارت الطائرات الصهيونية فجراً على بلدة عنجر مستهدفة جراراً زراعياً كان سائقه يعمل في الحقل عندما فاجأه صاروخ صهيوني أدى إلى تدمير الجرار، وفي مكان آخر أغارت الطائرات الصهيونية في الثانية بعد الظهر على سيارة بيك آب مُحمّل بالبطاطا، وأخرى على حفارة آبار إرتوازية، حتى كُلّلت تلك الاعتداءات بفاجعة قانا .. إنها حقاً مأساة ضمير لم يعد يفهم الأشياء كما هي فاختلطت عليه المفاهيم حتى انحرف بسرنمة مُزمنة أعيت كل من أراد لها شفاءً وعافية .


وفي بلاد الأرز أيضاً حيث عاشت الثقافات والتقت الحضارات وانهزمت الامبراطوريات وتآلف البشر وتصاهروا وتدارروا، ظهرت من بين حَجَرِهِ وحديده نار الصمود والشرف والتضحية في قبالة النيئيين والمرعوبين من أصحاب الكروش الأمومية ورساميل الأموال المُذابة في حساء الكازينوات الليلية، ومن بينه أيضاً ظهرت جوقة " المغامرين " الحقيقيين، بعد اغتيال الرئيس الكبير رفيق الحريري، فأسبغوا على أنفسهم نُعوتاً ونياشين كثورة التحرير و14 آذار والثورة البرتقالية .. فعبثوا بأقدار بلدهم وبعذرية ما يجمع الشعوب والناس وأساؤوا لعلاقات بلد يتجاورهم منذ زمن سحيق، إلى الحد الذي وصف فيه عرّابهم وليد بيك جنبلاط الشعب السوري بأنه شعب " بائس " فتشاحنت النفوس تجاه بعضها حتى ظنّ بعض اللبنانيين بأن عدوهم الأول هو في دمشق لا في تل أبيب، وبأنه بشّار الأسد لا أرئيل شارون، حتى انكشف المستور ولانت القلوب وانحنت القامات، فبان الآن بأن أحداً لم يكن ليفقه بعد أسرار العلاقة القائمة بين الشعبين التي تجلّت بوضوح في الأزمة الأخيرة، ورأى الناس بعضهم بعضاً ببشرة شفّافة عندما تلاقوا عند نقطة عاطفية حاسمة، فبمجرد وصول النازحين اللبنانيين إلى الحدود السورية قُدّمت لهم تسهيلات العبور، وعُرضت خدمات النقل المجانية إلى دمشق وأرقام الهواتف لربط القادمين بعائلات ومؤسسات سورية، كما ملئت شوارع دمشق بإعلانات حائطية تدلّ إلى عائلات مستعدة لاستضافة " الأخوة اللبنانيين " مجاناً، وفي بلدة جرمانا (15 كيلومترا من دمشق) فتح أهلها مزارعهم وفللهم الصيفية أمام النازحين اللبنانيين، ولم تتأخر جمعية حماية الأسرة في سوريا في تحويل مركز الشلل الدماغي ومركز المكفوفيين ومركز الصم والبكم إلى فنادق موقتة ضمّت 32 عائلة جاءت من النبطية والضاحية الجنوبية والبقاع الغربي، بل إن أحد المتبرعين فاجأ أطفال العائلات اللبنانية بأن وزّع عليهم أقلام تلوين وأوراقاً لإطلاق خيالهم وتجسيده بالألوان والخطوط !!


وبعد ذلك الرهان الخاسر بدأت تلك الجوقة يتحدثون بصلافة غير معهودة بأن ما قام ويقوم به حزب الله هو حرب بالوكالة لا بالأصالة، وأنه يُنفذ لائحة التحالف السوري الإيراني في المنطقة، وأن اختطاف الجنديين كان خطأً فادحاً، لأنه تجاوز للخط الأزرق بين لبنان والكيان الصهيوني، وبالتالي قد أعطى الأخير ذريعة هجومه الوحشي على لبنان، ونسوا أن ذلك الكيان الغاصب قد خرق الحدود البرية والبحرية والجوية اللبنانية أكثر من 2400 مرة منذ هزيمته وانسحابه من لبنان في ايار (مايو) عام 2000، ونسوا ما قاله أحد مُرافقي الوزيرة الأمريكية كونداليزا رايس عند زيارتها لبيروت بأن أحد أهداف المعركة المحتدمة هو تحجيم الدور الإيراني في المنطقة، ونسوا أيضاً أن حديث الوزيرة الخُلاسية عن الشرق الأوسط الجديد سيعني النظر في القوميات والأعراق والأديان والطوائف التي اضطر بعضها للانضواء قسراً تحت لواء دول بعينها بقوة الاستبداد وليس بتوافق الرضا، وحان الوقت الآن لتفكيكها وكنتنتها بالشكل الذي يُؤمن مزيداً من الاستقرار لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، وبالتالي فهم يُساهمون بشكل آلي على ترجمة ذلك من خلالهم وعبر بلدهم، ونسو أيضاً أن هذه الحرب لم يكن هدفها تحرير الجنديين بل أن مسعاها وأهدافها أكبر من ذلك، وقد قال أولمرت ذلك صراحة للموفد الدولي " لا أريد الجنديين، فليحتفظوا بهما ولن أفاوض عليهما، وقد أبلغت عائلتيهما أن عليهما ألاّ تتوقعا عودتهما القريبة، وأن استعادتهما قد تطول، حتى لا تنتظرا حلاً سريعاً لقضيتهما لأني لست مستعجلاً في ذلك، وعندما سأله الموفد الدولي إذاً ما الذي تريده ؟ فأجابه ألمرت سأحطم " حزب الله " . إذاً ماذا بقي أمامنا لكي نفهم ولكي ندرك، والأكثر لكي نتعظ، لكي لا يعيد التاريخ نفسه بالشكل الأسوأ لأن في ذلك ترديد وتكرار للأخطاء .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع