شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ماكان (3) - حفل استقبال

انطلقت السيارة من القلعة تقطع الشوارع في راحة واطمئنان بينما تقل في جوفها من لا يعرف الراحة في البال ولا اطمئنان قلب . الحافلة تسير بنا للمجهول .... ذلك المجهول الأسود الذي لا نعرف عنه شيئا ، رؤسنا المنسكبة على المقاعد الأمامية غرقى في تأملاتها ، كل منا يضرب أسداساً في أخماس ، أين تراهم يذهبون بنا ؟ وقد طالت مسافة المسير بنا ؟ السير للمجهول أقسى من السير للمصير القاسي . فقدر تعرفه وتقصده أهون من قدر تقصده بلا دليل .


سلكت الحافلة دروبا طويلة لم نخل أن في بلادنا بعداً كهذا ، يسألني رفيق مقعدي بهمس مكتوم : من أنت ؟!، لم أكمل تهجي اسمي في مسامعه إلا والصفعة مستقرة في قفاي يتبعها صوت الشرطي : ساكت .... يسلطون أكفهم لتغتال الكلمات فهم وقوف لدى مولد أية كلمة وعند انبعاث فجر كل نية نحو الكلام .


أخيرا تراخت السيارة في السير وفتحت أمامها بوابة واسعة فدخلت جميع السيارات بعد دخولها... ماهي إلا لحظات من السير المتلكئ حتى استقرت عجلاتها فوق الأرض معلنة محطة النزول . اتضحت لنا حركة الشرطة من حولنا في النهوض والإستعداد .


انزلقت البوابة الأوتوماتيكية بالإنفراج ، باشر الشرطة آخر مشوارهم معنا بإنزالنا من الحافلة ، مع نزول أول ركب انطلقت صيحات الإستغاثة من كل الجهات وبمختلف الصياغات ... آه ... آه .... ياعلي ... باموت... أصوات متنوعة ، شباب وشيوخ وكهول .


ماذا عسى أن يكون الأمر ؟ وماذا يجري تحت الحافلة ؟ إنهم يضيفونهم بوجبة استقبال من أعماق حفاوتهم ، أنزلني الشرطي من الباب وتركني ، رحت أتعثر ببطئ اسحب خطواتي في توجس واندهاش ... عجب هاقد نزلت من السيارة ولم يصلني بريد ضربهم للآن ... أتراهم لايبصرونني ، مازلت في خطواتي الثقيلة بالتوجس حتى صدمت حائطاً بعدما صعدت عتبة رصيف ... تراجعت قليلاً وكلي سمع حاضر بإستغاثات وتوجعات وصيحات من رفاق مأساتي ، تراجعت واستدرت لليمين علني أجد الطريق ... ثلاث خطوات إلى اليمين ....وجاءت صفعة من يد خشنة على الرأس وضربة أخرى بحزام جلدي على الظهر حينها أدركت أن هذا هو الطريق الصحيح .


في تلك الأثناء أمسكت بي يد شيطانية كأنها يد أحد خزنة جهنم ، يد تدفعني وتتعتعني وأخرى تشاطرها وظيفة البطش والنيل مني ... عندها سقطت العصابة عن عيني ، كان ما رأيت مهولاً لايدركه وصف بصر .


صفان من الشرطة وقوف على الجانبين ، وصف آخر يمشي بإتجاه معاكس لسيرنا .... والصف الأخير يقتاد غنائمه إلى داخل الممر ، كل هؤلاء يتفانى في نيل حصته من ايجاعنا والتشفي من أجسامنا بما أوتي من قوة حقد ، أيديهم لم تكن أقسى من ألسنتهم .... ألسنتهم بارعة في مفردات الفحش والبذاءة ، وأحسب جراح أيديهم برئت وجراح ألسنتهم لا تبرئ الدهر كله .


ممر طويل عبرناه مفروش بالصفعات واللكمات وسقطات الأحزمة والسياط . مشاهد ذكرتني بالأفلام المصرية ومايجري فيها لمعتقلي الرأي ، نعم نسخ تختلف مواقعها وأحجامها وتتفق في الهوية وانسلاخها من وازع الضمير .


يظهر أن أحدهم أستاذ للآخر في ابتكار فن الضيافة والإستقبال ... الدماء المضيافة تقطر من عروقهم ، لايمكنك أن تحل ضيفاً عليهم دون ضيافة تليق بمستوى استهتارهم بالمشاعر الإنسانية . ... يتبع

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع