شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ماكان (4) - ضيوف في الغربة

سارت بنا الركلات والرفسات وحزم الشتائم حتى أدخلتنا في ممر أضيق من ذاك ، سقطت قطعة القماش ( العصابة ) عن عيني ... صارت عيوني تلتقط صور العذاب المر . الشرطة في كل الصفوف لاوقت لأيديهم لتعيد العصابة عن عيني ... مشغولون بتوضيب أجسامنا بوجبة الإستقبال .


ممر طويل طويل ...تتصدر على جانبيه زنازين تواجه بعضها بعضا ... أبواب حديدية زادها اللون الرصاصي كآبة على كآبة المكان ، الأبواب تتربع على صفحتها أرقام عربية باللون الأسود ... نعم هذا هو ( العنبر 2 ) في سجن جو .... الزخم المتدفق من الأسرى يقاد إلى الزنازين مع تحايا الإستقبال القهري.


زج بي الشرطي في الزنزانة 47 مصحوباً بحصيلة وافرة من الأوجاع في أنحاء جسدي ... وجدت نفسي ملقى على مجموعة أسرة وفرش إسفنجية على غير نظام ، بجانبي ثلاثة رفاق معصبي العيون ... زفير وشهيق متعب ينفرج من أنفاسهم ، آثار التعب والإجهاد بادٍ على سحنة وجوههم ...وحالهم كحالي .


رخيص أصبح الإنسان في زمن الفضاء ... رخيص لا يأبه لمشاعره ولا يحسب لنفسه أي حساب وحقوقه غائبة في ظل زمان حقوق الإنسان .


ذاكرتي تعود للوراء لترصد مدى معرفتها بهذه الوجوه ، البعض كأني أعرفه ولكن سأنتظر ريثما يفرج عن باقي ملامحهم ... الوجه الثالث ذو لحية كثة وجسد مفتول البنية ... ثوبه تقطعت أزرتها من شد وسحب أيدي الشرطة ، الأيدي مغللة بالأحزمة البلاستيكية ... مرفقي تقرحت عروقه من ضغط الحزام البلاستيكي ، لازلنا نلتقط أنفاسنا من عناء رحلة القسر هذه .... أقفلت على أجسادنا الباب الحديدية السميكة لفترة وجيزه .


أصوات الصخب في الخارج تطرق أسماعنا ... أصوات التألم والتشكي ممتزج بأصوات الأبواب مفتحة مغلقة ... الأبواب حادة الأثر ... سحب العمود الحديدي يحدث صخباً بإرتطامه بجسد الباب .. ذلك الصوت يشبه سكيناً يغور نصلها في أعماق الدماغ .


بعد لحظات هي دهر بأكمله في ميزان الألم انفرجت الباب ثانية ، شرطي يمني الأصل بحوزته ملف وقلم شرع في تدوين أسمائنا كاملة في ملفه ... عندما وصلني سألني عن إسمي ... أجبته : عبدالشهيد ، زم شفتيه ممتعضاً واستنكر قائلاً : عبد رب الشهيد ؟ ... إيش عبد الشهيد ، لم يكن استنكاره يحتاج إلى إجابه مني... لم تكن توجد لدي الفرصة للأخذ والرد ومقارعة الحجة بالحجة ، هو أيضاً لم يكن ينتظر رداً ...


عجبي من رؤسهم المحمولة فوق أجسادهم ، رؤوس ببغاوات لايعبرها سوى الحفظ الاجوف ... أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ، أليس القرآن يقول : ( إن الله على كل شئ شهيد ) ؟! الشرطي عقليته كأولئك أيضاً ، لا تقبل نقاش ... عقل مجبول على استقبال الأوامر فحسب ... الأوامر لايفكها إلا من يربطها ... حتى الذات الإلهية ليس لها قدرة على تغيير تلك التركيبة ... كالأعمى الذي لم ير إلا الأسود قبل عماه ، مهما حاولت لتقريب باقي الألوان لفهمه ..... دخل الأسود مهيمناً على النتائج كلها .


سجل الشرطي صاحب السن الذهبية أسماءنا ، أعاد على عيني العصابة ثانية مستنكراً من الحرية المتاحة لعيني تسرح في أوجه رفاقي المغلقي العيون . بدأت أنفاسنا تستعيد وضعها الطبيعي ... ما إن دلف الشرطي مغلقاً الباب خلفه ، إلا وعاد آخر يصحبه رفاقه .


أكف تحمل أهوازاً بلاستيكية سوداء معتمة ... لو أتيح لها الكلام لباحت بما صنعت فوق أجسادنا في رحلة القدوم ..... بعضهم غصت أيديهم بالقيود الفولاذية ، راحوا يحررون أيدينا من القيود البلاستيكية ليبدأ عهد قيد جديد .... يقطعون السلك ويدخلون اليد في القيد الفولاذي ( الهفكري ) مباشرة ...... بمجرد دخول القطعة البارزة في فتحة الإقفال يبدأ الأسر مشواره ... هذا القيد كسابقه كلما ضغطت عليه تضايقت دائرته حول معصم اليد .


أحسب هذا القيد أصلاً والثاني ( البلاستيك ) تقليداً .... باتت أيدينا معتقلة في إعتقالنا .... كل يد يحيط بها سوار فولاذي وتجمع بين الكفين سلسلة محكمة حلقاتها .... كأنها خلقت مغلقة لم يفضضها فراغ ... سلسلة لايتعدى طولها ست بوصات ، فكوا أعيننا من ليلها الطويل لتتعرف على رفاقها ولتدرك بعد ماوصلت إليه .... ولتعلم أين صارت .


الليل هبط علينا بسكونه .... سكون جديد وليل جديد... لم نعايشه قبل هذا الأوان ، أول ليلة في غربة المعتقل , وما أطول تلك الليلة ... نأنس فيها ونتسامر مجبرين ... نغتصب الفرح إغتصابا .... ننتزع الكلام من أفواهنا بلا رغبة ، ليل سواده كسواد الغراب لايحمل في طاقاته يمنا .... ليل ثوانيه بطيئة كالسلحفاة ، ونسماته تلفح جلودنا بصقيعها ... ليل كالبئر العميق نمد حبالنا لنرتوي منه فلا تصادفنا الا الأفاعي تشردنا من أمننا ............. يتبع .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع