شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ماكان (5)

استفاقت أعيننا من أسرها تتصفح المكان والصور .... أربعة نحن في الأسر ... زنزانة جدرانها الأربعة من الخرسانة الصلبة إضافة إلى السقف ... إرتفاع المكان لا يتعدى إثنا عشر قدما بالكثير ، العرض ثمانية أقدام تقريباً يتوسطها الباب ، وكذلك الطول في حدود أربعة عشر قدما .... في هذه المساحة المختزلة أربعة نحن يجب علينا أن نعيش ... نهضنا نباشر ترتيب مكان اقامتنا ... أسرة اسفنجية أشبه بالأثرية ، تكفي ضربة واحدة فوقها لتثير في وجهك عاصفة من الغبار الخانق ... الرائحة المنبعثة من الأسرة تأباها الموتى ، أجمل تقدير لحقيقة هذه الأسرة ، كما قال أحد رفقاء زنزانتنا ... إنها أسرة موتى وجدوها على البحر فجاءوا بها .


بقايا النزلاء السابقين باقية بصماتها على الأسرة ... أنواع متعددة من الشعر ملتصقة بالأسفنج ... أغطية اللحاف كذلك حالها يشبه حال الأسرة طبعا إن لم يكن أردى حالا ... الشعر العالق بها يكفي ليكون فروة رأس كاملة .... أختاروها لتكون باللون القهوائي الداكن ليحجب كل ما يتبقى عليها ، أظنها لم يلامسها ماء منذ وجودها أول مرة .


سرير على الجانب الأيمن ذو طابقين .... نحن أربعة ... يعني أن ينام أحدنا في القسم السفلي والثاني عليه الصعود للأعلى ، أما الإثنين الباقيين عليهما التسليم بالنوم على فراش ملقى على البلاط ، علينا جميعاً تقليص حركاتنا في مساحة يحسبها سجاننا فائضة الأطراف ولعله يعتبر أسرته وفرشه تفضل لا يسعنا شكره عليها بما أوتينا من ثناء .


وسائدنا نحيفة تحسب أهل الكهف تقلبوا عليها ذات اليمين وذات الشمال .. تحسب الرؤوس مافارقتها منذ ألقيت فوقها ، قطنها مشبع ريان بدموع التحسر لفراق الأحبة والأمهات ... قطنها تفوح منه رائحة العرق المجهد ... ولدماء الجراح نصيب في صفحة قطنها ، أغطية الوسائد بيضاء غادرها بياضها إلى غير رجعة فإستحالت رمادية تتفرق خرائط العرق على مساحتها .


لاتهجع العين على وسائد كتلك وكأن آلام من سبقوا تلح في الغليان في أي رأس تتوسدها ، لاتغفو العيون إلا من تعب وارهاق.


أمام البوابة في الطرف الأخير من الزنزانة حمام بمساحة القبر الذي نحفره لموتانا ... يحتوي على مرحاض ومغسلة صغيرة مثبتة في الزاوية ، الحمام معزول عن الزنزانة بجدار مكشوف . باب من الخشب الرخيص ينفتح وينغلق على الحمام ....الجانب السفلي منه أكلته الرطوبة والمياه .... الباب اذن ساتر لايستر .


الزنزانة تطل على سور المعتقل المحاذي للبحر ... من النافذة القابعة في أعلى الزنزانة المتاخمة للسقف نستنشق هواء الحرية الغالي ..... من هذه النافذة المربعة تتطلع أعيننا إلى ماتركناه وراء ظهورنا من جمال الحرية ونعيمها .


الجو بارد ولاذع يقتص الأجسام ... أفترشنا إحدى البطانيات فوق البلاط لتأدية الصلاة مغرباً وعشاء برفقة فرضين فاتا لم نصليهما ولكن صلت علينا سياط جلادينا . مرافق الأيدي مغلولة لبعضها البعض ... لايسعك تحريك اليمنى دون اليسرى , تشبهان في وضعهما وضع التوأمين المتولدين من بويضة واحدة .... لايكاد يصدر من الأول فعل إلا وكان الآخر قد أصدر الفعل ذاته في نفس الزمان .... كأنهما في مرآة .


في ذات الحمام الضيق شرعنا في اسباغ الوضوء ... تضع الماء في اليد اليمنى فترفعه بتأن ليصل إلى الوجه فيستوعبه ..... لاتصل قبضة الماء إلا ويكون نصفها قد تبدد من الجانبين لصعوبة رفع اليد ويد أخرى تشاغبها .


حتى محاكم التفتيش لم تحاصر الصلاة بهذه الصورة .... أعن الصلاة تغلل أكفنا ؟ أم عن تكبيرة الإحرام تقرن اليدين معاً ؟.... تكبيرة الإحرام بذلك القيد تأدى مودؤة مغتصبه .... هكذا بقينا ثمانية عشر يوماً رفقاء ( الهفكري ) أربعاً وعشرين ساعة ... نأكل .. ننام .. نصلي .. برفقة (الهفكري).


( الهفكري ) هذا رسولهم المزعج الملاحق لنا حتى في النوم .... بعد الأرق المضني تستسلم أجفاننا للسهاد ومايروعها إلا صقيع ( الهفكري ) إن تقلبنا على أحد جنبينا ... الوقت أخذ في شدة البرد ... ( الهفكري ) من الفولاذ القاسي ... لك أن تتصور برودته العاتية في أجسامنا .


نعم بات القيد الفولاذي توأماً لأيدينا كل تلك الفترة .... تنام عيوننا وأيدينا ملقاة فوق صدورنا وتنثني أطرافنا وأكفنا لاتنعم بالحرية حتى في المعتقل ... وللخيال أن يحلق في آفاق مرة مروعة عن الحالة القاسية لصاحب هذا القيد إن أراد الدخول إلى الحمام.


لاتطمئن نفس آسرنا ونحن في قبضته ... إنه يتفنن في بعث الإهانة للإنسانية ويتلذذ بإضفاء المرارة على ساعاتنا الطوال ... وكم كان الفرق كبيراً بينما عشناه من قيم وبين ما ذقناه من سجاننا ..... كنا نعيش وصايا أمير المؤمنين ( ع ) يوصي على أسيره قائلاً : أطعموه من طعامكم ، لم نكن نطمع في طعامهم .... كنا نتوق أن يدعونا لنبحث عن طعامنا وأنى لهم بالتشبه بعلي قدوة الكمال ... إن استطاعوا التشبه بأحد ما , فإنهم يتشبهون ويشبهون يزيد... إنه والدهم الروحي فكما صنع بالنساء والصغار صنعوا وكأنه دستورهم يقتدون بكل سلوكياته .


ولم يعلم سجاننا أنه مهما برعت قساوته في تعذيبنا فإن في ذاكرتنا تجارباً من أسلافنا ... إننا نحتفظ بكربلاء حية في أعيننا ونحتفظ بصور الأسرى مربقين من كربلاء إلى الشام ... تباكرنا السياط صبحاً وعشيه وفي أعيننا لقطات من سجون أئمتنا الطويلة ... نحن تلامذة هؤلاء ... وهم تلامذة معذبيهم ولنا لقاء معهم عند حكم عدل يوم الحساب ( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) .


صلينا صلاة المؤمن بقضاء الله وقدره .... وكانت تكبيرة الإحرام صادعة في وجوه المتجبرين ... الله أكبر من تمردهم على سننه ... وسلمت ألسنتنا من الصلاة على أنفاس كل مخلص لله ولدينه ورسالته ........ البقية تأتي .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع