شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (25) - لقاء على جمر

ستة أشهر ذهبت ونحن لازلنا في معتقلنا لانرى الدنيا ولا الدنيا ترانا .... الليل والنهار يأخذان منا ولا نأخذ منهما مانريده كاملاً .... بعد وجبة العشاء بفترة تتيح للجسد هضم ما تناوله من طعام المدقعين ... يمر الشرطة على الزنازين بإناء به ماء ومطهر (ديتول ) نتعاون جميعاً في إزالة أفرشتنا ومسح الأرض بالماء والمطهر جيدا ، ثم نشطفه وننشفه جيداً أيضا .... كي لاتتراكم الحشرات وتودي بأجسادنا وتلقيها صرعى الأمراض الجلدية المعدية .


هذا الصباح مروا على الزنازين يلتقطون من أفرادها سعداء حظ ونحساء حظ ، وأصحاب ضراء ... نادى الشرطي بإسمي فخرجت .... أعلم من أين ، ولكن إلى أين لا أعلم ... لم أطلب الذهاب للعيادة ... يبقى أحد الخيارين إما اللجنة وإما المقابلة .... اللجنة إحتمال بعيد جداً! ... الإحتمال الأقوى مقابلة .... متى تتضح الصورة لقلبي وأعرف الخطى سائرة بي إلى أي الدروب؟! ..... عندما فرزوا المجموعات الثلاث أدركت ان المقابلة حان حينها .... إيه ياعيني... سترين الغائبين أم أنه خيال .... ولكن أي لقاء سيكون ، هم يعلمون بلقائي وقد تهيئوا ... ولكني جئت لا أعلم ... لعلي لو علمت ضبطت هندامي .... ولكني ماذا عساي أضبط ولا وسائل لدي ....


ياترى أي حجرة من الحجر تلك التي أمامي بها أعزتي ... أهكذا تأسر المشاعر وتؤخذ على حين غرة بلا تأهب ولا استعداد .... أتوا بي بعينين مغمضتين وكفين مقيدتين ... وقلب لم يتهيئ للقاء أحبته .... وهل يحتاج لقاء الأحبة لتهيئة , لعلهم لم يناموا البارحة بإنتظار هذه الساعات .... وأنا غافل عن مشاعرهم .... أليست المشاعر تلامس بعضها ، فلماذا نعيش الحرمان من التحرق للقاء الأحباب ؟ لماذا نعامل كأجساد بلا مشاعر ... ترى ماحالهم ؟ وكيف تقاذفتهم الحياة بعدي ؟ ماذا عسى أن يكون حال أبي الطاعن في السن وقد طعنته ليلة افتقادي؟ ... ما حال والدة سلبوني من أحضانها ؟ ماحال شريكة عمري ومشوار العذاب ؟ ألازالت قواها تحمل ظلماً أكثر من غيابي تلك الشهور ؟ ماحال أطفالي ؟ أما حنت عيونهم للقيا وجه أب أسير . الشرطة بين الحين والآخر ينادون بالأسماء ويذهبون بأصحابها وحانت لحظة اللقاء العسير .... نادى الشرطي بإسمي ذهبت معه أهبط السلم درجة درجة وفي كل درجة تتراءى لي صورة من صور أحبابي ماثلة تحدق في وجهي .


أدخلني حجرة في جانب منها تقع طاولة يمتد على طرفيها كرسيان طويلان ، جلست على أحدهما مواجهاً الباب .... شرطي برتبة رئيس عرفاء جالس بجواري ... خاطبني بلغة التهديد وحذرني من أي كلام خارج عن المقابلة .... هو يعني الكلام المتعلق بالوطن ومايجري في الوطن .


جلس جسدي وماجلست روحي ، بقيت متشبثة بالباب لعله ينفتح الآن ... آه يالإنتظار ما أقساك على قلبي .... وما أمر مذاقك على روحي المحلقة بلاجسد .. لحظات وهبط مقبض الباب معلنا دخول القادمين .. ما أبطأك ياباب في الإنفتاح .... رجل تقدمت بالدخول .... واتسعت حدقتا عيني على آخرهما ..


أطل علي وجه أبي بنصف إبتسامة وبغترته الملفوفه على رأسه ، وتتالت وجوه أحبتي وجها وجها , شريكة روحي بدت صلبة كما فارقتها .... وإن أضفى الفراق على ملامحها بصماته ... الأولاد استقام عودهم وكبروا .. أمي رأتني وأجهشت بالبكاء عيناها ، حتى خنقتني العبرة لحالها قلت لها : لاتبكي يا أماه أنا بخير .... هي تعلم أي خير أنا فيه بالطبع .... أخذت الأحضان راحتها في أول وهلة لقاء ... وأنرسمت القبل على خدود الأطفال بعد غيابها شهور متتابعة .. هذه قبل العيد الفائت أعيدها لكم بالدين متأخرة عن معادها .


إعذروني لقد حجزني عنكم وطني الحبيب ... أنتم أحبة وهو حبيب .... حبيبان تتصارعان على مودتي .... الأبناء أعينهم معلقة على وجهي يشككون في شخصيتي ... الصوت هو ... والملامح ناحلة ... لحية كثيفة ممتلئة كثة مرسلة على الصدر, الإبتسامة هي كما هي .


نعم يا أحبتي جسدي لم تطلع عليه شمس منذ ستة شهور ولم تظهر ملامحه من الزنزانة كل فترة الغياب عنكم . أما الجسد فهكذا حياة الكفاف ، حياة تضارع الموتى , هياكل يكسوها جلد رقيق .... ولكن الروح عملاق جبار.... وذقني مرسلة بطول شعراتها أسجل طول صبري على تحمل ما أعانيه من ظلمهم وسأنال مطالبي بإستمرار صبري .... جلسنا وعين الشرطي تلاحقنا وتلاحق شفاهنا ... فتحوا كيساً به سلة من الفواكة ...تلك الحلم الغائب : مرآها يخلق في النفس حسرة دائمة .... وكعكة رائحة إعدادها تسلب العقل ، لقد نسي أنفي هذه الروائح منذ أمد بعيد .... صبوا لي كوبا من الزعفران ... دلقته في فمي كمن يشرب من شراب الكوثر ...ألا يكون كوثراً بعد شايهم ذاك؟ .


يسألني أحبتي ماذا أنت صانع ؟ ولا ينتظرون الحقيقة بوجود عين ومسمع الشرطي .... ولكنه تشوق للإطمئنان أرى الدموع متسترة خلف أجفانهم .... محبوسة بقوة الصابرين , ترق مشاعرهم لحالي .... وترق مشاعري لحالهم ، الأطفال في عيونهم بهجة مخنوقة لاتستطيع البوح بسرورها .... نصف ساعة مرت ليست من الزمن .... مرت مع الريح لاتقضي للنفس راحة ولا تسكن جرحاً مزقته الأيام .


وحانت لحظة الفراق مرة أخرى ... فراق أعظم من الموت هولاً وشدة .... الموت فراق بلا لقاء ....أما هنا ففراق ولقاء وفراق , عذاب يمتص من الروح إكسيرها ويسقيها سما زعافا تعيش بلا حياة .... جمعوا فواكههم ، وأعادوا كعكتهم مبتورة الجوانب واستعدوا للرحيل بعد إشارة الشرطي .... وقفوا على أرجلهم وتوقف نبض الحياة في فؤاد معلق بمودتهم عانقوني وأسالوا الدموع المتربصة في خوافي عيونهم .... ودعوني ولا يعلمون متى اللقاء القادم ؟ .... أيعود غائبهم ؟ أم تنطفئ جذوة اللقاء ولا يعود في مصباحها وميض .


واستداروا وما استدارت أعينهم .... وشيعت عيني شخوصهم تسفح من قلوبها الشوق ، راحوا مودعين بالقبل لاتنطفئ حرارتها من خدودهم .... الرجل الطاعن في السن أبي يقف متجلداً لايعطي للدموع أملاً في البروز ..... ولكني أعيش بين جانحيه وأقيس حرارة اللوعة فيه .... وانصرفوا وبقيت أطيافهم جالسة أمامي ، أشاهدها فتبادلني البسمات , حظيت أعيننا بساعة من المحادثات المختلسة وما ارتوت أرواحنا من وجوه أعزتها المحجوبين عنها .


ذهبوا وتركوني أشاهد ذهابهم .... راحوا وعيوني مأسورة في خفق نعالهم ... وقع نعالهم يقع في مسامعي كهزيم الرعد رحلوا وتركوني كما يترك الأهل موتاهم .... ملحدين في حفر الموت... عزيز علي فراقهم .... مضوا وشذى عطورهم ساكن في مخيلة أنفي يمر بي على تفاصيل قسماتهم .... أعينهم تلاحقني في كل زاوية من زوايا الحجرة ... يظن الشرطي أنهم غادروا ، إنهم هنا لم يغادروا مادمت موجوداً هنا .... كما أودعوني في عناية الله أودعتهم في حفظه ورعايته ..... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع