شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (13) - من الجنة للنار

الخروج من الزنزانة إلى مقابلة الأهل كالخروج من النار للجنة ... والخروج منها للقاء ( اللجنة ) كالخروج من الجنة للنار ...... أما الخروج من الزنزانة للمستشفى كالتجول بين الجنة والنار ... الزنزانة جنة في النار, ونار في الجنة, ينقلب في نعيمها الهاربون منها بالتسليم ... ويتعذب في جحيمها الراهبون لها بالتوهيم .


على غير ميعاد فتح الشرطي باب المعتقل ، قرأ إسمي من ورقة بين كفيه ، قرأ إسمي كاملاً ... انطلقت من فمي (نعم) ... تخامرها الدهشة ! ، أشار لي بالخروج, الباب خلفه مفتوح على أكمله ، خرجت من الزنزانة ، فرصة لتسريح النظر في غير الزنزانة ... راحت عيني محلقة في الستينات وانعطفت بعدها للثلاثينات ، بين كل زنزانتين أو ثلاث أسير معصب العينين معطيا وجهه للجدار .


أقفل البوابة على زملائي فصاروا في قدر بعيد عن قدري .... استخرج من جيب بنطاله الأخضر عصابة حمراء ، ربطها فوق عيني وغرقت في ظلام أسود محمر .... إعتقل كفي ( بالهفكري ) وراح يبحث بكل مالديه من جهد عن ممنوعات .... كفاه تتسللان إلى كل الأعضاء ... لم يردعه حياء عن أي موضع ، له ولع بدس يده في مخفيات الأجساد ... عن ماذا يبحث في جسد أعزل ؟ ؟ عن أي محظور يفتش ؟ لو وسعه التسلل لخلف جلودنا للبحث لما تراجع !


يفتش عن حرز تخفيه اجتهاداتنا عن أعين المتصيدين ، أو رسالة تتجاوز الأسوار بدون إرادتهم ... وليس سوى ذاك ما يبحث عنه ... حرز يحجب عنك أذى المتربصين بجسدك ... حتى الحرز يستكثرونه عليك ... لا يريدون الله أن يكون خير حافظ لك .


لملموا العدد المطلوب من العنبر وانطلقوا بنا يقودوننا كالعميان ... أعيننا مقفلة وبصائرنا متفتحة برغم القيود والعسف و الإضطهاد ... أركبونا (الباص) ... الباص نوافذه مغلقة بلاصق حاجب ترى ما بالخارج ولا يراك من بالخارج .


وراحت السيارة تسير بنا إلى أقدار متعددة السبل ... نسيم من الهواء يتسرب لبشرتنا ويداعبها ... هذا هو الهواء إذن ... نقيا طريا يفعم الروح بالحيوية والنشاط ... هذا ماكنا محرومين منه أيامنا الخوالي ، مع سير السيارة تسير مخيلتنا بعيدا في تفاصيل الشوارع والحياة اليومية التي كنا جزءا منها يوما ما .


هذه هي الحياة في الخارج ، لازالت في عنفوانها لم تتغير ... كنا نعتقدها توقفت بتوقفنا عنها كنا نراها متلفعة بوشاح الخيبة حزنا على افتقادنا ... وإذا بها سادرة فيما يشغلها ، تصل السيارة بضحاياها إلى القلعة .... تتنقل موزعة الحصص إلى مواقعها ، حصة للعلاج وحصة للقاء الأحبة وحصة للإمتحان والبلاء ... أدخلونا حجرة خشبية ، تشعر بثقل جسدك يضغط على أرضيتها ، أجلسونا صفاً على الأرض جلوس .. ( مصمدين ) لانعلم ماينتظرنا على هذه الحالة بدأنا ذلك الصباح ... أرجلنا تسعى بنا إلى خفي غامض .


بعد انتظار طويل قاتل ببطئه ، نادى الشرطي واقتادني في ممرات مختلفة بين صعود وهبوط ... في إحدى الحجر الخشبية أدخلني ... فك عيني من أسرها ، فرأيت حجرة واسعة ,على اليمين منها صف من الطاولات ... على كراسيها ضباط جلوس بملابس مدنية وأصحاب الشمال هم كذلك .. صفان من الطاولات وصفان من المحققين ... أوقفوني بين الصفين في نهاية الحجرة ... وجاءت لحظة الحساب ، سألني أحدهم عن أسمي ؟ فأجبته ... الآخر كان جاهزاً بالسؤال الآخر ! ... هل استدعيت سابقا؟ .. قلت: نعم .. قفز السؤال من فم ثالث : ماسبب استدعائك ؟ قلت : بسبب قصيدة عزائية حكم القاضي علي بغرامة 300 دينار .. ساد الصمت على أصحاب اليمين وأصحاب الشمال .


قال أحد أصحاب الشمال : ماذا تعمل .. أجبته : أعمل خطاطاً ... قال وضح يعني ماهي طبيعة عملك ، قلت : أخط اليافطات الإعلانية من القماش والخشب ، وبطاقات التهاني والزفاف والكروت الشخصية .


طبيعة الأسئلة توحي بأنه لاتوجد لديهم إدلة إدانة ... إنما هي تحصيل حاصل كي لاتكون معتقلا بدون تحقيق ... أحد الضباط أستطعت تشخيص ملامح وجهه .. بلى هو بعينه كتبت بيدي بطاقة زفافه .. ولما نظرت من نافذة حجرة التحقيق رأيت سيارته قابعة بجانب الحجرة ، أيقنت من كونه هو ...


لما سألني عن طبيعة عملي وبعد شرحي له ، عقبت بقولي : ( الضابط ..) يعرف .. لقد خططت بطاقة زفافه ... فغر الباقون أفواههم وأعينهم تنفلت نحوه ... قال أحدهم له : أي بطاقة ؟ بطاقة الزفاف التي أرسلتها لي؟ : قال : نعم .


بعد وصول هذه المعلومة لأذهانهم خفت حدتهم ... وكان ذلك بعد أن حاولوا كثيرا أن يثبتوا أنني من يكتب على الجدران ومن يحرر اليافطات المناهضة للدولة .


ببساطة وبقوة حجة أثبت لهم عدم صحة مدعاهم ... بسبب كون خطي معروفا ولا يمكنني أن أكتب مازعموه دون معرفتي ... أسقط ما في أيديهم أمام حجتي .


نادوا الشرطي ليصرفني عن وجوههم ... أعادني في العصابة , وأدخلني مكان ما كنت جالساً على الأرض ... حجرة ضيقة في إحدى زواياها طاولة جاثمة ، فوق الطاولة مجموعة أهواز وعصي وخشبة سميكة اقتلعت من كزمة ( المعول) ... استطعت رصد المكان والطاولة من إزاحة طرف بسيط من ( الصمادة )


جلوس أرجلنا مضمومة إلى صدورنا ، مفترشين الأرض ... أصوات بكاء تقتحم آذاننا من الحجرة المجاورة ... صراخ متألمين ... أصوات عصي تشق الهواء .. شط ... شط .. تتبعها أصوات وقعها على الأرجل .. قع ..قع ... صور لامست مشاعرنا بالمواساة ، صور لم نراها لكنها بقيت محفورة في تصوراتنا ... صور لأرجل محكمة القيد في (الفلقة) وأيدي من لاقلوب بأجسادهم تنهش في لحومهم ... ( لهم آذان لايسمعون بها ) بلى ! لو كانوا يسمعون لذابت قلوبهم ... لكنهم حين كانوا بلا قلوب .. وحين غادرت القلوب أجسادهم ، قالت الآذان لقلوبهم خذينا معك .


بينما نحن في انتظار المجهول ، جاءنا المجهول برفقة أحدهم ، دخل علينا واختطف الخشبة السميكة إمعانا في تأدية واجب الضيافة ... إبتدأ من الجالس على شمال الباب ... يسألنا واحدا تلو الآخر ، يسأل فقط عن منطقة السكن ... فمن كان محظوظاً وأمه دعت له في صلواتها لم يكن من : الدراز ... أو السنابس ... أو سترة ... أو البلادالقديم أما من كان فأله أسوداً فيكفي تفوهه بإسم إحدى تلك القرى .


جاءت حصة العقاب نحوي ... سألني ( من وين أنت ؟) أجبته : من السنابس ... هبطت علي الخشبة غادية قادمة ... آخذة من جسدي نضارته ... حتى الرأس لم تسلم من قساوة الخشبة وحاملها ... وما انتهت يده من إكرامنا إلا وأجسادنا تملأها بقع سوداء تكتل فيها الدم .


بعد رحلة الرعب القصير عدنا إلى جنتنا في الزنزانة... وقد برحت بأعضائنا سقطات الضرب ... ولمدة مديدة بقيت كتفي تعاني من ثقل ضربة من وجبة ذلك اليوم ... وعدنا في منتصف النهار مشبعين بمرارة المشاهد رغم أعيننا المصادره الضياء من أجفانها ... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع