شارك هذا الموضوع

الحج انفتاح على الله وعز للاسلام

لم يكن المسجد الحرام مسجداً عادياً في طبيعته وخصوصيته، ولم يأت بناؤه لرغبة ذاتية في بناء مسجد للعبادة كما هي حال المؤمنين عادة، بل جاء نتيجة أمر من الله، فقد أوحى لنبيّه إبراهيم(ع) أن يبني هذا المسجد ليكون بيتاً له ـ تعالى ـ على مستوى العالم كله، من أجل تحقيق المنافع الدنيوية والأخروية، المادية والمعنوية، ولينطلق الناس من خلاله، ومن خلال الأعمال المتنوعة التي شرعها لهم في رحابه وأجوائه، ليخلصوا له العبادة من موقع التوحيد، ولينفتحوا على عمق التوحيد في صفائه ونقائه، وفي ما تعيشه أفكارهم، وتختزنه مشاعرهم، وتتحرك فيه أوضاعهم، في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم، من خط يبدأ من الله وينتهي إليه، فلا يمرّ الناس إلا من خلاله ولا يلتقي بخصوصيات الحياة إلا في دائرة رضاه.


وهكذا، كان الحج العبادة المنفتحة على أكثر من أفق للعقيدة، والمرتكزة على أكثر من قاعدة للحركة، والقريبة إلى الجانب العملي في الحياة، في ما يلتقي به الإنسان مع الله في أكثر من موقع.


الحج انتصار للاسلام وعزة للمسلمين
الحج فريضة تمثل انتصار الإسلام وعزة المسلمين وامتداد نور الله تعالى في الآفاق، وقد تأكد ذلك من خلال تشريع الحج في السنة السادسة للهجرة، حيث فرضه الله على أمة محمد(ص) بعد مرحلة من أدق مراحل الجهاد الإسلامي ضد أعداء الإسلام .


فبعد الانتصارات التي خاضها المسلمون ضد المشركين في بدر وأُحد والخندق ، وفي غزوات بني القينقاع وبني النضير وبني قريظة من اليهود، بدأت معالم الشرك تنهار في شبه الجزيرة العربية، وارتفعت راية الإسلام ما أحدث تحولاً مهماً في مسيرة الصراع بين المسلمين وأعدائهم عبّر عنها الرسول(ص) بقوله: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".


وخرج رسول الله(ص) ومعه المسلمون إلى مكة معتمرين لا يريدون حرباً وساقوا معهم الهدي، ولما وصل الركب إلى "الحديبية" جرت المراسلات بينه وبين قريش، وانتهت المشاورات بعقد صلح "الحديبية" الذي نصّ على أن يرجع المسلمون عامهم هذا، ثم يأتوا العام المقبل ويدخلوا مكة ثلاثة أيام، ونزل قوله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً}[الفتح:127].


ودخل المسلمون مكة في العام السابع في حشد مهيب، وأدى المسلمون عمرة القضاء، التي اعتبرت بمثابة استعراض للقوة أمام المشركين، وهذا ما يستوحى من قول الرسول(ص) لأصحابه وهم يطوفون: "رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة"، وبعد مضي عام دخل الرسول(ص) على أثر نقض قريش لعهدها بعشرة آلاف مقاتل مكة فاتحاً، ما دعا أبو سفيان إلى القول للعباس عم الرسول(ص): يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً، فقال العباس: يا أبا سفيان إنها النبوة.


وكان أول عمل قام به المسلمون بقيادة الرسول(ص) تحطيم الأصنام وإطلاق شعار "لا إله إلا الله صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده"، ولكن المشركين كعادتهم ظلوا يؤدون الحج على طريقتهم الوثنية، فلما كان العام التاسع للهجرة، نزلت أثناء موسم الحج سورة براءة لتعلن تصفية الحج من آثار الجاهلية كلها، ونزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم}[التوبة:128].


وتوالت الخطوات في استكمال مسيرة الدعوة التصاعدية، وبلغت العزة أوجها، وانتهت مسيرة الإبلاغ، ففي العام العاشر من الهجرة خرج رسول الله(ص) في مائة ألف أو يزيدون لأداء حجة الإسلام والبلاغ والوداع، ونزل قوله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}[المائدة:3 ].


الحج قمة التشريع
وعلى صعيد التدرج التشريعي، فقد توالت التشريعات بدءاً بالصلاة والصلاة والزكاة، ثم يأتي الحج لتمثل تأديته قمة الإيمان والإسلام على المستويات التشريعية والواقعية، فهو فريضة العمر لمن استطاع إليه سبيلاً.


وحيث يبدأ المسلم بأداء واجباته في الصلاة اليومية والاستقامة فيها، يأتي الصيام في شهر رمضان من كل عام ليهذب النفس ويدفع بها إلى أقصى درجات الإخلاص والتجرد لله سبحانه وتعالى، وقد فرض في العام الثاني من الهجرة، وإذا كان المسلم يملك نصاباً فإنه يخرج منه الزكاة والخمس كلما حال على ماله الحول، وقد فرض الزكاة في العام الثاني أيضاً بعد الصيام، وكذلك الخمس في أعقاب موقعة بدر، وهكذا تتكامل تشريعات الإسلام لتبلغ القمة مع تشريع الحج.


ومن مقتضيات الحكمة أن مناسك الحج وشعائره تتضمن مناسك الصلاة والصيام والصدقة، الشروع بأداء ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم استجابة لقوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}[البقرة:125]، إلى الكفارات التي تتوجب على الحاج عند العجز، تتضح شمولية مناسك الحج للأفعال العبادية جميعها، وقد ورد ذلك في قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}[البقرة:196]، وعلى هذا فإن عبادة الحج قائمة على ألوان العبادة جميعها، ويخضع فيها الإنسان لخالقه بالمطلق، ولعل التعبير الصحيح لهذا الخضوع يتجلى في ذلك النداء الذي يردده الحاج في حركاته وسكناته "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك له لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"..


فكما أن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن من الخطايا، والزكاة والحقوق الشرعية مطهرة لمال المزكي من الشح والحرص والقسوة والأنانية، والصوم مطهر للصائم من الاسترسال في الشهوات واتباع النفس الأمارة بالسوء، فإن الحج مطهر للحاج من ذنوبه وآثامه، فيغسل نفسه ويزيل ما ران على قلبه، ويجعله دائماً على ذكر من ربه، ذلك أن الشارع شرع كل نسك من مناسك الحج بمثابة طور من أطوار التطهير للنفس من ذنوبها وآثامها، حتى إذا أتم الحاج مناسك حجه مرّت نفسه بعدة أطوار تطهيرية، فينتهي حجه وقد غسل نفسه وطهر قلبه وعفا الله عنه وغفر له.


ولعل من علامات قبول الحج أن يعود الحاج وقد ازداد زهداً في الدنيا، وإقبالاً على الآخرة، وأزكى نفساً وأخشع قلباً، وهو الذي هاجر إلى بيت الله وجاهد بماله وبوقته، وفارق عياله وذويه، فلا ينبغي أن يضيع ثمرة ذلك، بل عليه أن يسعى للحفاظ على ما حققه من منافع في هذا الحج العظيم.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع