شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (20) - في مدرسة النمل

الرغبات في المعتقل يصبح لها طعما آخر والهوايات يكون لها معنى مخلتفا ... إذا كانت الرغبات في زمن الحرية تضحك أحياناً وتثير العجب فإنها في زمن الأسر ستغدو غريبة أكثر ، إصطاد (م) صرصورا ربط في عنقه خيطاً رقيقاً ناعماً .... أخذ يشده للناحية التي يريد توجيهه إليها .


قرأ (م)لما كان بالخارج أن سجيناً أمريكياً ربى صرصورا في سجنه ، وتعاهد العناية به طويلاً ، ولكن من سوء حظه أن الصرصور صار ضحية لحذاء أحد الشرطة . إستاء السجين من غفلة الشرطي ، ورفع قضية ضده يطالب فيها بالتعويض .... ويبدو أن السجين سيكسب القضية لاحقاً .


اغتصب الأستاذ من فمه ضحكة ساخرة وقال : وأنت ماذا تريد أن تعمل بهذا الصرصور ؟ بعد أن يدهسه الشرطي ستقيم دعوى عليه؟! إن ماتطمح إليه ليس هاهنا ... وإن الدنيا لمليئة بالمفارقات والمغالطات ... أمريكا هذه التي تعتقد بوجود من يرفع دعوى فيها لمجرد قتل صرصور بحذاء شرطي .... أمريكا هذه تدوس العالم بطغيانها وعنجهيتها ولا تعير إهتماماً لأحد .. بينما هي ترينا عدالتها في قبول دعوى بشأن قتل صرصور ,أما هنا ، فأنت بأكملك ليست لك قيمة في ميزان حسباهم ، وإلا لما كنت هنا بدون قضية ولا ذنب ... إنهم هنا يقتلونك ولا يرون أنفسهم مذنبين ... فكيف بصرصور من الحشرات . إن أمره أسهل مما تعتقد بكثير.


إن الذي تبحث عنه من حق لا يكون إلا عند الله .... عند الله في يوم القيامة توفى كل نفس بما عملت .... حتى الطائر الذي تصطاده وتزهق نفسه .... يأتي يوم القيامة متشحطاً بدمه شاكياً يقول : يارب سله لماذا قتلني ؟ لم يستفد بلحمي ولم يتركني أكل من رزق الله وأحلق في سماء الله .


تشاء الأقدار لنا رؤية مخلوقاته الضعيفة ترتاد الحرية ، لا تعيقها أبواب ولا تقف دونها حيطان .... النمل تلك الحشرة الساحرة ، تنتقل كما تريد ولا تتحرك كمايريد غيرها منظمة في عملها تسير أسراباً أسرابا .... كأنها جيش منظم يخضع لقوانين عقوبات ننحدر بأعمدة أجسامنا إلى القاع .... نلاحقها بأعيننا ... نعترض طريقها تنعطف الأولى يميناً .... ينعطف الجيش بأكمله يميناً .


حين تقع إحداها صريعة لايمر الباقون دون تشييع جثتها فوق رؤسهم .... السرعة من أبرز صفاتها ..... وضعنا لها خيطاً رقيقا تسلقته بكامل فيالقها لتصل إلى هدفها ... ولما ألقينا لها بقطع من الدواء حلو الطعم .... تكاتفت على حمله ونقله إلى مخابئها .... بجسمها الصغير ذاك تحمل فوق جسدها أضعاف وزنها .... لا تعرف شيئا يسمى اليأس ...اليأس الذي يسميه اليائسون في عنبرنا (الهطط) تعبيرا عن قمة الضيق والسأم .


في هذا السجن البغيض تكون النملة معلماً على الصمود وقطع دابر (الهطط) .... ياللعجب ويالمشيئة الله التي شاءت أن يبعث خلقاً من مخلوقاته .... ضعيفاً بجسمه ، قوياً بصلابة إرادته . تقع هذه النملة جماعات جماعات تنحت من عظام الدجاج طعاماً لها ... ولو شاءت يد الإنسان تنظيف العظام بأحسن من ذلك لما استطاعت .


هذه النملة تشبه في سرعتها وملاحقتها لبعضها البعض تلك السيارات التي كانت تلاحقنا في بداية التسعينيات, 3 سيارات مختلفة سريعة تتبع بعضها بعضا .... منذ الصباح الباكر تحوم إحداها حول البيت تراقب السيارة ( سيارتي ) هل جاء صاحبها ليمتطيها ويخرج أم لازال مختبئاً في البيت , تبدأ المطاردة الخفية منذ أول وهلة لوصولي السيارة .... يبدأ النفير لديهم ... يخابرون بعضهم بإبتداء الملاحقة الساذجة ... تصاحبني ثلاث سيارات دواماً كاملاً من الصباح حتى رجوعي للبيت وإن كان عند أذان الفجر .... يجردون تحركاتي أولاً بأول ... يسجلون مواقع تواجدي بالوقت والتفصيل ... إذا تاهت سيارة ترشدها الأخرى عن موقع وجودي ، إذا تكهن أحدهم انعطافي يميناً ، إتخذ الثاني الشمال له طريقا .... رصد سخيف وبلا معنى ... يرصدون من يرصدهم .


إذا ترجلت من السيارة يترجل أحدهم كي لاتغيب عن مرآه صورتي ... عندما ترجلت مرة من المرات في إحدى جولات العمل ... مشيت فمشت قدماه خلفي عن بعد ... انعطفت يساراً وكنت قاصداً للمبنى على اليسار مباشرة ... دخلت المبنى ورحت أراقب دهشته عند افتقادي .... وجدته ورأسه كالمروحة في الدوران يبحث عن وجودي ... أين اختفيت ؟ هل إنشقت الأرض وابتلعتني ؟ .... أم انفرجت السماء وتناولتني؟ .


أبرزت جزءا من جسدي في النافذة المطلة على الشارع المتواجد فيه فرآني ... وعادت الحياة إلى نفسه ، ومرة أخرى استخدمت سيارة أخي في الخروج فلم يلاحظوا خروجي ولما عدت لمحني المتربص بي في مدخل القرية ... أدرك خطأهم ... استبدلوا متابعة سيارتي بمتابعة سيارة أخي ... عدت ثانية لإستخدام سيارتي بينما هم يلاحقون أخي ... وبعد مرور فترة لا بأس بها أدركوا أنهم يلاحقون من لا يألفون قسمات وجهه .


هم كالنمل ,السرعة من صفاتهم ، لكن ليسوا كالنمل في النباهة ، ولربما هم لايدركون مخالفتهم لدستور الوطن ، ولكن من بعثهم يعلم هذا ويتجاوزه لكون الدستور في جيبه وليس في جيبي ... هو يستطيع التملص من أية مادة بمخارج كثيرة ... وليس لك إلا القبول برؤيته ... وما دامت عبارة ( وفقا للقانون ) تدس أنفها في جل المواد ... هو يرى نفسه القانون .


وبعد تصرم شهور من اعتقالنا أفرجوا عن الأستاذ عـ... يوم تأبط أغراضه وغادر الزنزانة غارت في أفئدتنا خناجر افتقاده ... فرحنا لإطلاق سراحه وإن كنا لانجزم باليقين بإطلاق سراحه .... كثير ممن يفارقوننا نعتقد خروجهم ونفاجأ ببقائهم في سجن آخر ... لحظات انصراف الأستاذ بهجة له وشجن في حلوق من تركهم خلفه لحظات تترك في النفس هوة واسعه بوسع الفضاء .. لايسدها شئ ... فراغ في مكانه وفي مواقع ضحكاته وأنسنابه ... هو كالفقيد إلا انه غير فقيد ... فقيد من مصاحبتنا .


أول ليلة بعد خروج الأستاذ كانت تعادل أول ليلة في ذلك المكان ... بتلك الليلة يتجدد الأسر على مشاعرنا لمرات ... نتمنى وجوده بيننا ولا نتمنى بقاءه في ما نحن فيه ... حالة تلك تعيشها كل الزنازين بإنصرام أحد ساكنيها من أحشائها ... في أمان الله يا أستاذ إذهب مصحوباً برسائل الشوق الدافق لأغلى الأحبة ... وقل لهم إنا عائدون يوما ما ....... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع