شارك هذا الموضوع

كان في السجن ياماكان (10) - يا زهراء للإنذار

يعود السبت محملاً بالنضارة في معنوياتنا .... السبت خارج هذه الأسوار يعود بي إلى سبت أسود بسواد الدجى ..... سبت لم تلد الأسابيع مثله سبتا .... نهاية نهاره لملمت السنابس جراحها ، هدأت زمجرة الجراح فيها مخلفة في أرضها شهيدين ... وجثث أخرى , مشاريع شهادة لم تكتمل .... زارها الليل مهشمة الضياء .... السكون يعوي في طرقاتها .


السبت هنا يفتح أملاً منعشاً برائحة الطلقاء خلف أسوارنا .... تعود القافلة من القلعة لتجمع نتاج يومين صامتين ، وعندما تتهيئ الآذان في ( الدك ) في كل الزنزانات .... حينذاك لابد ( للعنبر ) من عين ترصد الشرطي ، لينذر المستمعين بالهبوط قبل إدراكهم متلبسين ( بالدك ) .


في باطن زنزانتنا يقع جهاز المراقبة ( الرادار ) .... كيف مكنتنا الظروف الضائقة من تجاوزها ؟! ... قطفنا قطعة من قطع الألمنيوم الراسخات في الدك .... وحصلنا على قطعة صغيرة من الصابون متهرئة ... وببحث جاد في الثغرات المتفرقة في الزنزانة عثرنا على مرآة صغيرة لاتمكننا من رؤية وجوهنا الشاحبة كاملة .


ألصقنا المرآة في قطعة الألمنيوم بالصابونة المنهكة ... وها قد تم تصنيع جهاز الرادار ... عند إلحاح العاطفة لتفجير ترانيم الولاء الحسيني أو التشاور أو التحليلات العامة ... عند كل ذلك .... يمتد أحدنا فوق الأرض معطياً صدره للأرض .... يضع الرادار بين الوسطى والسبابة .... يدفعه للخارج حتى يتمكن من كشف البوابة الرئيسية للعنبر ... يعطي العين اليسرى إجازة بإغماضها ....يركز النظر باليمنى ، فيرصد حركات الحارس مع بعد المسافة .... جهاز بسيط بدائي يفي بالغرض كاملاً .... كما يتفنن السجان في تشفيه يتفنن السجين في التنفيس عن كربه ..


مع أول بادرة لأقدام الشرطي بالدخول .... مع تلك الخطوة الأولى ينطلق الإنذار من صاحبنا معلنا بدخول الشرطي .


الشفرة المستخدمة للإنذار بقدوم الخطر كانت كلمة ( يازهراء ) تكفي مرة واحدة من صاحبنا مناديا : يازهراء لتترجم الآذان للأفواه أمراً بإلتزام الصمت ... حين يبتعد الشرطي يواصل صاحبنا بمراقبته بالعين مجرده عن رادارها وعندما يتعداه دخلا ( للستينات) .... يتعداه بخطوات لا بأس بها ... يهتف بــ ( يازهراء ) مدوية لتصل ( للستينيات ) وتخبرهم بقدوم الشرطي ... حيث لامراقبة لديهم .


لا أعلم في الواقع من أسس شعار الإنذار ( يازهراء ) ، لكنه بالطبع اختيار موفق ويوحي بنضوج الرؤية ... يازهراء إعلان بالمظلومية ... يرفعه المظلومون يؤكدون فيه بقاء مظلوميتهم امتداداً لمظلومية الزهراء (ع) .... يازهراء تعود بالسمع إلى يوم وقع فيه الهجوم الأول على البيوت الآمنه .... وكانت حصيلته هذه الزنازين الممتلئة بالأسرى .


يازهراء .... تبعث في النفس ارتباطاً بحق مضيع ... لازالت المطالبة به قائمة في الوجود ، نعم ( يازهراء ) كانت أمانا عند الخطر ، أليست هي من تلتقط شيعتها يوم الحشر التقاط الطير للحب الجيد من الحب الردئ .


حين لا يتمكن صاحبنا المراقب من الكلام .... ذلك حين يعاجله الشرطي ويكون ملزما بالصمت تكفي ثلاث ضربات متتالية على الجدار ليكون الصمت حاكماً ... بقبضة اليد نوجه قرعا على كتلة الخرسانة تلك .... فيمتلئ العنبر بصدى مفخم مدو كقرع الطبول... نقرأ في وجوه الشرطة حيرة مخفية ... الإستغراب والإندهاش يعصفان ببساطتهم ... يفكرون كيف يتسنى لنا معرفة وقت دخولهم ..


أحد أفراد الشرطة كبير في السن يطلي رأسه بالحناء ... شبهه رفيقنا (م) ( بطاسة الصفر ) نعم كانت هامه مصبوغة بالحناء كآنية النحاس .. هذا الشرطي كان يقول لأحد رفاقه : ( هذول عندهم شفره ) ... لما يدخل الشرطي يقولوا (ياسرى الليل) .


التقطت مداركه وجود شفرة ... ولم تسعفه خبرته في معايشتنا بمعرفة ( الزهراء ) في أعماق عشقنا ... وما زالت صورنا مبهمة في نظره ... وملامحنا غير بارزة لدى مداركه المقتصرة على تصديق كل افتراء علينا .


بهذه الصور تنتقل الأيام بنا من زمن لآخر ، نخوض الضيق ونصنع من شدائده عكاكيزا تسعفنا في اجتياز العقبات ، بطبع وظائفهم صاروا بارعين في السخرية من كرامة الإنسان .... الفريق الأول من شرطتهم عندما أنهى نوبته في (عنبرنا ) وصار عليه أن يغادرنا إلى غير مكان .... كان عليه أن يبدي سيطرته على الوضع ، بعد العيد مباشرة جاءوا ، فتحوا الباب ، راحوا يتملون النظر في الجدران ، وكأنهم لأول مرة يشعرون بإحتوائها على ممنوعات .


أجبرونا على تمحية كل مايمت للكتابة والقراءة بصلة .... أيدينا مجبرة مددناها بقطع من القماش مبللة ... محونا نصوصاً غالية على وجداننا .... محونا نبضات من قلوبنا .. أزلناها وكأنما أزلنا بعض أعضائنا .... عقاب قاس ذاك ما أقساه .


لم يكتفوا بحجب الكتب عن نواظرنا .... بل وأزالوا كل جميل من أبصارنا ، وكما يقال ( لا أرحمك ولا أخلي رحمة الله تنزل عليك ) .... كانت مرحلة لايشبهها إلا الإعتقال نعم كانت اعتقالاً آخرا يحل بروحنا .... ولم تكن الزنزانات الباقية أحسن حالاً ، لو فرضوا علينا نقلها بحبر من دمائنا قبل محوها لفعلنا ممنونين . كيف يسمحون لنا بنسخها وهم يستمتعون بنسفها .


ألا تعطى الهدايا والعيديات في العيد , كذلك نحن أعطينا عيدية تروح العصور وتنتقل ونبقى لا ننسى عيديتهم ... أحالوا العيد إلى جنازة شيعنا في إثرها أغلى مقتنياتنا . نصبنا في العيد ( فاتحة ) على ما فقدنا من أحبة أدعيتنا ومأثوراتنا .


كانت فاجعة لم يخفف الخطب بها إلا بقاء بعض الأدعية محفوظة في صفحات صدورنا لم يتمكنوا من محوها ولو تمكنوا لما توانوا عن إجبارنا في اتلافها ... وتشاء الأقدار أن تبقى القلوب مصونة من اقتحامها والتفتيش في أسرارها ... في حنايا قلوبنا طبعنا نسخا مما استطعنا نسخه فكانت عزاءا لنا في محنتنا ... وانصرم النهار وولى مدبرا وزنزانتنا جاثم على صدرها صمت المقابر القاتل ... يجول في زواياها الكدر البغيض ... ويعتصرها الألم المرير ويعشعش في مخيلتها نعيب البوم وتنفلت صور النحس في أجفانها انفلاتا ....


زنزانة ضاقت بهمومها واتسعت لتكون مقبرة ملئ بالقبور ... قبور الممحوين والمصادرين والمحرومين من مناجاة رب العالمين .... البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع