شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ما كان (12) - أغلى هدايا السجناء

في غيابة المعتقل يختلف طعم الأشياء... يكبر الشوق لأشياء كانت تافهة بالخارج أما الآن فلا وجود لها... التفاحة التي تراها أمامك ولا تعنى بها، تصبح أمنية كالأساطير، بل وتصبح حلما أن تجدها بين يديك تقضمها منتشيا بلذتها.


الأستاذ عـ يسند ظهره للحائط يتذكر ماضيا جميلا... وإن لم يكن جميلا... لكنه أجمل من حاضره.... يعصف به الحنين إلى تنسم أريج الزهور في باقة منها... إن لم توجد الزهور فلا أقل من صورتها، شرع الأستاذ في رسم سلة الزهور فوق الحائط... سلة كالتي يطلب منا المدرس في المدرسة رسمها في كراسة الرسم...


أتم رسم السلة في الركن الذي يمد فيه فراشه كل ليلة... أتمها باللون الرصاصي بقطعة الألمنيوم، لوحة متناسقة الأبعاد، تحمل إيحاء بعمق الشوق الكامن في الذات... لوحة بقت ولوبقينا لأخترعنا ألف وسيلة لنصل إلى تلوينها كما تمكن اللاحقون من صنع الألوان من ألوان الأكياس البلاستيكية.


اللون المفرد في اللوحة لم يفقدها الشعور بجماله... كنا نتنفس من باقة شذاها عبق... بلى عبقا يزيل طبقة الأكدار المتلاحقة على زنازيننا من تضييق وتتالي أنباء محزنة... الأستاذ عـ تعددت المواهب في شخصه، خطاط ورسام... ومصمم ومتعدد الامكانيات الفنية... قدير في المواد الفلسفية، وضليع في الدين.


تستطيع أن تعطيه صفة الإبداع براحة الضمير، مبدع بمعنى واسع... ألا تكرم الدول مبدعيها ونابغيها، وتسبغ عليهم من تقديرها... ها هو الأستاذ ينال أوسمة التقدير، صادروا حريته وعطلوا إبداعاته... وأودعوه عند كم من المرتزقه يسومونه ذل المعاملة... يعبثون في إحساسه بالجرح والتحقير. كيف لا تضيق الدنيا عليه وهو يشعر بالوطن يتنكر لأبنائه يسلبهم قوتهم، ويعطيه لأغراب حلوا عليه على غير رغبة منه... يرى هويته يسلخونها من جلده وينصبونها وساماً على صدور الدخلاء.


وفي آخريات الليل تحاصر عينه الهموم... وتشحذ في وجهه سيوف الأرق... أستيقظ ليلا لأجد الأستاذ جالسا على فراشه، وخيط من الضياء يتدفق من النافذة يعبر من شعر رأسه واصلاً إلى نهاية شعرات ذقنه الوافرة بالشيب.


أراه ولا يراني وكأن عيونه تنفث اشتياقاً مستعر... تدور عيناه صاعدة في السقف... هابطة تستعرض الجدار وكأنها تخاطب المكان... رأسه يحركها يمينا وشمالاً تحريك المتضايق... تلامسني حالة روحه، يتقمصني ألمه وأسرح عن مراقبة ضجره.


ما أكثر المرات والصور المتكررة من يقظة الشجن تلك.... لكن أملاً غنيا يتبرعم من خبايا أفكارنا، يصنع إشراقة تهب مزمجرة في وجوه السجانين.


أخيرا أرسل الأهل لي مصحفاً وملابس جديدة كملابس العيد.... ألا يعرفون أنه لا عيد لنا ؟... ثياب تفوح من قماشها رائحة الحياة، الحياة التي أصبحت في الطرف الآخر من البحر، وبدأت الثياب تتتالى علين... بحجم فرحتنا بها كانت تشبعنا حسرة.


الفانيلات الجديدة والقديمة على السواء أصبحت ضحية لابتكاراتنا... يستل الأخوان الخيط من رأسه... فتأتي الفانيلة كلها متفككه في صورة خيط واحد.... نجمع الخيط في كرة واحدة.... نفتل الخيط ونكون منه خيوطاً سميكه نبدأ في نسجه.


نحيك من خيوط فانيلاتنا حروفاً ثلاثية الأبعاد.... تأتي الحروف مرة بلون واحد ومرات أخرى بألوان ممتزجة. كلما مارسنا أكثر استقامت الصناعة في أيدينا... بالطبع لكل قدرة تميز عن أقرانها، ولم تفتنا كلمة الإمام علي (ع)... قال: من تردد في شي أوتي حكمته... وكانت ثقافتنا القرآنية تقول: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)... مارست حياكة الأحرف حتى أتقنت إحكام عقدها.... ثم تركتها لباقي زملائي يبدعون في أحجامها ويبالغون في جودتها.... يطرزون بها أوقاتهم.... وانصرفت لما رأيته أهم...


هذا هو الشعب الجائع من جراء فقره وبطالته... هذا هو يصنع من معتقله تحررا يشمخ به في وجه مستصغريه... فلماذا تعطل أياديه عن إثراء أرضه ووطنه... لماذا تقيد أياديه ولاتطلق لتعمر وطنها بفلذات جهوده... لماذا... لماذا.


في التالي طور أصحابي حياكة الأحرف الفنية... صرت أكتب لهم أحرازاً على جلد نقتطعه من غطاء الفراش: أكتب (كهيعص حمعسق وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما).. نطوي القطعة لتتحول إلى أصغر ما يمكن فينسج عليها الأخوة بمهارة ويتدلى من أسفلها خيط سميك ليكون حاملاً لها حول الرقبة.. عظام الدجاج المتبقية أيضا ساهمت في تطوير الصنعة، يحيك زملائي حول العظم بأكمله بألوان متداخله لتكون ميدالية خفيفة حلوة المنظر، يتهاداها السجناء فيما بينهم بوسائلهم الشتى.


هدايا تعبر الحيطان المغلقة... تصنع تزاورا خفي، يخفف من أثقال المجهدين، فما أحوج المحبوسين عن الدنيا وزهرتها لكف تحمل في وسع راحتها عناءه... يتبادلون هدايا تنتصب الأحراز في أجوافه... فتنام أعينهم ساهدة في حفظ من عينه لا تنام...
البقية تأتي.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع