شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (24) - حلاقة المذنبين

الجنائيون من الجانب الخلفي للزنازين المواجهة لنا ، يقدمون للأخوة مايتمكنون من تقديمه. هم تتاح لهم حرية الخروج ونشر ملابسهم في (الفنس ) ... ( الفنس ) فناء واسع به ملعب لكرة الطائرة ، حتى هذا الملعب ليس مسموحاً للمعتقلين بتكحيل أعينهم بمرآه والتحليق بالخيال في ساحته ، الجنائيون يومياً يأتون ، يغافلون الشرطة ليسترقوا الكلام مع من في عنبرنا ، يدرك الجنائيون مدى مظلوميتنا لكونهم شركاء لنا في الوطن ... ولكون الشرطة خصم لكل منا وللجنائيين .


يمرر الجنائيون السيجار وبعض الأمواس وبعض اللوازم في أيام الضيق ، يمررونها بإلقائها عالياً في النافذة حيث تتلقفها أيدي المعتقلين في لهفة الغريق الواصل للشاطئ .... أرض الوطن صغيرة المساحة ، تتآلف الوجوه فيها بسرعة .... ومهما كان السجين جنائياً يستولي في صدره هواء الوطن الطيب ... ولمرات قليلة جداً يزورنا بعض الجنائين المواطنين لإصلاح ماتلف من الأدوات الصحية أو الكهربائية . مرتين فقط زارتنا وجوه غير الشرطة .... مرة حين عطب السيفون ومرة حين أسقطت خطأ المصباح بيدي عند نزولي من فتحة (الدك ) كان المصباح فوق الفتحة ببضع بوصات .


يدخل أحدهم الزنزانة والشرطي لاينفصل عن ظله يصاحب حركاته وسكناته خوفاً من كلمة هنا وكلمة هناك .... ولا ريب أنه تلقى تحذيرا مغلظ الأيمان بعدم الكلام معنا من الدخول حتى الخروج .


بهؤلاء يتنفس المعتقلون شيئا من الحرية المفقودة يدخنون سيجاراتهم ويعبون من دخانها القاتل ..... دخان قاتل ولكنه يذكر بعهد مضى وأيام أصبحت في حكم كان ، يرفقون الولاعات بصحبة السيجار ..... لما يولي الشرطة ليلاً ويأمن المعتقلون من عودتهم ثانية ...... تمتد أيديهم إلى الولاعة ... ضاغطة على زنادها ..... تقدح النار منطلقة من فوهتها ، تواصل السيجارة طريق انتحارها ..... تشتعل النار في رأسها ، يأسرها المعتقل في فمه بينما هو أسيرها .


تبقى اليد مستمرة في ضغطها على زناد الولاعة مبتهجة برؤية النار في الظلام الدامس إبتهاج إنسان الكهوف ..... حين رأى النار لأول مرة ، إذن هذه هي النار التي كنا نعرفها وغابت عن إدراكنا وأبصارنا شهورا .


بالأمواس أزال المعتقلون شعوراً نبتت برفقة الليلة الأولى ولم تجد من يحصدها من أجسادهم ..... شفرات الأمواس كلت من الذهاب والإياب على أجسادهم تعتقل شعرة هناك وتجثت شعرة هناك ..... حتى صارت تمر على الشعرات ناتئة ولاتستطيع اقتلاعها ، لقد ذبلت شفرتها وأنهكها طول الإستخدام .


صاحبنا (م) في الزنزانة (45) حصل على شفرة جديدة .... ينوي حلاقة شعر رأسه بأكمله .... أصدقاؤه في الزنزانة لايستجيبون له ، أزمة ود ناشبة أظفارها بينهم .... السبيل إلى الحلاقة يا (م) ما هو ؟ ماهو ؟ ، السبيل هوإستضافة أحداً من الزنازين الأخرى ، ثم يودع مشكورا بعد إتمام المهمة .... هذا أمر مستحيل وفي حكم الإعجاز في ظرف لايسمح لك برؤية أكثر ممن هو في زنزانتك .... فحرام أن تكحل ناظريك بوجوه لم تألفها ولم ترها منذ شهور .... إتفق (م) مع صاحبي في الزنزانة (ج) على إنجاز المهمة يوم تكون المقابلة عند (ج) , وجاء يوم المقابلة الموعود ، وذهب صاحبي لملاقاة أهله المحرومين منه شهورا كالدهور .... وقضى وطرا من لقائهم وعاد يجر في ذاكرته صورهم الأخيرة .


يعود الشرطة بالموقوفين السجناء . فكل عنبرنا موقوفين لكنهم في حكم السجناء لديهم بل أشد حالاً من السجناء .... يعودون بهم للعنبر ، يسألون كل فرد عن رقم زنزانته ، وبالرقم الذي يتفوه به لسانه تفتح الزنزانة .... هم لايعرفون موقعك في أي زنزانة ، عاد (ج) ضاحكاً مستبشرا .... سألوه عن رقم زنزانته .... بدل أن يعطيهم رقم زنزانتنا قال (45) .. فتحوا له الزنزانة ، فاندس في أحشائها ليقوم بمهمة يأبى إتمامها حماة الوطن ... هرع للداخل يبحث عن رأس تكدس الشعر عليها ... استقبله (م) ضيفاً مؤقتاً في زنزانته وسلمه الشفرة بكراً لم تطرق رأساً من قبل .


تناول صاحبي الشفرة وبعد أن بلل (م) رأسه ، أمعن في شعره بالشفرة والشفرة تتعثر في مطبات رأسه .... بعد عناء أتم حلق الرأس كاملاً ... الآن يستطيع أن يحل من عناء شعره الكثيف ، هاقد انتهى النصف الأول من المهمة وبقي النصف الثاني كيف يعود إلى زنزانته التي يفصله عنها وعني جدار قاسي ؟!.


نادى (ج) على الشرطي لمرات حتى جاءه الشرطي . سأله الشرطي : ماذا تريد ... قال (ج) : بالخطأ أدخلتموني هذه الزنزانة ، رقم زنزانتي 47 .... لم تنطلي الحيلة على الشرطي ذهب ونادى رئيس النوبة ... تحققوا من الأمر .... وجدوه خدعهم .... حتى الشرطي الحارس على البوابة شهد بأنه قال 45 ولم يقل 47 ... أخذوه إلى زنزانة انفرادية لمدة ... ثم جاءوا به إلى زنزانتنا وأوثقوا يديه من خلف ظهره (بالهفكري ) وألقوه في الزنزانة .... للتو عاد من فرحة ينتظرها طويلا ولكن الأقدار تأبى أن تتم لقلبه فرحه ..


بات علي أن ألقمه طعامه كما يطعم الأطفال .... بالطبع هذا جزاء من يرتكب الخيانة العظمى ، أليست خيانة للوطن أن يرق قلبك لضائقة محتاج؟! .... الوطن يعاقب كل من يحمل في قلبه ذرة تعاطف مع موقوف أو سجين! ... أسفاه يا أيها الوطن القاسي على أبنائه .... أسفاه على وطن لايريد لأبنائه أن تشم رؤسهم هواءاً نقيا .. ولكن مع كل ماخلفت في قلبي من شجى أحبك ياوطن ، فأنا الوطن وليس سواي ... حتى وإن إدعاك غيري فأنا الأصل وهم ظل زائل لايلبثون يعودون لأرض ولدوا عليها وعقوها مهاجرين متنكرين .


تركوه فترة طويلة يعاني من التواء يديه للخلف ... لاينام إلا على وجهه أو على أحد جانبيه ...... وفوق أحد كتفيه .... ليت أمه حين قابلته في ذلك اليوم علمت ماذا ينتظر ابنها بعد لقائها الدافئ ذلك .... لابد أن قلبها هناك الآن يخفق مضطربا وكأن القيد تنخر في شرايينه وأوردته ... كلما انقلب جسده على جانب وتألم من ضغط القيد خفق قلبها خفقة جعلت في صدرها هوة واسعة لايسدها إلا رؤية ابنها في خير وعافية ... وليس هو في الخير الذي تتمناه له .... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع