شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (14) - بعيداً عن الكتاب

إنصرف الشتاء غير محمود عنا ، إنصرف بعدما أرانا من زمهريره لحظات العناء وبعدما حول الزنزانة إلى صفائح ثلاجة نسكن بينها ... انصرف يسحب معه صرير الرياح وتلاطم الأمواج ... انصرف يحمل في كنانته أمطاراً لم نرها ولم تبللنا ببركة قطراتها ... ولى الشتاء عنا متوعداً ولسان حاله يتهددنا قائلاً : ستندمون على كفرانكم بي ... ستعضون على عشر أصابعكم تأسفا .


راح المناخ يقلب من أجوائه ، الجو بدأت تسخن أوقاته . صارت الزنزانة كالفرن هي كالعراء لاتقيك البرد ... ولاتحميك في الصيف ... هي العراء الذي لاتملك فيه أرجلاً ولا كفوف .


أخذنا نطلب من الشرطة فتح المروحة .. المروحة تأخذ الحرارة وتعيد تصنيعها ... فاقد الشئ لايعطيه ، صدق الشتاء في توعده لنا ... ها هو الصيف يزحف علينا بلهيب شمسه ، وتسعر ظهيرته ، الصيف وما أدراك ما الصيف .... نفتتح كل نهار به بتناول وجبة الإفطار .


كوب من الحليب ، وصحن من ( الباقلة ) يرافقه رغيف ذابل ... اليوم التالي يتحول ( الباقلة ) إلى ( نخج ) ... وفي اليوم الثالث يكون دور ( اللوبه ) وهكذا قضينا ما يقارب العام الأطعمه الثلاثة تزورنا بالتتالي وفي انتظام ... ثلاثة أشقاء لايختل نظام نوبتهم ولا يتخلف أحدهم وليس لهم رابع أبدا .


الفاضل من الشاي أو الحليب نغمس فيه الرغيف ... يتشرب الرغيف بالشاي ، ندعه حتى يجف فوق حبل الغسيل الممتد من فتحة الهواء إلى النافذة .... حبل ننشر فوقه ملا بسنا بعد غسلها وإزالة الأوساخ العالقة بها من المكان ... غسيل لاينزع منها كامل الدرن ولكنه غسيل بأي حال .... غسيل بالماء القراح وحسب... حيث الصابون حلم بعيد . على ذلك الحبل ثبتنا الرغيف , يأخذ الوقت الكافي ليجف ... وفي الأصيل يكون الرغيف قد أتم جفافه ... وهاهو ( الجباتي) جاهزاً ولكن أنى لنا بالسمبوسة .


تلك الرغبات داخل المعتقل غالية الوجود .... قد لا يعتنى بها خارجاً ( فكل موجود رخيص ) ... أخيرا استطعنا الحصول على ( جباتي ) تتكسر أطرافه في الفم بين حلاوة الشاي ولذة الرغيف .


في ركن قصي من البلاد كالنائين في مجاهل أفريقيا ... لاكتاب نعب من فيض نميره .... ولا قلم يحاكي خواطرنا ... الكتاب سعادة محجوبة عن ناظرنا .... ومن أعجب المفارقات لديهم وجود مكتبة ضخمة أمام بوابة عنبرنا ، أدخلونا فيها بعد ثلاثة أشهر من الإعتقال ... لا لكي نقرأ ... أدخلونا كي يلتقطوا لنا صورا فوتغرافية بوجوه شاحبة .


تتصدر المكتبة لوحة كبيرة ... مكونة من الخشب المحفور بالمنشار الدوار ... صنعها أحد السجناء السياسيين السابقين .... لقد جسد آية ( مرج البحرين يلتقيان ) حتى آخرها ... جسدها في جسم خارطة البحرين تعبيراً عن ولائه لأرضه وحبه الدائم لوطنه وإن جار عليه أبناء وطنه .


إلتقطوا لي صورة واحدة والتقطت عيني صورا متعددة لكتب مهجورة تضج بالويل والبثور .... حاصرها الغبار وقيد صفحاتها كما حاصرتنا الجدران .. كتب هجورة هنا بلا قارئ .... ونحن هناك قراء مهجورون بلا كتاب ...يسمحون فقط ( للجنائيين ) بإقتطاف ثمارها والتسلح بأقوى ما في سطورها من فوائد .


أما نحن فعقاباً لنا ولثقافتنا الزائدة ... كان علينا أن نجهل القراءة مدة مايرغبون , حرمان يشبه في وقعه الموت البطئ ... إن كنا قاصرين ثقافياً ، أتيحوا لنا فرصة نتمم بها نضوجنا وإن كنا ناضجين أهكذا يحتقر الوطن أنضج ثماره ؟!


ألتقطوا صورنا سريعاً ، كان الهدف منها تجديد مدة توقيفنا ... لا بد من أن يأخذ القانون مجراه بدون القانون تستحيل الحياة .... حتى الإلتواء يسمى قانوناً ويمرر بإسم القانون ، أن تظلم وتفرط في البطش... دفاع يسمى بإسم القانون , أما أن تسمع كلمة مطلب فتلك فوضى وتجاوز للقنوات الطبيعية ... وأسماء كثيرة بإستطاعة القانون أن يبتكرها لينصر من يملأ رصيده بالمال .


ترجعنا أيدي الشرطة إلى أقفاصنا الكئيبة .... رياضتنا في ذرع الزنزانة طولا وعرضا لمرات متتالية ، نحرك في أعضائنا الدماء كي لا تتخثر وتجمد فيها ، حتى في السجن للجسد حق وللروح حق .... وعند انتصاف الليل وفي سريري الحديدي ، أطل بناضري للقمر في ليلة تمامه بدراً ... النجوم من حوله تتلالئ بغناء يفعم السحر نشوة وطربا .... فرح أنت يابدر منطلق في رحب السماء ... تحلق بين السحاب .


يابدر أتطل بأ نوارك على أعزة يفتقدون ضياء وجودي بينهم ؟ ... أتسامرهم وتمسح دموعهم الخجلى ... وتلقي في صدورهم صبر يعقوب ؟ .. أتحمل أشواقي لهم كل ليلة ليتدثروا بها قبل المنام ؟ . أم أنك لا تمر بمنازلهم المطفئة الأنوار . أناجي البدر وتناجيني أشعته بسكينة تخترق أعماق روحي .


تغفو عيناي في سريرها المؤرق ، تحلق روحي خارج الزنزانة بين زنازين المستضعفين ، تطل على ظلمة حجرهم .... حجر مظلمة لكنها تزهر بأنوار سماوية ... أجساد صفت أقدامها في أحشاء الدجى ، أسرح ناظري في باقي الحجر ... أرى أكفا مشرعة كفوفها في السماء ... وأرى ظهوراً مقوسة أحناها التضرع لذي الجلال والإكرام .
أطوف أكثر هنا في هذه الزنزانة .... استغفر الله ربي وأتوب إليه ... استغفر الله ربي وأتوب اليه ... لسان ذائب في الله ويطرق سمعي صوت من الزنزانة المواجهه ... هذا مقام العائذ بك من الله ... وتنطلق روحي لطرف آخر أسمع : العفو ... العفو ... العفو ...


وصوت آخر يهمس في نواحي السواد الداجي ... أنا جيك ياموجود في كل مكان لعلك تسمع ندائي ، فقد عظم جرمي وقل حيائي ... مولاي يامولاي أي الأهوال أتذكر وأيها أنسى ... ولو لم يكن إلا الموت لكفى .


أين المتنصتون خلف الزنازين ؟ ... أين الباحثون عن أدلة إدانة ؟ قوموا ! لقد شهر المعتقلون أسلحتهم ! لقد أبرزوا أسلحة الليل من كنانة قلوبهم وتحرروا من سجونكم محلقين في السماوات ، ساخرين من قيودكم الفولاذية .... قيودكم فولاذية وأجسادهم إلهية .... تنتصرون عليهم في النهار وينتصرون عليكم في الليل ... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع