شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (23) - قلوب في ربيع

في المعتقل النائي تهيم النفس في الظنون .... وبإتساع الوقت تتسع الشكوك والأوهام ، وتتحكم الوساوس في خلجات النفس .... كل النفوس للوسواس غلبة عليها بنسبة ما إلا ذوات الكمال. أشهر متطاولة ونحن في غياب عن التزاماتنا ، ناءون عن حياتنا .... بهذه الحالة يسافر الخيال بعيداً ، يرسم صوراً ليست من الحقيقة ..... النفس البشرية ضعيفة أمام الضغوط .


يفكرون في وظائفهم المهددة بالذهاب .... قلقون على عوائلهم التائهة في قلاقل الإضطراب ، والوسواس يأخذ النفس في أرجوحة لايقر لها قرار ، يصور لها أتعس النتائج ويقطب بوجه المستقبل أمامها .... تلك إذن سياسة الوسواس في زعزعة النفوس .... هذه السياسة بحاجة لسياسة مضادة .... تحتاج النفس للثقة بالله وقضائه وقدره لتنعم بالطمأنينة وسياسة الرضا بالواقع والتأقلم بمحيطه .


كما يقول الإمام علي (ع) إذا لم يكن ماتريد ، فأرد مايكون .... إذا لم يكن وجودك خارجاً ولاتستطيعه فاقبل بوجودك في الأسر قبول المطمئن لاقبول المذعن .... خذ ماتستطيعه مما لديك ودع مالا تستطيعه .... الإطمئنان يكمل هذه الصفة ولا يكون الإطمئنان إلا بذكر الله .


يحول الأخوه الزنزانة إلى ملعب كرة طائرة .... يحولون السرير معترضا في نصف الزنزانة ويكورون لهم فانيلة على بعضها يخيطونها كي لاتنفتح ويبدأون في اللعب مع ضيق المسافة .... كثيرا ماتعدت كرتهم إلى المروحة فكان مصيرها (الكرة ) في الحمام .


بقينا نحن الثلاثة فقط في الزنزانة ... (م) يلعب الطائرة مع (ج) وأنا فوق السرير من الأعلى أتزود من قراءة القرآن .... غريب أمر القرآن الكريم ، قرأناه كثيراً ونقرأه كثيرا .... ولكن ما أكثر الآيات التي نفاجأ بها .... كنا نقرأها ولكن قراءة غافلة وعند التبحر في المعاني تتكشف صور كانت غائبة عن إدراكنا ..... وجميل إسلوبه أيضاً , ممتع لاترتوي النفس من معينه أبدا.... تبقى مشتاقة إلى لطائفه ومعارفه ..... بهذه العلاقة داومت على قرائته صبح مساء ..... لاتنقضي صفحة دون انعطاف الصفحة الأخرى فوقها .


أربعون ختمة استطعت أن أختم القرآن في عام واحد عشته في ذلك الغياب المكروه ..... تلك نعمة تفتقت مما حسبناه نقمة .... حتى كان نصيبي في بعض الأيام قراءة عشرة أجزاء كاملة .


الحديث الشريف يقول : القرآن ربيع القلوب ..... ترتاده متنعمة في أفيائه ، تقطف من ثماره اليانعة وتعب من زلاله الرقراق .... مواعظ وأحكام ..... وعبر وقصص الأولين ، حين لم يكن إلا القرآن ، توزع الوقت فيه ، بين القراءة ..... والحفظ والتدبر ..... لاوقت نعطيه لسجاننا يتمكن فيه من الإنتصار بقتل لحظات حياتنا دون استغلالها ..... قراءة تنجز عشرة أجزاء في اليوم تقريبا .


تتخلل برنامج القراءة هذه جلسات فكاهة وطرافه ، أو وقفات حوار وثقافه .... وقف (م) من الزنزانة (45) يحاور أحد الأساتذه من فتحة الدك ..... الأستاذ مولعاً بركوب الخيل ، بينما صاحبنا (م) له مغامرات لايشق لها غبار في ركوب الحمير .... في صباه طبعاً ، ولديه خبرة جبارة في التعامل معها ..... تحادثا كثيراً في حكايات ماقبل السجن ..... قبل إنهاء حوارهما قال الأستاذ متعهداً يا (م) عندما نخرج تعال عندي في الإسطبل ، وأنا على استعداد تام لتعليمك ( الفروسية ) .... أجابه (م) رداً على حسن ضيافته ... أجابه بحسن نيه وأنا على استعداد تام بالمقابل لتعليمك ( الحمورية ) .


كان اعتقاد (م) أن الفروسية لما تحولت من ركوب الفرس هكذا ... إذن ركوب الحمير لابد أن يكون ( حمورية ) .... هكذا أضحك (م) ساكني الغربة بسلامة نية ، ونحى عن صدورهم تبعات الإنشغال بطول الإعتقال .... داخل الخجل الأستاذ .... فبادر متشكراً من (م) على رد الجميل .


برنامج حفظ السور مشوق أيضا ..... أختار سور القصص غالباً أو السور ذات الفضائل المميزة .... أقسم السورة إلى فقرات حسب مواضيعها ..... مثلاً سورة الكهف تحمل أربعة مواضيع ، قصة أهل الكهف ومحاورة الصديقين ورحلة موسى والخضر وحصيلة رحلات ذي القرنين ..... أحفظ كل فقرة منفردة أحفظ آيه آيه بكتابتها على الجدار في سطر واحد مهما طالت ، وأقسم الآية حسب الجمل فيها ..... طريقة سهلة جداً تمكنني من الحفظ ذهابا وإيابا مشياً على الأقدام ..... مواجهاً للكتابة على الجدار .


بالطريقة الفائتة حفظت سوراً طوالاً ، كسورة يوسف ومريم وهود وطه والقصص والكهف والأنفال وياسين والملك ..... أتنزه في معانيها الإلهية كثيرا .... وليس من العبث وجود نبيين ذاقا مرارة السجن ..... يوسف عاش في السجن سنين عديدة ، خرج بعدها معدا لتسلم أعلى المناصب ، وكأن السجن مرحلة اختبار يجتازها الأقوياء في عزيمتهم فيكافئون في دنياهم قبل آخرتهم ..... ويتقهقر عن تخطيها الضعفاء فيخرجون كما دخلوا ، وقد يخرجون وهم اسوأ مما دخلوا.



ويونس نبي ابتلاه الله بسجن من نوع مختلف ...... كان سجنه في بطن سجانه ، يطوف به ثلاثة أرباع الأرض .... الظلمة مطبقة على بصره وجسده ..... وكان تسبيحه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .... تسبيحه كان مناجاة له من غم يداهم أفكاره .


ونبي آخر يهدده فرعون بالسجن ولايخشى من التهديد مادام محقاً .... ذلك موسى ثائربني إسرائيل .... منذ ذلك اليوم البعيد ، يوم تمنى يوسف السجن على ما لايرضي الله ، والسجن محطة تربية تنطلق منها نفوس الكبار ..... قد يعتقد الجبابرة أن السجن يركع النفوس لرغباتهم ..... قد يركع البعض لرغباتهم .... ولكن النفوس العملاقة تصنع من سجونها قاعدة تطلق منها ذخيرتها على خصومها ..... النفوس الزاهدة في نعيم الدنيا لاتقلق بحجبها عن النعيم ، والنفوس الخائفة من عذاب الله ، لايخيفها عذاب المخلوقين مهما قسى .


كثيرون هم الذين تركوا التفكير بما في الخارج .... وأعادوا تفكيرهم لموقع أجسادهم .... التفكير في الخارج يتعب الأرواح ويوقد في خيالها قلقا .... إذن التفكير في الخارج لوقت الوصول للخارج .... هكذا يصنع السجين من معتقله قناة تحمله لمراتب الكمال وتنفخ في روحه معاني الصمود ، ويخرج من معتقله أقوى من يوم دخوله .... كذا يكون السجان كمن ساهم في تقوية خصمه من حيث لايعلم .... ولسان حال السجين يخاطب السجان قائلاً : شكرا لك ياسجان .... لقد ضاعفت من مناعتي وأتحت لي فرصة الترقي في مدارج الكمال .


شكرا لك ياسجان على غير رغبة منك .... شكرا لك بلا إحسان تسبغه علي ..... شكرا لك على ماجعلك الله أحمقا تريد مضرتي فتنفعني ، وتريد الإساءة لي فتحسن لي .... شكرا لك على ما قدمته بغير علم منك .... شكرا على قسوتك التي تجعل التعاطف معي كاملاً .... وشكرا لك على مايقدم لي النعيم ويقودك إلى سواء الجحيم ... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع