شارك هذا الموضوع

تأمـلات في القضيـة الحسينيـة

وقفـة تأمــل:
عندما نحاول أن نقف متأملين في القضية الحسينية بعيداً عن أجواء الحزن والنّواح والصُراخ.. التي تحوّلت إلى تقاليد متنوعة الأشكال، مختلفة الأبعاد في سلبياتها وإيجابياتها؛ فإن علينا، بداية، أن نحدد صورة الحسين(ع) في وعينا الإسلامي. هل هو رجل العنف الرافض لمنطق الحوار الهادىء والرصين، وبالتالي لا يجد وسيلة للتفاهم إلا لغة القوة والسيف حول القضايا التي تفرض نفسها على الواقع الإسلامي، ويختلف المسلمون حولها؟ أو أن الحسين(ع) يملك صورة غير هذه الصورة؟


قد يتبادر إلى الأذهان أن الحسين(ع) رجل لا يقبل بالحلول الوسط، ولا يرضى بأي حوار يُراد منه حل المشكلة؛ ولكننا نعلم أن الحسين(ع) إمام الإسلام، يرتكز في كل أقواله وأفعاله وتقريراته على مبادىء وقيم وأحكام وتشريعات الإسلام الحنيف. ونعرف، أيضاً، من خلال القرآن الكريم، ومن خلال سيرة النبي محمد(ص)، أن الحوار سُنّة قرآنية ـ نبوية في التصدي لنقاط الخلاف، ومواطن الاشتباك والتحدي، فنحن عندما نتابع سيرة النبي(ص)، لا سيما في صلح الحديبية وفي غيرها، فإننا نرى النبي(ص) يدخل في مفاوضات مع قريش المشركة، في الوقت الذي كان كثير من المسلمين لا يرتاحون إلى ذلك. ولكن النبي(ص) كان ينظر إلى الأفق الأبعد، ويعتبر أن الأهداف الاستراتيجية لا تعني أن ترتبط بمضمونها بشكل مباشر، ولكن لا بد لك من أن تقطع عدة مراحل للوصول إليها، من دون أن تواجه المشاكل الصعبة التي قد تسقطها في الطريق، فلا تستطيع بلوغها.


عندما نريد أن نفهم الإمام الحسين(ع) جيداً، فإن علينا أن لا نفهمه في كربلاء فحسب، بل علينا أن نفهمه في الكوفة عندما كان مع أخيه الإمام الحسن(ع).


كان الإمام الحسن(ع) هو إمام الحسين(ع) الذي كان في عصره، والإمام الحسين(ع) كان عليه أن يطيعه. وكان الإمام الحسن يرى في الحسين(ع) الأخ المنفتح على الإسلام كله الذي عليه أن يستشيره، وكانا يتكاملان في مواجهة المشكلة، حرباً عندما شنّ الإمام الحسن(ع) الحرب، وسلماً عندما اختار الإمام الحسن(ع) السلم بفعل الظروف الموضوعية الصعبة التي أحاطت بالواقع الإسلامي.


الأسلوب الحسيني والحسني واحد:
ولذلك فإن من الخطأ الحديث عن أسلوب حسني وأسلوب حسيني. لأن الحسن(ع) كان الإنسان المحارب العنيف، ولكنه واجه الظروف التي لم تجعل امتداد الحرب واقعياً من خلال مصلحة الإسلام العليا في ذلك، كما كان المسالم عندما رأى مصلحة الإسلام تقتضي ذلك.


وهكذا كان الإمامان الحسن والحسين(ع) شريكين في السلم والحرب معاً. وقد تعلّما من أبيهما أمير المؤمنين(ع) الكثير من الأمور في الفترة التي كانت بين وفاة رسول الله(ص) وبين خلافته، فحين كان يسالم ويسلِّم، بالرغم من كل الصعوبات التي كانت تفرضها عليه مسالمته وتسليمه، كان يقول: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة"، وكان يقول وهو يشير إلى دوره في النصح والمشورة والمساعدة للخلفاء الذين تقدموه: "فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدّين وتنهنه".


كان علي(ع) الإنسان الذي يتحرك في السلم والحرب من موقع حاجة الإسلام إلى نوعية حركته، لا من خلال مزاج عسكري يفرض عليه أن يهاجم. كان علي(ع) أكثر الناس هدوءاً في إحساسه وهو يدخل الحرب، كما قد يكون أكثر الناس ثورة وهو يمارس السلم.


وهكذا، كانت مسألة الإمام الحسين(ع)، كمسألة أخيه، تنطلق من خلال عنوان واحد. ما مصلحة الإسلام في هذا، وما مصلحته في ذاك؟


أما السلم في حياة الإمامين الحسين والحسن(ع)، وأما الحرب والعنف في حياة الإمام الحسين(ع)، فالمرحلة هي التي تحدد ذلك. كانت المرحلة والتحديات وطبيعة الحصار الذي فُرض على الإمام الحسين(ع)، ولم يُفرض مثله على الإمام الحسن(ع)، هي التي حدّدت وجعلت أسلوب العنف يتحرك باعتباره الوحيد. ليست المسألة رفضاً للخيارات التي تنسجم مع مصلحة الإسلام، وإنما ركزت المسألة بين هذا الخيار وذاك، فكان الخيار الكربلائي هو الخيار الوحيد.


عندما نقرأ سيرة الحسين(ع) في انطلاقته، فإننا نجد أن العنوان الذي كان يحكم مسيرته هو عنوان الإصلاح في أمة جده؛ الإصلاح الفكري في مواجهة الانحراف الفكري، والإصلاح السياسي في مواجهة الانحراف السياسي، والإصلاح الاجتماعي في مواجهة الانحراف الاجتماعي.. وهذا ما لخّصه في كلمتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللتين تمتدان إلى كل معروف أو منكر في خط الإسلام.


واقعيـة الحركـة:
وكانت واقعية حركته تنطلق من أن هناك قوماً بايعوه عبر سفيره مسلم بن عقيل. وكانت المسألة هي أن هناك وضعاً في الواقع الإسلامي في المنطقة الحجازية يأخذ شكل ثورة جنينية، عبّرت عن نفسها في واقعة الحرة بعد ذلك، وفي المنطقة العراقية من خلال هذا الضجيج السياسي الرافض الذي كان يتمثل في أكثر من موقع ولا سيما في الكوفة.


كانت واقعية حركته تنطلق من أن الحجة قد قامت عليه. لأنهم كتبوا إليه: "فقد اخضرّ الجَنَاة وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة"، ولم يستطع أن يرفض، لأن صاحب الرسالة لا يملك حق الرفض عندما تقوم عليه الحجة، ولو في الشكل، في مرحلة من المراحل، بحيث تكون الوقائع المحيطة بالتحرك تمثل مسألة واقعية في الوصول إلى الهدف. وهكذا رأينا أن الحسين(ع) سار في اتجاه أن هناك مواجهة، وأن هناك وسائل واقعية للمواجهة. حتى إذا عرف خذلان الناس في الكوفة، وعرف أن المسألة قد اختلفت عما بدأت به، كان لا يزال يعيش هاجس المطالبة للناس الذين كتبوا إليه ليقيم عليهم الحجة. ولذلك رأيناه عندما التقى بالحر بن يزيد الرياحي في الطريق، أخرج إليه الكتب، وبيّن له سبب قدومه، فقال: "قدمت لأن كتبكم جاءت إليّ". ولم يكن الحر، وربما لم يكن الناس الذين معه ممن أرسلوا إليه هذه الرسائل، ولذلك لم يتحمل مسؤولية ذلك.


ونحن نلاحظ أن كلاً من الإمام الحسين(ع) والحرّ في تلك الفترة لم يكونا يفضّلان الدخول في المعركة، ولذلك انتهى الأمر إلى تسوية عرضها الحر، وذلك بأن يسلك الإمام الحسين(ع) طريقاً لا يرجعه إلى المدينة ولا يدخله الكوفة؛ مما يوحي بأن الحر كان لا يريد أن يدخل الإمام الحسين(ع) الكوفة، كي لا يضعه في يد ابن زياد، وأن الحسين(ع) كان يحاول أن يرجع إلى المدينة من أجل أن يبدأ تحركاً في اتجاه جديد أو في أسلوب جديد. لذلك كانت التسوية المطروحة أن ينطلق في طريق لا يرجعه إلى المدينة ولا يدخله الكوفة، وهكذا وصل الإمام الحسين(ع) إلى كربلاء.


وعندما ندرس السيرة الحسينية كما رواها رواة كربلاء، فإننا نجد أن هناك عدة أحاديث كانت تدور بين الإمام الحسين(ع) وبين ابن سعد حول تسوية الأمور بالطريقة التي لا توصل المسألة إلى الحرب، ولا تفرض على الإمام الحسين(ع) أن يبتعد عن خطه أو أن يخضع للحكم الأموي. ولذلك يذكر بعض المؤرخين أن من بين طروحات الإمام الحسين(ع) أن يضع يده في يد يزيد، ولكن مؤرخاً آخر يرفض هذه المقولة، فيقول لقد تابعت المسيرة كلها ولم يحدث أن عرض الحسين(ع) مثل ذلك. ربما كان الطرح أن يلتقي به، وليست هناك وثيقة أساسية في هذا الموضوع؛ ولكن ابن زياد تدخّل في المسألة، فأرسل إلى الإمام الحسين(ع) ـ كما حدّث ابن سعد ـ الحر بن يزيد الذي طرح عليه فكرة أن يكون هناك حلّ سلمي ـ كما نقول في هذه الأيام ـ فقال له: إن أميرك لا يقبل إلا بأن ينـزل الحسين(ع) على حكمه وحكم يزيد بن معاوية. والحسين(ع) يرفض ذلك لأنه يرفض الذل، وكان الإمام الحسين(ع) يعمل بكل مواعظه وحواراته، على اجتذاب هذا الجيش، حتى أن الشمر بن ذي الجوشن عندما دعا العباس وإخوته، باعتبار أن هناك خؤولة بينه وبينهم من خلال أمهم، وامتنع العباس وإخوته من الاستجابة لشمر على أساس أنه فاسق لا يريدون أن يكلموه.. قال لهم الحسين(ع): "كلّموه فإنه بعض أخوالكم وانظروا ماذا يريد". إننا نستطيع أن نعرف من كل ذلك أن الحسين(ع) كان بمختلف الأساليب يطرح مسألة حل المشكلة بالطريقة التي لا توصل إلى حرب، لأن الحرب لن تكون متكافئة، ولكنه عندما فرضت عليه المسألة في حجم الخضوع لحكم ابن زياد ويزيد، عند ذلك أصبحت القضية تمس الاستراتيجية ـ كما نقول ـ وتمس القضايا الأساسية، وتُحوّل المسألة إلى أن يكون الإمام الحسين(ع) مجرد شخص يبحث عن نجاته. والحسين(ع) عندما كان يعرض الحلول أو الحوار، كان يبحث عن نجاة الرسالة وعن بدائل لتحرك جديد يمكن أن ينطلق فيه من اليمن إذا ذهب إلى اليمن، أو إلى المدينة من جديد إذا رجع إلى المدينة وما إلى ذلك، وانتهى الحوار هنا.


لذلك، نلاحظ أن الموقف الحسيني كان الموقف الرافض للحالة الجديدة التي أريد لها أن تفرض عليه، لذلك نلاحظ أن الكلمات التي صدرت من الإمام الحسين(ع): "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد"، كانت رفضاً للطرح الذي فرض عليه، والذي سوف يؤدي إلى سقوط الرسالة تحت تأثير الاعتراف بحكم يزيد وبحكم ابن زياد. والاعتراف بذلك يعني الاعتراف بشرعية ما يفرضه عليه الحر على كل الخط الذي يمثله. من هنا، رأى أن الحوار انتهى إلى طريق مسدود وإلى غير نتيجة. لأنّه في كل مسألة تفاوضية يمكن أن يبقى التفاوض مستمراً، ما دام لا يمس القضايا الأساسية التي يُراد لها أن تسقط في نهاية المطاف؛ وعند ذلك لا معنى للحوار.


فالحوار والجدال هما في الإسلام وسيلتان للوصول إلى الحق وإلى النتائج الإيجابية الكبرى، وليسا مجرد حالتين تنطلقان من مأزق يريد الإنسان أن يخرج منه، ولكنهما يمثلان أسلوباً إسلامياً في الأخذ بالرفق ما دام الرفق يمكن أن يؤدي إلى نتيجة، حتى إذا لم يؤد الرفق إلى نتيجة عند ذلك يأتي العنف. وهذا ما نقرؤه في ما حدثنا الله عن الواقع الذي يقتتل فيه المؤمنون {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9]، عندما لا يكون هناك حل بالرفق، فالعنف هو الذي لا بد أن ينطلق ليحل المشكلة وليؤكد الخط. وعلى هذا الأساس نفهم أيضاً "ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وجدود طهرت من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".


ومن خلال ذلك، نفهم الإيحاء الذي نستطيع أن نعيشه في المسألة الحسينية، وهو أننا عندما نواجه القضايا الصعبة والشائكة في المجتمع الإسلامي من أجل القضايا الكبرى، فعلينا أن نفسح المجال في البداية للوصول إلى نتائج إيجابية ما أمكننا ذلك، من خلال الوسائل الموجودة بين أيدينا. حتى إذا أريد لنا أن نرضخ لوضع يلغي الخط كله أو يُسقِط العزة كلها، عند ذلك يُغلق باب الحوار لينفتح باب العنف، أو باب الجهاد، أو باب القوة وما إلى ذلك من كلمات تترادف أو تتنوع في خصائصها.


وهذا التحليل الذي نطرحه، هو الذي يجعلنا نصل إلى الفكرة الواحدة في كل سيرة الأئمة(ع)؛ وإن كثيراً من الناس يتساءلون: لماذا انطلق الإمام علي(ع) ليسالم في مسألة الإمامة، والحق له في فترة معينة؟ ولماذا يحارب في فترة أخرى؟ لماذا بدأ الإمام الحسن(ع) الحرب ثم وافق على السلم؟ لماذا انطلق الإمام الحسين(ع) مع الإمام الحسن(ع) في حركة السلم، واختار في نهاية المطاف الحرب؟ لماذا لم يحارب الأئمة من أهل البيت(ع)؟.. هل أن الأئمة لا يوافقون الإمام الحسين(ع) في حركته أو أن المسألة التي تحكم الخط كله هي، ما هي مصلحة الإسلام وما هي طبيعة المراحل في تأكيد الأسلوب، وما هي النتائج السلبية أو الإيجابية هنا وهناك؟


الحركة الحسينية لم تكن انتحاريـة:
ومن هنا، فإننا لا نعتبر أن حركة الإمام الحسين(ع) تمثل حركة انتحارية، كما يحاول بعض الناس السذج أن يصوروها؛ بل كانت حركة منطلقة من خطة تتمحور حول مسألة المحافظة على عنفوان الرسالة، وعلى عزة الرساليين، وعلى سلامة الخط.. وعلى رفض إعطاء شرعية الحكم الظالم، عندما يريد أن يفرض نفسه كمصدر للحكم، بحيث يأخذ شرعية الحكم من الرساليين عندما يحكمهم. هذا هو المحور الذي تدور حوله ثورة الإمام الحسين(ع).


ولذلك، فإن علينا عندما نريد أن ننفتح في كل مسيرتنا الإسلامية على المسألة الحسينية، أن ننطلق من خلال هذه الخطوط التي ترتكز على خط فاصل بين الظروف التي تفرض فيها مصلحة الإسلام العليا الأسلوب السلمي، وبين الظروف التي تفرض فيها أسلوب العنف، فالعنف الإسلامي لا ينطلق إلا من خلال مصلحة الإسلام؛ فإذا كان العنف ضد المصلحة، فإن الذين يعنفون يخونون الإسلام.


وهكذا، فإن الرفق ينطلق من مصلحة الإسلام في المرحلة التي تفرض الظروف فيها ذلك. فالذين يختارون الرفق في موقع العنف، أو الذين يختارون العنف في موقع الرفق؛ لا يختارون مصلحة الإسلام في ذلك. ولذلك فالإسلام الثوري ليس مزاجاً أو حالة نفسية، ولكنها خطة مدروسة من خلال كل العناصر المتناثرة في الواقع على مستوى الحاضر والمستقبل، والتي تنتج لنا الرفق هنا والعنف هناك.


الثوريـة والشهـادة:
ومثل هذا الفهم للمسألة لا ينفي الإيحاءات المباركة الثورية المنفتحة على الشهادة من حسابات القضية. لأن النتيجة لا تختلف في هذا المجال، باعتبار أن النهاية التي أوصلت الأمور إلى الطريق المسدود، جعلت المصلحة الإسلامية في أن ينطلق الحسين(ع) وأصحابه، ليجسّدوا الإسلام في جهاده في عنفوانه وليؤكدوا الثبات على العهد.


وهذا ما كان الإمام الحسين(ع) يتمثل فيه بالآية المباركة، عندما يطلب منه كل شخص من أصحابه أو أهل بيته البراز للحرب: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً} [الأحزاب:23]. وهذا ما يجب أن نواجهه في كل حالة لا نجد فيها مجالاً إلا للمواجهة، باعتبار أن أي حل آخر في مصلحة الإسلام لا يكون له واقعية. هذا ما ينبغي لنا أن نتحرك فيه في خط الجهاد الإسلامي، الذي لن يكون جهاداً حسينياً بالمعنى الذاتي للإمام الحسين(ع) ولكنه جهاد محمدي ـ علوي ـ حسني ـ حسيني حتى ينفتح على كل حركة الإمامة في الأئمة من أهل البيت(ع)، باعتبار أن الجهاد عنوان ينطلق من أحكام إسلامية تقول للإنسان: قف هنا، وتقول له في مواقع أخرى: تحرك هنا.


بين واقع الحسين(ع).. وواقعنا:
وهناك نقطة لا بدّ أن نرصدها في كل واقع المسألة الحسينية، وهي تتمحور حول الواقع الإسلامي. لأن لواقع المسلمين مع الكافرين أحكاماً أخرى قد تختلف مع هذه الأحكام، ولأن طبيعة القضايا المطروحة تختلف عن طبيعة القضايا التي تطرح هنا؛ فنحن عندما نواجه "إسرائيل"، في محاولتها للحصول على الشرعية في وجودها القانوني في فلسطين، فإننا لا نعتبر المسألة مسألة حلول سلمية، لا بد أن نأخذ بها قبل أن ندخل في الحرب معها. لأن المسألة هنا هي مسألة كافر ظالم مستكبر أخذ الأرض، ويقول لنا: تعالوا فاوضوني على الطريقة التي أتملك بها هذه الأرض منكم، على شرط أن تأخذوا بعض الأرض الأخرى.. وهذا منطق ليس فيه شرعية ولو بنسبة واحد بالمئة. ولذا فالقضية ليست مطروحة على مستوى المفاوضات مع "إسرائيل"، وفق طريقة المفاوضات التي كان النبي(ص) يقوم بها مع المشركين، حين كان يعمل على تجميد الحرب بينه وبين المشركين ريثما يكمل استعداداته لفتح مكة، أو عندما يُراد التفاوض مع المسلمين الآخرين على طريقة مفاوضات الإمام علي(ع) مع معاوية بسبب الظروف الصعبة التي أحاطت به، أو مفاوضات الإمام الحسن(ع) مع معاوية أيضاً. نعم قد تفرض علينا مواقف مماثلة، لكنها لا تنطلق من إعطاء شرعية لمن لا شرعية له، ولا تنطلق من الخضوع لموقف لا يتناسب مع العزة والكرامة للإسلام والمسلمين.


لذلك، فالمسألة الإسرائيلية ـ من خلال الحكم الشرعي ـ نتعاطى معها على في نقطتين فقهيتين؛ النقطة الفقهية الأولى، هي أن الغصْب حرام حتى غصب المسلم للمسلم، ولذلك فلا يمكن أن يكون الغصب شرعياً في أية حالة من الحالات. والنقطة الثانية التي تتصل بالمسألة السياسية {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141]. وفي هذه المسألة لو تنازل الفلسطينيون ـ أصحاب الأرض والذين يملكون هذا البيت وذاك ـ لو تنازلوا لليهود عن أرضهم، فنقول لا شرعية لهذا التنازل، لأن المسلم لا يملك أن يتنازل للكافر عن أرض بالطريقة التي تجعل السيطرة للكافر على أرض المسلمين وعلى واقعهم. إن المسألة تعيش في هذا الاتجاه، ولذلك كنا نقول دائماً: حتى لو أن الفلسطينيين وافقوا على الصلح مع "إسرائيل"، على أساس التنازل عن أكثر أرض فلسطين ليأخذوا بعضاً من الضفة الغربية أو يأخذوا غزة، إننا نقول: لا شرعية لذلك، حتى لو أخذوا توقيعاً من كل فلسطيني على التنازل عن بيته وأرضه وأملاكه، لأن أحداً لا يملك ذلك في المسألة السياسية، وإذا كانت المسألة القانونية في الفقه الإسلامي لا تمنع مسلماً أن يبيع بيته أو أرضه لكافر، فإن شرعية المسألة القانونية تبقى مرهونة بعدم ضغطها على المسألة السياسية. لأن المسألة السياسية تفرض نفسها على المسلمين، فتمنعهم من بيع بيوتهم لكل من يفرض سلطته على الواقع الإسلامي من خلال هذا؛ ولذلك حرّمنا بيع الأراضي، وحرّم علماؤنا السابقون على كثير من العامليين اللبنانيين أن يبيعوا الأرض التي كانوا يملكونها في "هونين" و"قدس" و"المالكية"، عندما طُرحت عليهم مسألة أن يبيعوا هذه الأراضي لليهود قبل احتلال فلسطين. انطلاقاً من هذه المسألة، لا يجوز تسليط اليهود على بلاد المسلمين بطرق قانونية. لأن المسألة لن تكون مجرد عملية بيع وشراء خاصة يمكن أن تجري بالشكل القانوني العادي.


ولهذا حرّمنا في بعض الأوضاع، التي كانت تعيش في الساحة اللبنانية، على كثير من المسلمين الذين يعيشون في مناطق خاصة، حرمنا عليهم أن يبيعوا أرضهم حتى لو كانوا في أشد حالات الفقر؛ باعتبار أن المسألة تتخذ بعداً سياسياً يغير من واقع المسلمين في لبنان، ويجعلهم في موقع الضعف بدلاً من أن يكونوا في موقع القوة؛ ولم نحرّم على مسلم أن يبيع مسيحياً في الحالات العادية أرضاً أو عقاراً أو ما إلى ذلك، عندما لا تتصل المسألة القانونية بالمسألة السياسية.


بين مفاوضات.. ومفاوضات:
لذلك لا بدّ أن تُفهم هذه المسائل بظروفها الحقيقية الواقعية، فلا يقولنّ أحد، يريد تبرير صلحه مع إسرائيل، لقد صالح الإمام الحسن(ع) معاوية وهو لا يعترف بشرعيته في الخلافة، أو فاوض الإمام علي(ع) معاوية في الوقت الذي لا يعترف بشرعيته، وفاوض رسول الله(ص) وصالح المشركين في الوقت الذي كانوا في حركة الشرك ومواجهة الإسلام. فلهذه العناوين ظروفها وآفاقها التي لا تصل بها إلى الخطوط الحمراء الإسلامية. أما إذا وصلت إلى الخطوط الحمراء الإسلامية فلا مجال لذلك. الصلح في داخل البلاد الإسلامية بين مسلمين لا يملكون شرعية وبين مسلمين يملكون الشرعية لمصلحة القضايا الإسلامية الكبرى ولمواجهة الأخطار الإسلامية الكبرى؛ هذا أمر مشروع عندما تكون المصلحة الإسلامية الأهم في دائرته، أما في الحالات الأخرى، فإنه لا يكون مشروعاً عندما يُراد إسقاط القضايا الكبرى.


إذاً على هذا الأساس، القضية الحسينية هي قضية انطلقت في الخط الإسلامي الذي يؤكد أنه إذا كان هناك مجال للرفق في مراعاة المصلحة الإسلامية العليا، في ما هي القضية الأهم في هذا الظرف أو ذاك، ومع عدم إسقاط الاستراتيجية الإسلامية؛ فإن الرفق يكون هو الأفضل. أما إذا انطلقت القضية إلى ما عبّر عنه الحسين(ع) ووقفنا "بين السلّة والذلة"، فإن علينا أن نقول: "هيهات منا الذلة"، وعلينا أن نتقدم لنواجه القضايا حتى لو كانت هناك تضحيات، فندرس مسألة التضحية في حجم دلالاتها ، وفي حجم تأثيراتها على الواقع الإسلامي من جهة، وعلى مستقبله من جهة أخرى.


هذه نقطة لا بد لنا أن نثير التفكير حولها، لأن الكثير مما نستهلكه خطابياً وحماسياً في المسألة الحسينية قد يطرح علينا مفاهيم معيّنة، ليست هي المفاهيم الدقيقة في حركية الإنسان المسلم؛ وعلينا أن نعرف جيداً حقيقة مهمة وهي أن الثورية لا تعني العنف دائماً، فقد يكون إنسان ثورياً بأعلى درجة الثورية ولكنه هادىء بأعمق حالات الهدوء، باعتبار أنه يخطط للثورة بالطريقة التي توصل الحركة إلى أهدافها. وقد يكون هناك إنسان صاخب عنيف يتحدث بانفعال وبحماس دون أن تكون له علاقة بالثورة. لأنه قد يسقط الثورة في استراتيجيّتها بحماسه دون أن يقدم إليها شيئاً. لسنا ضد الانفعال والحماس، ولكننا نقول: هناك حماس تختاره لأن الخطة تفرضه. وهناك حماس يفرض نفسه من موقع الانفعال. إننا ضد الحماس المزاجي الذي يمنع العقل من أن يحدد له مساره، وضد الانفعالات الطارئة التي تمنع الخطة من أن تحدد له موقعه. إننا ندعو إلى الغضب العقلاني الذي يخطط فيجعل لنفسه موقعاً في هذه المرحلة أو تلك. ليست المسألة أن يكون هناك هدوء دائم أو انفعال دائم، إن المسألة هي أن يكون هناك حساب دائم، حساب الرسالة، وحساب المستقبل. عندما نكون الأمة التي تحسب حسابات الحاضر والمستقبل، وتعرف كيف تؤكد الخطة بشكل يمكن أن يجعل لكل مرحلة دورها ووظيفتها، عند ذلك سنكون الثوريين الذين يعرفون موقع خطواتهم، لأنهم يعرفون موقع أهدافهم.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع