الحج عند الأمم القديمة:
اختلفت مظاهر العبادة والتقديس باختلاف الأقوام والشعوب، وتجلت بداية في الأشجار والغابات والجبال والأنهار والآبار وما إلى ذلك، وجعلوا منها أماكن يزورونها جماعات وبأعداد كبيرة، يقيمون فيها عبادة ذات شعائر خاصة فيشعرون من جراء ذلك بالقوة ما يبعث في نفوسهم الطمأنينة، وفي العادة يقوم هؤلاء الناس بزيارة هذا المكان المقدس وفي وقت معلوم للتقرب من المعبود الذي يؤمنون به، ولذلك كان الإنسان يرتاد بقاعاً من الأرض يجد فيها رهبة أو راحة نفسية.
أ ـ في مصر والشرق الأقصى:
ولذلك سنحاول إلقاء نظرة سريعة على أهم المظاهر التقديسية التي مارستها الأقوام والشعوب قديماً، فالمصريون كانوا يقصدون معبد أوزيريس بمدينة أبيدوس لاعتقادهم أن الآلهة تجتمع هناك في عيد المعبود فكانوا يحجون إليه بهذه المناسبة، أما الهنود الذين اعتبروا الطبيعة كلها مصدراً قدسياً كانوا يحجون إلى المعابد الضخمة بجبال هملايا، أو على ضفاف نهر الغانج، الذي كانوا يزورونه سنوياً بقصد التطهر بمائه. وفي الصين تعددت المناطق التي كانوا يزورونها خاصة جبال "تاي ـ تشان"، وفي اليابان حيث كانت تعايشت عبادة أرواح الأسلاف أو الشنتو ـ التي جعلت من القصر الأمبراطوري والمعبد واحداً باعتبار أن الأمبراطور من سلالة مقدسة ـ بالطقوس البوذية، حيث تقوم معابد "الشنتو" أي تقديس الأسلاف بممارسة الطقوس العبادية مستقلة عن المعبد البوذي، وأماكن حجهم على الجبال العالية، لا سيما جبل"فوجي ياما" كما يؤمّون المعابد البوذية في مدينة "نارا" حيث أقسم أجدادهم على تحرير وطنهم من التبعية لإمبراطورية الصين، فأصبح معبدها البوذي مكاناً للحج.
ب ـ في بلاد ما بين النهرين وبلاد كنعان:
أما حضارات الشرق الأدنى، وبالتحديد في بلاد ما بين النهرين، سومرية كانت أو أكادية، فقد جعلت من المعبد مركزاً يمثل محور حركة المدينة، ويشكل المكان المقدس الذي يقصد للممارسة الشعائر الدينية فيه .
وقد اتخذ المعبد في بنائه أشكالاً هندسية مختلفة، فإذا كان المعبد مربعاً فإنه يشير إلى أن الله هو المهيمن على الجهات الأربع للعالم: الشرق والغرب والشمال والجنوب، وإذا كان بيضاوياً، فإنه يذكر بأن الله خالق للحياة،ودليل على استمرارية الحياة.
وكان في كل معبد برج شامخ يسمونه زقورة، شكله مربع في المعابد المربعة، ومستدير في المعابد البيضاوية، حيث ينتهي من أعلى شرفة يرصد منها الكهنة النجوم ـ وكانوا يعبدونها ـ ويعلنون بدايات الطقوس الدينية للحجاج. وهكذا كان الحج في بلاد فارس، وبلاد الحيثيين في آسيا الصغرى، وغيرها من بلدان العالم القديم.
أما الساميون فقد كانوا على اختلاف عشائرهم يحجون إلى الجبال والأشجار والآبار وعيون الماء، وكان اليهود يقدسون هذه الأماكن ويبنون عندها معابدهم، ومن أشهر معابدهم"بئر الحيّ الرائي" بالقرب من الخليل، ومعبد "تبيت إيل".
ج ـ العرب قبل الاسلام:
أما العرب لم يختلف وضعهم في الجاهلية كثيراً عن الشعوب الأخرى، فقد مارسوا شعيرة الحج في شهر"ذي الحجة" المعروف بشهر "الحج" وهذه تسمية قديمة كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام، ولا زالت متداولة في التقويم الهجري حتى يومنا هذا.
ونظراً لتعدد الأرباب، تعددت محجات الجاهليين التي يبدو أنها لم تقتصر على مكة وحدها، حيث حج كل قوم إلى البيت الذي قدسوه، والصنم الذي عبدوه وطافوا حوله وتقربوا إليه ولبوا له، فقريش كانت تتعبد لأصنامها في الكعبة، ولكنها كانت تزور "العزي وتهدي لها" وتتقرب إليها بالذبائح، كما كانت "قضاعة"و "لخم" و"جذام" و"أهل الشام" يحجون إلى "الأقيصر" ويحلقون رؤوسهم عنده، وكانت "مذحج" تحج إلى "يغوث"، كما كانت طي تعبد "الفّلس" وتهدي إليه، وكانت "ثقيف" تعبد "اللات" في الطائف وغير ذلك.
ولم يقتصر الاختلاف بين العرب على المحجات، بل وجدت الفوراق في ممارسة طقوس الحج في الجاهلية، ومنشأها شعور بعض القبائل بالفضل على سواها، وتمثلت بطريقة أداء حج المشركين، الذي فقد طابعه الديني ووحدته، بسبب تأثير النزعة الإستعلائية للقبائل القوية.
والشائع في الأخبار والروايات العربية القديمة أن الحجَّ، على زمن إبراهيم عليه السلام، كان يعني قصد كعبة مكة والطواف بالبيت والتلبية وقضاء بقية المناسك، ثم جاءت الوثنية بأصنامها وبيوتها وعباداتها فصار الحجُّ يشملها أيضاً.
{وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تُشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود* وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}[الحج:26ـ27].
وقد أخذ الأقوام الآخرون الذين عاشوا بألف سنة قبل ميلاد المسيح عليه السلام ـ بهذه السنّة؛ فكانوا يراعون حرمة مكة والحرم.
وعندما تحدّث ديو دورس سيسيلي Diodorus of Scicily الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، عن الأنباط، أشار إلى الكعبة بقوله:"إنّ مكان مقدّس له حرمة وشهرة بين جميع العرب، هو مكّة".
ويستنتج مما تقدم أن الحج كان يمثل ظاهرة مشتركة لدى الشعوب والأقوام القديمة، جاء تجسيداً لمفاهيمها لأنماط الحياة المختلفة، وعبادة تحاكي ما كانت تنزع إليه هذه الجماعات من تمثلات حاولت من خلالها أن تسير إلى درب الخلاص عبر اتباعها نظاماً دقيقأً اتخذ أشكالاً مقدسة في الزمان والمكان وما بينهما من مظاهر الكون وما تخفيه من أسرار جسدت في طقوس وممارسات حاولت غالباً الكشف عن غوامضها وجلاء ما التبس منها في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى، حيث تعتقد أنه الحقيقة المطلقة، ولكن حالت دون ذلك عقبات وعقبات جعلت كل مظهر من هذه المظاهر العبادية ينطوي على نفسه ويركن إلى مخدعه فاستراح في سبات عميق كان يحسب أنه قد حقق مبتغاه من دون أن يعلم أنه قد غرق في سبات المحدودية والنسبية.
التعليقات (0)