كلما حلّ موسم عاشوراء على أرض البحرين العزيزة بدأت معه الإبداعات الثقافية والفنية والعاطفية الفوّارة، وهو ما جعل البحرين لأن تصير قِبلة يقصدها الكثيرون من أطراف محيطها الجغرافي لمعايشة مثل هذه الفعاليات المتميزة، وما زاد الأمر تألقاً ولمعاناً هو ما دأبت عليه العديد من الجمعيات الدينية والمراكز الفكرية على طرح قضية عاشوراء بلغة عالمية مفهومة، بدءً من توفير اللسان الأجنبي وانتهاءً بإسقاطها على واقع الحال، والتدليل عليها من خلال أن الحسين هو مشروع حياة وبناء وعزيمة.
إلاّ أنه وفي غمرة هذا الوميض الفوسفوري الرائع لعاشوراء الحسين لا تزال مسألة التطبير البائسة تُشكّل التهديد الأكبر للمشروع الحضاري للحسين (ع).. هذه البدعة التي جاءتنا وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم قد وصل أمرّ تحملها إلى نهايته، ولم يعد الوقوف بحيادية أمامها مقبولاً من أحد لا من عُلماء البحرين ولا من مؤسساتهم الدينية والاجتماعية، ولم يعد هناك من خيار أصلاً سوى إيجاد اصطفاف عُلمائي واجتماعي يقضي على هذه البدعة التي وُلِدَت وهي تحمل في أحشائها بذرة دمارها ورمادها معاً.
إن الموقف التاريخي الكبير الذي دشّنه الامام علي الخامنئي وما أعقبه من تأييد فقهي وحوزوي واسع ضد هذه المسألة كان مدخلاً مهماً لفتح الباب أمام مشروع تنقية الشعائر الحُسينية المعظّمة، وإبراز التشيع والإسلام بصورة أكثر ملائمة وعقلانية في زمن سطوة التكنولوجيا وشياع الصورة وانتقالها من ادْنى الأرض إلى أقصاها، لذا فإن العلامّة الكبير السيد مرتضى العسكري لم يُخطأ عندما قال بأن ما تفضل به السيد الخامنئي حول الشعائر الحسينية قد دفعت بعالم التشيع إلى الأمام لفترة ألف عام، بل إنني أزيد عليه بأنه شكّل نقلة نوعية ومفصلية في مسيرة التشيع وسلوكه المسؤول في مراجعة المواقف والآراء.
لم يعد هناك أي عُذر أمام بقاء مثل هذه المسألة بعد الآراء الصريحة للإمام الخميني والخامنئي والآراكي والحكيم والأمين واللنكراني والآملي والميانجي ومكارم الشيرازي والمشكيني و الحائري وفضل الله وشمس الدين، بل إن الارتهان إلى آراء يتيمة من هنا وهناك باتت معادلة لا يُعتد بها أبداً، خصوصاً إذا ما تذكرنا بأن الكتب الفقهية لدينا (ولدى غيرنا) تحوي من الفتاوى الغريبة الكثير، كوجوب الوضوء بالنسبة للحائض وعدم مبطلية النوم للوضوء إما مطلقاً أو من المجتمع وعدم مفطرية تعمّد البقاء على الجنابة من شهر رمضان وطهارة القليل من الدم (الشيخ الصدوق) وطهارة بول الرضيع (ابن الجنيد الكاتب) وحصر مفطرات الصوم في أربعة (السيد المرتضى) وعدم اشتراط الغسل من الجنابة في غير رمضان وقضائه (الفيض الكاشاني) وغيرها من الأحكام والفتاوى، ثم إن حتى الفتاوى المُجيزَة مُذيّلة بمشروطة فقهية واضحة تجعل من هذه العادة حراماً.
لماذا هذا العناد المتحكّم في العقل، أهو تسييس أعمى للأمور أم إيغال في الجهل مدفوع بهياج الانتقام والضد للتخليقات العاقلة للأفكار والقيم، ماذا جنينا من سوى التبعات الخطيرة والهدّامة.
دعوة أوجّهها إلى الجميع وبالتحديد لأولياء الأمور أن يحذروا من أن تنجر أجيالنا الصاعدة إلى مثل هذه الممارسات، ويجب أن نتوسّم لهم ما يُثلج الصدر ويُريح الضمير لمستقبل يظهرون فيه بأبهى حلّة ومظهر، لا بنواصي مزدحمة بخربشات السيوف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
منشور في صحيفة الأيام 29 مارس 2006