شارك هذا الموضوع

كان في السجن ياماكان (6) - رمضان المعتقل

تغرب الشمس مودعة نهاراً مضى على محجوبين بين أربعة جدران خرسانية خرساء جدران قدت من قلوب بنائيها ... تغرب الشمس غير مرئية ، تغرب لتحيل الأفق بشفق أحمر دام لقلوب هؤلاء المحرومين من أريج الحرية الفواح ... تغرب منحية النهار في زاوية الغيب جالبة خلفها ليلاً بشدة اسوداده يلفع شكوى الموقوفين خلف الأبواب الحديدية يلوكون الحرمان .


في الليل تتمدد الساعات بأبعد من مسافاتها .... تصبح الساعة عمراً بأكمله على شعب يبحث عن كرامة ينصبها تاجاً على هامته ، فلا يجد سوى قيداً يسخر من مطالبه ... وفي أطراف الليل الأخيرة تبوح الأفئدة بمخزون ذاكرتها لرفقاء ليلها .


أيام الإعتقال الأولى كانت قاب قوسين أو أدنى من شهر رمضان الكريم ... أقبل الشهر الفضيل علينا في سفر مكروه .... شهر رمضان بعيداً عن هنا كنا نعيشه جميلاً ممتعاً بالعبادة والطاعة ... وبالتزاور وقراءة القرآن ليلاً في بيوت القرية داخلين في بيت خارجين من آخر ... تعمر المآتم بالوجوه المستبشرة بليالي البركات .


كذا كنا نقضيه هناك ... أما ونحن هنا فالحناجر إن رتلت من وحي ذاكرتها فإنما ترتل مايشجي الخاطر ويؤرق الفؤاد .... الأيام الأولى ماكان للمصحف في زنازيننا أثراً .


النزلاء السابقون في زنزانتنا كان لهم فضل علينا كبير . فتشنا ماقد نعتبره مخبئاً في الزنزانة لم نجد مايروي غلتنا ويشفي صدورنا ... السابقون صنعوا من الجدار قرطاساً يدونون فيه مايحتاجون إليه ... وأي شئ يحتاج السجين ؟! في محنة كتلك لاتتعلق المشاعر بسوى الله ومناجاته .


في كل جانب أودعوا لنا دعاء يأنس وحشتنا أو ذكراً يفرج عن هم يحيق بنا ... الجدران مزينة بكم وافر من الأدعية المأثورة ... مزينة بحق .. وأي زينة أجمل من ذكر يضفي بلسماً على الروح ويسمو بها في أعلى عليين .


اللهم إني افتح الثناء بحمدك وأنت مسدد للصواب بمنك وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة ...مع الإنتهاء من العشاء كل ليلة استقبل الحائط جهة القبلة .... أحد رفاقنا الذين سبقوا أسدى لنا جميلا حسنا .... لوحة رائعة أبدعتها يده المثابرة على لذة المناجاة ... بخط جميل مهذب رسم دعاء الإفتتاح كاملاً ... بقلم رصاص ناعم جداً ...استقبل الحائط لأتنعم في بساتين دعاء الإفتتاح ... اللهم اني افتح الثناء بحمدك .


تسترسل مشاعري في تلاوة فقرات الدعاء ... مقاطع الدعاء تمازج شغاف القلب برقتها وتنقلك إلى فضاء ملائكي ينسيك السجن ومرارته ... القراءة بلحن هادئ حزين ... هادئ كي لايتطرق الصوت لأسماع الشرطة المملوئين تحاملاً على عقائدنا ... وكي لايداهموننا نقارف القراءة من صفحة الجدار ..


أخيراً وبعد عدة أيام جاءتنا نسخة من القرآن الكريم بصحبة ملابس أرسلت للأستاذ عـ.. كانت فرحتي بوجود القرآن معنا ... فرحة لاتعادلها إلا فرحة الظهور من المعتقل ... بلى كان الشوق للقرآن شوقاً غامراً ... القرآن ذلك الفيض الإلهي ... مهما باشرنا في مقاربة آياته نبقى فقراء لرشحات عطائه ... لذا كان الإمام السجاد (ع) يقول : لومات من بين المشرق والمغرب وكان معي القرآن لما استوحشت .


بعد التزود من نمير الدعاء الصافي نقرأ القرآن منشدين لآياته الساحرة بجمال تركيبها ... الوقت كريم معنا يتيح لنا فرصة التأمل والوقوف لمرات ... نعمة لو أدرك مختطفونا مدى ابتهاجنا بها لما توانوا في حرماننا منها ... فكل مايبعث السرور في القلب ممنوع وكل ماكان مباحاً في أيامنا الخوالي بات محجوباً عنا .


الشتاء جاد في أحكام صقيعه على الأجواء ... اشتدت البرودة في زنزانتنا ... الجدران كصقيع ثلاجة نتجنب الإستناد عليها ... وفي الأعلى فتحة تبعث لنا من البحر أول لافح من الشتاء مع تبكير كل صبح جديد ... شتاء لاتشابهه إلا برودة المشاعر في جلادينا .


في أحشاء الليل البهيم تنطلق صيحات تنادي الشرطي من أسفل بوابة الزنزانة .... بعد اللتيا واللتيات يستيقظ أحدهم .... ينفتل متململاً حتى يصل إلى مصدر النداء .... يقف قبالة البوابة متسائلاَ :شنو في ؟ ينبعث الجواب من أسفل البوابة في خجل ملتهب : أنا أريد الإغتسال قبل أذان الفجر، يسخر الشرطي من الطلب قائلاً : شنو هذا مافي ( فندك) .


يسخر من رزية يعانيها مسلوب المشيئة في قبضته .... ساعة عن الفجر أول أقل ، عليه الإغتسال قبل حلول وقت الإمساك ليدرك الصيام ، إنصرف الشرطي غير عابئ بحجم المعاناة ... اضطر صاحبنا أن يسلك أقصر الحلول ... كان يريد الشرطي ليفك ( الهفكري ) ليتمكن من نزع فانيلته .... لايستطيع خلعها والكفين مقيدين . اضطر أخيرا للدخول إلى الحمام ... خلع الفانيلة من رأسه ... وضعها مجموعة في كفيه الأسيرين ... أمسك الأنبوب والماء يتدفق من فوهته كالبركان .... لو كان الماء مستخرجا من ثلاجة ثلجته بأقصى درجة برودة ماكان إلا ذلك .... الماء ينحدر فوق رأسه صقيعاً جلمدا .


النافذة مباحة للهواء يرتادها أنى شاء ، ماهي إلا قضبان عمودية لصيقة ببعضها البعض .... هذه النافذة تبيح الزنزانة لجليد الشتاء ..... كل هذا وصاحبنا يغسل رأسه والماء ينزلق ببطء فوق رقبته فيطبع فيها وشماً أخضراً من أثر الإرتعاش الرهيب . أحال الأنبوب للجانب الأيمن صاكاً على أضراسه ... قاسراً أعصابه على تحمل مالا طاقة لأعضائه عليها ، بات عود جسده ينتفض انتفاض المصروعين من البرد .... غالب ضعفه واستمر منصرفاً للجانب الأيسر يكلله بلسعات أضفت خدراً على بشرته ، الكف لايتمكن من إيصال الماء دون إعطاء الفانيلة نصيبها من الماء ... الفانيلة مكورة في كفيه غير منزوعة منهما .... أنهى وظيفته الصعبة وأطرافه كالسعفة في الرياح العاتية ، ترتعش أطرافه مصروعة على أعتاب الإمتهان ، قطرات بقت على جسده تكمل مهمة الإعتداء ، نشف القطرات الباقية بباقي ملابسه فلاسواها يزيل صقيع الماء وإلا بقت أطرافه لايجففها إلا النهار .


الليالي والأيام تعبر متشابهة في التفاصيل .... قبل الصباح بعد تقديم وجبة السحور يغلقون باب المعتقل ويحكمون القفل الثقيل فيه .... ثم يعود أحدهم يجرد العدد ، أحدهم كان أسمر البشرة شديدها ، أيام متتالية يأتي لإحصائنا ... يدخل يتوسط الزنزانة ... يبدأ في العد وبعد ذاك وذياك يتراجع مقفلاً الباب وما يفتأ يعود بعد لحظات ليعدنا من جديد .... كلما أطل علينا بتقاسيم وجهه قال الأستاذ عـ... : ( جاكم لبلاكي ) أحسب المدارس في بلده الأم لاتعتبر الرياضيات من ضمن مناهجها .... بنائاً عليه يكون خريجوها يحفظون الأعداد بالصفات لا بالتسلسل ومن تردت به المعيشة في موطنه كانت أرضنا أماً تحتضنه وترضعه بنفطها ، وتضع في راحة يده عصاً يروض بها الجياع التائقين إلى عيش الكرامة ....... البقية تأتي

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع