شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (15) - بين الردة والضمير


الوقت يسري مفترشا أجسادنا في راحة من نفسه ... ساعات النهار صامته لا تحكي ولا يحكى فيها .... ساعات الليل تعود فيها الحياة إلى أجساد تحاصرها الجدران ، بعد تناول ما يسمى بوجبة العشاء ، على مضض من أرواحنا وأعضائنا ... يعبر ممر السجن رجل الطب .


لا أعلم أهو طبيب أم صيدلي أم ممرض! ... لكن شكله لا يوحي بوجه طبيب . يفتح الشرطي له البوابة كل واحدة على حدة ... يسأل الشرطي معتقليه ( أحد يبي طبيب ) ... حتى لو لم يكونوا بحاجة للطبيب .... يتهافت الكل لإصطناع علة يقف بها ولو على حدود البوابة يستنشق الهواء القادم من الخارج ... يعطيهم ( الممرض ) الأدوية المهدئة المؤقتة .... من يحتاج لفحص الطبيب يدون إسمه وفي الغد يؤخذ للعيادة في القلعة .


يهب الكل لتناول الأدوية البسيطة علهم يذيقون بطونهم طعماً آخرا غير الطعام القاسي , حتى مسكنات الصداع يأخذونها لعلها تقتل ضجيج الأرق في رؤسهم ... يتحايلون على عين الشرطي أحياناً ... يوهمونه بوضعها في فمهم ... لكنهم يمررونها في صفحة صدورهم ... يدي تورمت من القيد البلاستيكي ... أكل في معصمي ... صارت مع تردي الظروف هناك تزداد تورماً ... عرضتها على الممرض ... ليس لديه في عربته علاج ، كتب لي زيارة لعيادة القلعة بعد أن هددت الشرطي بتحمله المسؤلية لكل ما يترتب على الوضع المتردي ليدي .


كتب لي الطبيب مرهماً ... داومت جاهداً على وضعه كي أتجاوز المرحلة الحرجة ... الأدوية تبقى بحوزة الشرطة ... عند حلول موعد استخدامها يجلبونها .


الشرطة هؤلاء لايمكن للقسوة أن تكون عنواناً لهم جميعاً .... بعضهم ملأته الوظيفة حقداً وحنقاً يتعلل بأوهى الأسباب لبعث الإهانة لنا ... كالذي جاء وأمرنا بإزالة حبل الغسيل المكون من أطراف الألحفة المربوطة ببعضها ... أمرنا بإزالتها أمام ناظريه ... كأننا لسنا بشراً ... ولا حق لنا في اللباس النظيف ... ويا ليته كان نظيفا ... حتى تلك النظافة المهلهلة يحسدوننا عليها ... البعض منهم يمتلك فضلاً من الضمير يتألم به لما نكابده من بؤس .. لكنه لا يملك حيلة ينفس بها عنا ... هو يخشى من الآخرين .... الآخرين كل عين على الآخر... يخشى الوشاية بتهاونه في معاملتنا والتعاطف مع شدتنا .


آخرون منهم ينفس عن كبته وعقده في أجسادنا ومشاعرنا ... كنا نراه لا يأتي لتقديم وجبة أو معاينة ممرض إلا والهوز بقبضته إيحاءا بالشدة والجبروت .... إحدى المرات اضطر هذا الشرطي للذهاب قليلاً ... أعطى الهوز للشرطي الثاني وذهب .... بعد أن تأكد الشرطي الثاني من انصراف صاحبه تماماً ذهب وألقى بالهوز وعاد .... سألته لماذا تصنع هكذا ... أجابني ألستم بشرا مثلنا ؟ لماذا يعامل الإنسان كالحيوان؟ .


للأسف كان الشرطي الأول من أصل عربي والثاني من أصل غير عربي ... بعضهم يدرك كونه ضيفاً عليك في وطنك ولكن الأقدار حكمت بوقوعك ضيفاً في حوزته ... ضيفاً بلا إحترام .. نبحث في وجوههم عن بحريني الأصل فلا نجد أبدا ... خليط متناقض لايمكن للأصيل وجوده بينهم , الأصيل يحمل قلبا كقلوبنا نتشارك في الدماء وضخها لنهضة الوطن ... الأصيل يعود به الأصل لإنصافنا .... الأصيل لايضر بالأصيل .


مع هذا وجدنا في الخليط المتناقض ذلك قلوباً تأبى الخضوع لميتي الضمير .... صغار السن منهم عادة ما يكون الغرور مختالاً في أعطافهم ، يحسب نفسه ممسكا بقبضة الكون ... يخاطبك بطرف أنفه ... يختال في مشيته ... متبختراً في زيه الوظيفي ... لو أسعفه الزمان لتاه في الفضاء ... بعض هؤلاء كان يمعن في سوء المعاملة .... يدخل الزنزانة وبعد خروجه يقذف بالباب كالصاروخ ولك أن تكون داخل الزنزانة لتعرف حجم الصوت الصاروخي في أسماعك ... حين خاطبه أحد الساكنين في الزنزانة ، ألقى كلمات بذيئة لاتصدر ممن بلغت به العمر إلى أرذله كما بلغت به... كلمات يأنف القلم من تهجي أحرفها .... وأعاد الفعل مرة أخرى وانصرف .


البعض كانت السماحة تقطر من وجهه يجتهد في تقديم العون متخفياً ويتجاذب الحديث معنا بعين متلفتة ... ومن صغار السن كان أحدهم يفتعل الحجج للإهانة .... ناديت في إحدى المرات عندما غربت الشمس وغابت عن سمائنا ,ناديت فجاء هذا الشرطي سائلا عن حاجتي : فطلبت منه أن يشعل الأضوية .. قال ( زنزانه رقم كام ) قلت له كل الزنازين أشعلها .... قال : أنت لاشأن لك بالباقين ! أنت فقط عليك بنفسك ... قلت له : كما تشاء ، كنت أدرك مدى خيبته بعد قليل .


نادى علىالشرطي الجالس أمام البوابة : أشعل الإنارة للزنزانة 47 .... مازال واقفا ينتظر النتيجة... بعد لحظات أشرقت الزنازين بالإضاءة جميعها ... ظل مبهوتاً ... ولكي يداري هزيمته قال للشرطي ( زنزانة 47 بس ) ... أجابه الشرطي : كلها تعمل بزر واحد ... جرجر هزيمته وانكفأ يسحب في ( جزمته ) خيبة لاتليق إلا بمغرور من أمثاله .


البعض منهم تشعر بالعقد النفسية طافحة في تصرفاته ... وقد أتاحت له الظروف إفراغها في الضعف ... في من يصدق فلا يصدق ... حين يكذب الشرطي فيصدق .... هم بشر مثلنا إن انصاعوا للوازع والفطرة والضمير ... وهم وحوش كاسرة وضباع غادرة حين يتنكرون للإنسانية والرحمة .... تبحث عن العناصر النظيفة فتجد واحداً في كل ألف ... على صور القساة منهم تهجع أجفاننا ... أنام في النائمين ... تحلق روحي في عالم بعيد واسع , تنفض عن جسدها إنهاكا أتعبها ... ها أنا مبحر في سفينة مليئة بالمسافرين ... العواصف حركت الأمواج بعنف ، فصارت السفينة في موج كالجبال .... تنفرج الأمواج فتبدو جزيرة صغيرة ، خضراء بأشجارها ، تتوق النفس للهبوط على شاطئها والسلامة من غضب العاصفة .


الأمواج تصب من جبالها سيولاً داخل السفينة ، السفينة تضطرب بين اليمين والشمال .... تمكنت العاصفة من الإنتصار على السفينة ، أردتها تغرق في غياهب أمواجها الغاضبة ... أطفال ونساء وشيوخ وشباب ... أرواح تبحث عن نجاتها ، خشبة طويلة انقذفت نحوي بقدرة قادر, صعدت عليها والأمواج تأرجحني محاولة اسقاطي ... حتى إنتهت بي الخشبة على شاطئ الجزيرة الخضراء ، مغمى علي ، على وجهي قطرات متفرقة تملأه ... يداي متعلقتان بالطرف الأضعف من اللوح الخشبي ... العاصفة شكلت من عنفوانها قبضتين تخنقان بهما رقبتي ... العاصفة تضغط على رقبتي بشدة ... أحاول التخلص من قبضتها .


فززت فزعاً من نومي ... الحر محيط بلهيبه حول رقبتي ، فحيح من الحرارة يتدفق حولي ... العرق يملأ أجزاء وجهي كاملة ويداي متشبثتان بعمود السرير الحديدي ... حلم يمر برعبه كل ليلة في زنزانة يفتش عن جرح غائر يصب فيه ويلاته ... أحلام لها أول وليس لها آخر تعبث في رؤس المتوسدين حرمانهم .... أحلام تهبط على غير رغبة , وأحلام أخرى تهبط برغبة مكبوتة في أغوار النفس ، وأحلام توحي بها نفثات الشيطان ... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع