شارك هذا الموضوع

كان في السجن ياماكان (9) - اليوم تغيرت الأدوار

تتوق الروح للحرية وللتنفس خلف القضبان .... تبادر أكفنا بطلاقة للنافذة العليا أتأمل الدنيا خارج أسوار السجن .... أراقب البحر لازال يمارس الذهاب والإياب .... ولا زالت القوارب ساكنة فوق سطحه تنتظر الصيادين .... هذا البحر بآخره على الطرف الآخر من شاطئه ترقد أرض قريتي البعيدة .... يحط طائر على سور السجن .... على السلك الشائك بالذات ..... الطائر عيناه متجهتان نحوي .... طويلا حدق في وجهي .. يالسخرية المقادير ، في يوم ما كنت ياطائر خلف القضبان تبتلع الحرمان وبرغمه تبعث تغريداً شجيا ، كنت تحلق في فضاء ضيق في قبضة القضبان .... وكنت لا أعبأ بك سجينا تحن للحرية .... اليوم عكست الأيام الأدوار ، أدخلتني خلف القضبان وأطلقت جناحيك للريح , الفرق كبير بين الأمس واليوم .


بالأمس لم أعرك طرفا من انتباهي ، واليوم جئت تواسيني وتزورني .... بالأمس سجنتك ولست من بني جنسك ..... واليوم جارت أيدي بني جنسنا علينا ..... سافر ياطير وخذ من خلف القضبان الحديدية شوقا يتلظى بين أضلاعي .... خذه علك ترى أحبة يتمنون بريداً من جهتنا .... قل لهم كما قال علي (ع) الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر .


أجسامنا تكلست من الغبار والأوساخ .... الماء لوحده لا يزيلها ، قلبنا الزنزانة رأساً على عقب ، نبحث عن إرث من السابقين يفيدنا .... أخيرا ظفرنا بالكنز المفقود .... قطعة مستهلكة من الصابون ، لا تكفي للإستحمام لمرة واحدة ... ملقاة خلف ( السيفون ) .... الأتربة تزيدها حجما .... رائحتها صدعت رؤسنا ..... منذ أمد لم تمارس أنوفنا مثل هذه الروائح .


( الصابونة ) إرث لايكفي لواحد ، علينا توزيعها على أربعة .... على أجسامنا أن تشم رائحتها على الأقل وإلا أدركتنا الأمراض الجلدية المتربصة بالمعتقلين .... علينا برغم البرد التزود بشيئ من بركات الصابون .


الصابون ممنوع هناك ، فلا يمكن أن تكون معتقلاً ومحقاً ونظيفاً ... يتوهمون .... المظلوم كقانون الفعل ورد الفعل ..... لكل فعل رد فعل .... يساويه في المقدار ويخالفه في الإتجاه ، إذا منع الصابون, مبادئنا أنقى من الصابون .... الصابون يذوب ويتحلل وتتبخر رائحته .... ونحن لا نذوب ولا نتحلل وعبق الكرامة غالب أينما نكون .


الفرشاة ومعجون الأسنان تلك الأشهر الأولى نسيناها مجبرين .... مبالغة في التحقير ولربما نظام كان ذلك, يقتدون به في تأديبنا ، كذلك الشامبو حرمته علينا شريعتهم .


كما يقول الأستاذ عـ .... طعامهم يبقيك على قيد الحياة ولا يقويك ، عندما تشرق الشمس وتبدأ في لبس عباءتها السوداء ، نصلي قبل الإفطار .... ريثما يأتون بالإفطار ، نتم الصلاة ونبقى أربعة نشبه بعضنا بعض في المظلومية وفي القيد الرابط بين الكفين .


يشرعون في توزيع الفطور علينا .... صحن من الخضار المتهرئة المطبوخة ( شخر نخر ) ورغيف ... رغيف كلمة ترسم لك صورة لقرص تفوح رائحة الفرن منه وأطرافه تتسابق في نظامها ، أما رغيفنا فمجازا نسميه رغيفا ... رغيفنا جسد ذابل كالجلد في القطع نعترض على رداءته أحيانا ... نصر على استبداله ، يتجاوب بعض الشرطة أحيانا.. يستبدلون القرص بآخر أقل رداءة منه .... ولكنه يبقى من نصيب آخرين في المعتقل ...يقال في الحديث (( لولا الخبز لما عبدالله .... إنما هذا الخبز يناسبه أن يقال لولا الخبز لما كفر بالله ....


كوب من الشاي الأسود .... يذكر أحد الأخوة أنهم يضيفون ( الكافور ) فيه ، في ليلة الأحد يستبدلون الخضار المطبوخة ( شخر نخر ) بالعدس ..... صحن مليئ بالعدس مع البصل المقطع وقد تجد فيه قطعة من البطاطا لا يتسع لها فم إنسان .


العدس طعام الأنبياء كما يقولون .... ما أحسبهم يريدون لنا أن نكون أنبياء ولكنها مشيئة القوي في الإبقاء على الحياة .... مرة من مرات العدس اللا متناهية ، رحت أعب العدس مغلفاً بقطع من أقراصنا السابقة ..... لقمة .... لقمات متتابعة ... وما أوقفني إلا فرقعة في فمي كادت أضراسي أن تتفتت منها .... أوقف الحدث أصحابي عن الأكل ريثما يخلصوا لنتيجة تجاسرت أصابعي متسلسلة إلى فمي .... واستخرجتها ..... كانت قطعة كنكريتية بحجم نصف بوصة تقريبا .. !!


ألقيت بها فوق صفيح الباب .... فأصدرت صخباً لازلت أسمعه لليوم حينما أعود بالذاكرة قال (ج ): إنهم يختبرون مدى تحمل أسناننا ! أما زالت قوية أم انهارت من جفوة الإهمال ؟"


الأيام تعبر علينا رتيبه بطيئة ، الخميس والجمعة ينزلان علينا كما نزلت الصيحة بقوم ثمود ، تأخذنا صيحتهما فنصبح في زوايا زنزانتنا جاثمين .... في الخميس والجمعة لازيارات أهلية .... ولا مرتادي مستشفى ... يغلق العنبر أبوابه عن الخروج ، 48 ساعة نجتر فيها السأم والإنتظار .... الإنسان مدني بالطبع ، يأنس بالآخرين وتنفرج أساريره برؤية إنسان .... الصاحب في المعتقل إنسان لكنه مع طول المدة تماهت روحه بأرواح أصحابه .... أصبح النظر منا للآخر كالنظر في المرآة .


الأدعية النورانية فوق ( الطيفان ) لاتكفي لملأ الروح بالطاقة الإيمانية ... نعمة من الله علينا أن رمت الأقدار الأستاذ -ع- في زنزانتنا ، ذاكرته لازالت طرية تحتفظ بفقرات دعاء الصباح .... نعم يا أستاذ هاته نحلق في رياضه كل صباح . استللنا للأستاذ قطعة من الألمنيوم .... راح الأستاذ بخط جميل يرصع الكلمات في طلاء الجدار .... اللهم يامن دلع لسان الصباح بنطق تبلجه ، وسرح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه وأتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه وشعشع ضياء الشمس بنور تأججه ... أتم كتابة الدعاء بخط واضح كبير ... في صفحة الجدار بالقرب من البوابة .


الأدعية عزيزة الوجود ... نخاف أن يلاحظوا وجودها في الجدار وتعلقنا بها ، فيزيلونها ويقطعون بهجتنا بالعثور على بساتينها العاطرة .


لابد من الإحتفاظ بوسيلة لايتمكن القهر من إزالتها .... رحت انقله حفظا من ذاكرة الجدار إلى ذاكرة القلب ... حتى أكملت حفظه مستعينا بتلاوته عقب صلاة الصبح .


في فقرات الدعاء استهلال بالثناء على الله .... والإتصال بساحته القدسية والإنقطاع عن المخلوقين .... فماذا ستجدي السجون في قلوب محلقه سارحة في أعلى عليين . هذه هي النفس توثق علاقتها بالله... تزداد قوة راسخه ... تنصرف في تهجدها وتضرعها فلا تهزمها أعتى القوى ... ولكن حين تغفل عن الطريق شيئا ما ... تتقاذفها الهموم والظنون .... ويعصف بمصيرها الضعف .


هناك في السجن أقوياء وضعفاء .... كل بإرادته كان كذلك ، وهو محطة اختبار يعبرها الكثير .... ولكن ماذا أخذ منها كل على حدة ، الإعتقال مدرسة إذا كنت استاذا ... يعتقد الشرطة غير هذا ، إحدى المرات جرى جدل بيني وبين شرطي أساء المعاملة كأكثرهم في التعامل .... قال أنتم مجرمون ! .... قلت له وكيف ذاك ؟ .... قال لايسجن إلا المجرم .... قلت له : ماذا تقول في النبي يوسف ؟ ألم يقل( رب السجن أحب الي مما يدعونني اليه).... أيتمنى السجن ليكون مجرما .. وقال القرآن ( فلبث في السجن بضع سنين ) ... وبمنطق أهل الدنيا أيضا يقولون : ياما في السجن مظاليم ... كان جوابه أن انصرف بدون جواب .


ها قد لاحت علامات انقضاء شهر رمضان .... رمضان يختلف عن الرمضانات الفائته ...طعمه الغربة والحرمان بالإضافة إلى الجوع ... ويطل العيد ، عيد غير سعيد .... انتصبنا لصلاة العيد قانتين .... اللهم أهل الكبرياء والعظمة وأهل الجود والجبروت وأهل التقوى والمغفرة وأهل العفو والرحمة ، اللهم بحق هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدا .... وتختنق الكلمات في حناجرنا .... الذي جعلته للمسلمين عيدا ، أعيدا هذا حقا؟! .... أمسلمون نحن حقا .... نتم الصلاة ثاكلة بمثكولين .


تنزوي أجسادنا متكورة في تأملاتها ، تعود بنا الصور إلى أعزتنا في عيد بدوننا ، أيعيشون الفرحة بعيداً عن أحضاننا ؟ ... أتنفرج شفاههم بالعيد أم يخنقهم البكاء ويحبسون الدموع كما نحن محبوسين .... من يلبس أبنائنا الجديد من لثياب ويطبع على خدودهم قبل الحنان ، أيلبسون الجديد ونحن غائبون ... غائبون في المجهول ... أتراهم يعيشون شعورنا الآن ؟ أفهل سهدت عيونهم بإنتظار اليوم أم راحوا يذكرون أعيادهم المنصرمة؟ .


نعم قسوة سجاننا حالت بيننا وبين فلات أكبادنا ... وزرعت في أعيادهم ألما... صغار أجهضوا عيدهم ، واختطفوا السعادة منا ومنهم ..... اليوم من يقبل رؤس أمهاتنا ؟ ... ومن ينتزع الشيب من رؤسهن لفراقنا .... عيد بأية حال عدت ياعيد... كما يقول المتنبي ... تسح العيون فياضة على عيد غدرت به القيود .... البقية تأتي

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع