شارك هذا الموضوع

بيت الله ودوره في رسالة الحياة

إن الخصائص التي ذكرها الله لهذا البيت ـ الكعبة ـ توحي بما يريده الله لبيته هذا، كما يوحي به لبقية البيوت، حيث وضعه الله للناس كي يعبدوه ولم يجعله لفئةٍ دون فئة أو لعائلةٍ أو جماعةٍ معينة، بحيث تمنع منها بقيّة العائلات أو الجماعات، لأن المسجد لم يوضع ليتحدد، بل ليكون عاماً وشاملاً لكل الناس تبعاً لشمولية دوره في أن يكون محلاً لعبادة الله ربّ العالمين.


دور المسجد
وقد جعل الله المسجد مباركاً، والبركة هي الخير الكثير الذي فيه المنافع والمصالح للناس، ما يعني أن المسجد لا يقتصر دوره على العبادة، بل يتسع لكل منافع الناس، سواء كانت علمية أو إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية أو غير ذلك من الأمور المتصلة بحياة الناس العامة. وفي ضوء ذلك كان المسجد يلعب دوراً ريادياً في الاسلام حيث كان يشكل  الملتقى الروحي للناس، فيعبدون الله فيه ويتعلمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية، فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلقة بتنظيم حياتهم كما تنطلق منها صيحات الجهاد. وسارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا الخط، بحيث جسّدت المفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على الله سبحانه، لينفتح الناس من خلال ذلك على الحياة من مواقعها المضيئة المتحركة في سبيل الخير.


ولكن هذا الدور ما لبث أن تراجع في عصور التخلّف اللاحقة التي جمّدت عقول المسلمين وأفكارهم فتجمّد كل شيء حولهم، ونالت المساجد حصّة من هذا التجميد، فإذا بهم حكاماً وشعوباً، ينكرون على العالمين والمصلحين أن يتحدثوا في المساجد بغير الشؤون الدينية الخاصة التي تتحدث عن الجنّة والنار والعبادات والأخلاقيات التجريدية... فإذا انطلقوا بالحديث إلى ما أمر الله به من مقاومة الظلم والإنحراف في شؤون الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، اتهموهم بأنهم يستغلون بيوت الله لغير الأغراض التي وضعها، تماماً كما هي المعابد لدى اليهود والنصارى كما يزعمون؛ وأثاروا الثائرة عليهم، بأنهم يعملون على إدخال السياسة للمسجد وتسييس الدين، زعماً منهم بأن الدين لا يلتقي بالسياسة، في الوقت الذي نرى أن الله سبحانه وتعالى يصرح في أكثر من آية، بأن الله أنزل كتبه وأرسل رسله من أجل أن يقوم الناس بالقسط.


خصوصية الكعبة
إننا نستوحي من كلمة {مباركاً}[آل عمران:96] التي وصف الله بها بيته ـ الكعبة ـ المعنى الممتد في حياة الناس الذين يقصدون هذا البيت من سائر أنحاء العالم، ليجتمعوا حوله على أساس كلمة التوحيد التي توحدهم، والرسالة التي تجمعهم، والقضايا الحيوية التي تتحرك في واقعهم الخاص والعام، لا سيما القضايا المتصلة بالمصير السياسي والثقافي ولاقتصادي والأمني والاجتماعي أمام التحديات الكبرى التي يواجهونها من قبل الكفر والاستكبار العالميين، ليتعارفوا في ما بينهم وليتبادلوا المعلومات، وليستلهموا التجارب، وليخططوا للوحدة في الموقف، من جهت إحساسهم بوحدة أمتهم في خطّها العقيدي والعملي، وفي مصيرها الواحد، وليتحاوروا في ما اختلفوا فيه من تفاصيل العقيدة والشريعة والمنهج، والأمور المتصلة بالواقع السياسي والأمني والاقتصادي في علاقاتهم ببعضهم البعض وبالآخرين، وليحركوا أوضاعهم الاقتصادية على أساس خطةٍ سليمة تحقق لهم ما يحتاجونه من إنتاج في حياتهم العامة، بحيث يصلون إلى مستوى الاكتفاء الذاتي ليكونوا في موقع الاستقلال في إدارة أمورهم، وهكذا يتحول الحج إلى مؤتمر إسلامي عالمي يحقق البركة للإسلام في فكره وحركته، وللمسلمين في وجودهم وامتدادهم وأوضاعهم العامة والخاصة، وهذا ما نستوحيه من الكلمة المعبرة {مباركاً}.


ولكن الأوضاع المعقدة التي طرأت على الواقع الإسلامي السياسي، جعلت مواقع المسلمين تحت سيطرة الكافرين المستكبرين، وجمدت الحيوية في مفاهيمهم وحركتهم الدينية، فأصبحت مجرد صور جامدةٍ في الفكر، وطقوس ميتة في الواقع وأبعدت الحج عن امتداده الحضاري الحركي في حياة المسلمين، فلا فرصة لأي اجتماع عام للبحث في القضايا الحيوية المصيرية المتصلة بحياة الناس وللتخطيط للمستقبل في اتجاه حل مشاكل الحاضر بالطريقة الحكيمة، وذلك تحت شعار أن الحج عبادة لا سياسية، تماماً كما لو كان معنى السياسة معنى بعيداً عن معنى العبادة التي أراد الله لها في الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، بالمعنى العام للكلمتين الذي يتسع لكل مواقع الإنحراف في حياة الإنسان، وفي الصوم الذي أراده الله أن يكون سبيلاً من سبل تحقيق التقوى الروحية والأخلاقية والسياسة والاجتماعية والأمنية والاقتصادية، وفي الحج الذي أراده الله للناس ليشهدوا منافع لهم في كل الأمور التي تتصل بالنفع العام لحياتهم المنفتحة على كل خير وكل جديد، ولا يتحقق ذلك إلاّ بالسياسة المنفتحة على أمور الناس بالحق.


بيت الله هدى للعالمين
أن الله جعل هذا البيت{هدى للعالمين}[آل عمران:96] من خلال ما يهدي إليه من سعادة الدنيا والآخرة، ما يوحي بأن مهمّة المساجد هي هداية الناس بالممارسة من خلال عبادة الله فيها، وتوجيههم من خلالها وتعليمهم وتثقيفهم بأمور دينهم في كل ما يتصل بحياتهم، لينطلق المسلمون من المساجد إلى حياتهم من خلال الانفتاح على كل المعاني الكبيرة التي يستهدفها الإسلام للحياة، وليحمل كل واحد منهم المعرفة الشاملة لشريعة الله في كل أحكامها المتصلة بالحياة الخاصّة والعامّة، لتكون الشريعة ومفاهيم الإسلام المنبثقة عنها في كل فكر وعلى كل لسان، فلا تبقى محتكرة على فئة معينة من الناس، لنستطيع من خلال ذلك أن نجعل من كل مسلم إنساناً واعياً متحركاً يعمل في حياته الخاصة من موقع الوعي، ويدعو إلى مفاهيم الاسلام بطريقة واعية من قاعدة الحركة.


وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نؤكد بأن القائمين على شؤون المساجد الذين يقتصرون فيها على إقامة الجماعة، ولا يقومون بمهمة التوجيه والهداية، ويحولونها إلى منطقة نفوذ يتوارثها الأبناء عن الآباء، هم من المنحرفين عن رسالة المسجد التي هي الهدى للناس بحسب ما يتسع له المسجد من ذلك، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً.


ما هي الآيات البيّنات؟
{فيه آيات بينات} لقد تحدثت الآية عن الآيات البيّنات ولم تفصلّها، ولم تذكر طبيعتها، ولم يُعرف أن التعقيب بـ{مقام إبراهيم}[آل عمران:97] هل هو ذكر نموذج منها باعتبار الأثر البارز الذي يؤكد إنتساب البيت لإبراهيم، لأنه كان يصلي فيه بدلالة وجود مقامه الذي لا يشك أحد فيه، لأنه مما توارثه الأبناء عن الآباء، فيكون التقدير: منها مقام إبراهيم، أو يكون بدلاً منها فيكون التقدير: فيه مقام إبراهيم... ويرى بعض المفسرين أن الآيات هي مقام إبراهيم والأمن لمن دخله والحج لمن استطاع إليه سبيلاً.


قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: "ولا ريب في كون كل واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه، مذكرة لمقامه، إذ ليست الآية إلاّ العلامة الدالّة على الشيء بوجه، وأيّ علامة دالة عليه ـ تعالى ـ مذكرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم، ومن حرم آمن يأمن من دخله، ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر بتكرر السنين، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيام؟! وأمّا كون كل آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً لسنّة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه. قال تعالى{ما ننسخ من آية أو ننسها}[البقرة:106] الآية؛ وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً، وقال تعالى: {أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون}[الشعراء:128]، إلى غير ذلك من الآيات.


ولكن ذلك غير ظاهر، وذلك بلحاظ أن الآيات البيّنات ليست من قبيل المظروف بالنسبة إلى الظرف، ما يعني وجوده فيه تماماً كما هو مقام إبراهيم(ع)، أمّا الأمن لمن دخل والحجّ إليه فهو من أحكامه وخصائصه الشرعيّة...


وربما يوجه ذلك بأن الظرفية ليست واردة على سبيل الحقيقة بل على سبيل المجاز، لا سيما إذا عرفنا أن مقام إبراهيم ليس جزءاً من البيت ـ الكعبة، بل هو خارج عنها، كما أن السياق جارٍ على أساس بيان مميزات هذا البيت عن البيوت الأخرى، مما يحتمل ـ معه ـ أن تكون كلمة "في" واردة بمعنى الموازنة والمقايسة، وربما يؤكد كلام العلامة الطباطبائي، من نفي إرادة المعجزة من الآية، أن الله أشار إلى مقام إبراهيم من دون بيان لما ذكره المفسرون من تأثير قدمه في الصخرة التي وقف عليها، بل ربما كانت الإشارة إلى القيمة الإيحائية لهذا المقام الذي يمنحنا وعي الشخصية الإبراهيمية في عناصرها المميزة الموحية بكل الخط التوحيدي الذي يريد الله للناس السير عليه، مما يجعل منها في موقعها العبادي آية تدل على الطريق إلى الله في الأسلوب التأملي والإلتزامي والعملي.


وفي ضوء ذلك يمكن أن نتمثل الآية في الخصائص التي جعلها الله للبيت الحرام في التشريعات التي تتحرك لتصنع واقعاً يعيشه الناس في أمنهم في المنطقة الحرام، وعبادتهم المتحركة المنفتحة على أكثر من أفق في حياتهم حول الكعبة الحرام، الأمر الذي يؤدي إلى التذكير بالله والارتباط به، والدلالة عليه من خلال الوضوح في الرؤية والعمق في التفكير والاستقامة في الخط؛ والله العالم.


الكعبة أرض سلام
{ومن دخله كان آمناً} [آل عمران:97] وهذا وارد في مقام التشريع لا الإخبار، فإن الواقع يظهر الكثير من حوادث التاريخ التي أستبيحت فيها حرمة البيت فقتل فيه ناس كثيرون من قبل الطغاة والظالمين، تمرّداً على الأمر الإلهي الذي اعتبره واحة سلام، فلا يجوز لأحد أن يعتدي فيه على أحد حتى لو كان غريماً له في قتل أو مال أو عرض أو غير ذلك، بل ينتظر حتى يخرج. وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت(ع) أن المعتدي يمنع من السوق فلا يباع ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم حتى يخرج فيما إذا أحدث جريمة في غير الحرم ثم فرّ إلى الحرم، أمّا إذا أحدث جريمة في الحرم أخذ فيه، لأنه اعتدى على حرمة الحرم فلا يبقى له حرمة فيه.


وقد نستوحي من هذا الحكم الشرعي في حرمة هذه المنطقة المسمّاة بالحرام التي كانت الكعبة ـ البيت الحرام أساساً لحرمتها، أن الله سبحانه أراد أن يجعل موقعاً من الأرض منطقة سلام يتخفف الناس فيها من أحقادهم وعداواتهم، ويعيشون في داخلها أعلى درجات الصبر في السيطرة على نوازع النفس الممتلئة بالحقد والعداوة والبغضاء، بحيث أن الإنسان يرى قاتل أبيه أو ولده فيقابله وجهاً لوجه فلا يعرض له، وبالرغم من ضغط التقاليد العشائرية الجاهلية القائمة على الأخذ بالثأر إحتراماً لله في بيته المحرّم، فلا يسيء إليه، ولا ينقص من حرمته، مهما كانت الحالة النفسية ضاغطة عليه ما يجعل الإنسان يعيش تجربة روحية فريدة تمنحه الفرصة للتأمل في النتائج السلبية المترتبة على الثأر، أو في طبيعة المسألة في خلفياتها وامتداداتها ليتعرف وجه الصواب والخطأ في انطباعاته التي كوّنها تجاهها، فقد تكون النتيجة أن يتحول هذا السلام النفسي ـ ولو في هذه المنطقة ـ إلى حالة سلام في الواقع عندما يكتشف هذا الإنسان أن العفو أقرب للتقوى، وأن الصبر خير للصابرين، وأن حلّ المشكلة بالوسائل السلمية هو الأفضل في مواجهة سلبيات الواقع.


وربما يحتاج الإنسان إلى أن يدخل في منطقة سلام في المواقع الحارّة من الصراع بموجب المعاهدات والمواثيق بين الناس، ليعيش الناس فيها بعضاً من الهدوء النفسي والسلام العملي، ليكون ذلك بمثابة المنطقة التي يستريح فيها أبناء الخير من أجل تجديد الروح المندفعة نحو الخير في الدرب الطويل.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع