شارك هذا الموضوع

الحج غايات ومقاصد

الوحـدانيــة
جعل الله سبحانه وتعالى البيت الحرام مرجعاً يقصده الناس في رحلتهم العبادية، وقد أعدّ لهم ذلك من خلال رحلة الحج كحركة عبادية، فأكد بداية الأمر على صفة التوحيد، وعدم الإشراك به، في ما أثاره من معاني التوحيد ومن أفكار ومشاعر وآفاق روحية في عمق الذات، وفي امتداد الحركة الإنسانية.


وعلى هذا الأساس جعل المسجد مركز التوحيد والعبادة، ليعي الإنسان من خلال ذلك معنى العبودية الحقة الخالصة لله، وذلك يتأتى عن طريق إزالة الأوثان وكل القذارات التي تسيء إلى النفس وتمنعها من التحليق في آفاق الطهارة الروحية التي تختزنها روحية العبادة وتخلقها داخل الإنسان.


وكما أراد الله للمسجد أن يكون طاهراً في أرضه لتعيش الأرض الطهارة، كذلك أراد للإنسان أن يكون طاهراً في جسده وثيابه ليتكامل المضمون الداخلي والشكل الخارجي (للطائفين) الذين يقصدون البيت للطواف بما يعنيه من رمزية التحرك في فلك رضى الله واحترام أوامره ونواهيه في كل المجالات التي يتحرك فيها الإنسان في حياته على كل المستويات الاجتماعية و الفكرية والعملية وفي كل المواقع.


والحج شأنه شأن كل التكاليف الشرعية، له أهداف سامية وغايات نبيلة يقصد إليها، الهدف من القيام بها إصلاح الفرد وإصلاح المجتمع، لأن الله تعالى غني عن العالمين لا تنفعه عبادة العابدين، ولا تضره معصية من عصاه، وإنما اقتضت حكمته العالية استخلاف النوع الإنساني في الأرض ليعمرها ويستقر فيها على أكمل نظام وأوفق انسجام، فالحج قد أمر به الله تعالى عباده المؤمنين بقوله: {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}[آل عمران:97].


ففي الحج ومناسكه فوائد جمة، ، حيث يتجرد الانسان عن مألوف العادات، ففي الاحرام يترك الحاج لمخيط من اللباس ليظهر بمظهر الفطرة ومظهر التقشف والتساوي بين الحاجّين، يشعرهم بزوال الفوارق ومحو التعالي بين الطبقات، فلا شريف ولا وضيع ولا غني ولا فقير، بل الكل سواسية كأسنان المشط لا يفاضل بينهم إلا العمل الصالح، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وأكرم الخلق عند الله أتقاهم وأشدهم تمسكاً بما أمر الله به وما نهى عنه، وتظهر هذه المساواة بأبهى حللها في إهلال الحاج بالدعوات والالتجاء إلى الله تعالى، والمسارعة إلى أماكن الرحمة، وهو يطلب العون من ربه وأن يدفع الضرر عن نفسه، وترتقي هذه الرحلة إلى مرحلة أرقى سالكة طريقها إلى الطواف حول الكعبة التي هي أول بيت وضع للناس وهو البيت المبارك الذي جعله هداية للناس وأمناً.


وتتسامى هذه الرحلة لتبلغ مرحلة الخضوع الكلي لله والتسليم له والانقياد إلى أوامره في القيام والركوع والسجود، والتي يتم على أثرها الإعلان عن الحج ودعوة الناس إليه، إلى البيت العالمي الذي يلتقي فيه الناس جميعاً من كل الأجناس والألوان، على عبادة الله ليعيشوا وحدة الإنسانية من خلال وحدة الموقع الذي يقدسونه ويتعبدون فيه، ووحدة العبادة كرمز للإخلاص في إيمانهم بوحدة الله.


الغايات الاجتماعية ـ السياسية
ومن المنافع التي تتحقق في الحج وحدة الصف التي تعتبر مرتكزاً أساسياً وعاملاً مهماً في مكافحة التعصب والعنصرية والتقوقع على الذات، ويشكل الحج وسيلة راقية من وسائل التعارف والتعاون بين المسلمين، كما يعزز إمكانيات التشاور بين المسلمين للبحث في مختلف مشاكلهم وقضاياهم.


وبذلك تسقط الحواجز المادية والنفسية التي تضعها الفواصل العرقية واللونية والقومية بين الناس، ليلتقوا على صعيد واحد هو الإيمان بالله، والسير على منهجه، والالتزام بدينه، والجهاد في سبيله طلباً لرضاه، مما يوفر لهم الخروج من الدوائر الضيقة التي يحبسون حياتهم فيها، لينطلقوا إلى الدائرة الواسعة التي تحتويهم جميعاً.


وهذا ماكان الرسول(ص) قد جهد في محاربته والتخلص منه، فألغى امتيازات قريش القبلية التي كانت تفتخر من خلالها على ما عداها من القبائل، حيث كانت ترى لنفسها مكانة دينية خاصة بين العرب، وكان أفرادها يسمّون أنفسهم الحمس، ويرون أنهم أبناء إبراهيم(ع) وسدنة الكعبة، ولذلك كانوا يترفعون على بقية القبائل العربية، قد تركوا "الوقوف" في عرفات لأنها خارج الحرم المكي، وما كانوا يودّون أن يحترموا أرضاً تقع خارج حرم مكة، ظناً منهم أن ذلك يقلل من شأنهم بين قبائل العرب، مع علمهم بأنّ "الوقوف" من مناسك الحج الإبراهيمي.


وقد جاء في ما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}[البقرة:199]، ولذلك كانت الدعوة الإلهية إلى الإفاضة من عرفات لكل الناس بعد أن يكونوا قد تخففوا من المتاعب، وراجعوا حساباتهم، وتهيأوا لما بقي من المناسك، ليبدأوا من موقع التجدد الروحي الذي يملأ كيانهم في رحلة جديدة واعية لكل أوضاع الحاضر والمستقبل.


لقد جاءت هذه الآية لتلغي من نفوس الناس كل هذه النوازع الطبقية التي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين، لا سيما في مثل هذا الموقف الذي أراده الله من أجل إلغاء كل الفوارق التي تميزهم عن بعضهم البعض، ليشعروا بالصفة الواحدة التي تجمعهم أمام الله، وهي أنهم عباد الله الواحد الأحد، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فلا معنى بعد ذلك لأن يميز أحد نفسه عن أخيه في موقع أو في ظرف انطلاقاً من الشعور بالتفوق والكبرياء.


المنافع الاقتصادية
تتواصل المنافع الدنيوية في رحاب الحج، لتصل إلى مستوى توحيد الموقف السياسي، والتصور الفكري، وتحقيق التكامل الاقتصادي، ومواجهة قوى الطغيان.


ففي حين كان التعامل الاقتصادي بكافة ألوانه محظوراً في موسم الحج عند الجاهليين، لأنهم كانوا يعتقدون بطلان الحج إن اقترن بالنشاط الاقتصادي، جاءت النصوص الإسلامية لتلغي هذا العرف وأباحت التعامل الاقتصادي والتجاري في موسم الحج، وأوضحت أن سفر المسلمين من كل فجّ عميق إلى بيت الله الحرام لعقد مؤتمر الحج العظيم بإمكانه أن يشكل منطلقاً لتحرك اقتصادي عام في المجتمعات الإسلامية، باعتبار أن من أهم سمات الحج الأساسية هو أن يقوم على أساس التعاون والتبادل الاقتصادي بين المسلمين لتعزيز اقتصاديات البلدان الاسلامية والرقي بها إلى مستوى الاستقلال والتحرر.


ويروي هشام بن الحكم أنه سأل الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) عن العلّة التي لأجلها كلّف الله العباد الحج والطواف بالبيت، فقال: "فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينـزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد ولينتفع بذلك المكاري والجمّال.. ولو كان كل قوم إنما يتكلوا على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح..".


وجاء في حديث آخر للإمام الصادق(ع) في تفسير الآية 198 من سورة البقرة {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم}[البقرة:198]، قال(ع): "فإذا أحل الرجل من إحرامه وقضى فليشتر وليبيع في الموسم".


ومن جانب آخر فقد رخص الشرع للإنسان بجواز الأكل من الأضحية، وذلك بهدف دفع توهم البعض، الذين ينطلقون على أساس أن القربان لا بد من أن تأكله النار، أو ان يدفن في التراب، ولكنه سبحانه أراد ان يبين أن القربان يمثل معنى داخل الانسان عند تقديم الأضحية باسمه، فيأكل منها هدية من الله له، ويعطي الفقراء القسم الآخر {وأطعموا البائس الفقير}[الحج:28]، لتكون جزءاً من التشريع المتكامل الذي يفتح للفقير الأبواب التي تسد فاقته، وتقضي حاجته وتسكت جوعه.


وفي الاطلالة على هذه الآية نجد أنها تدفع بتوهم كبير، وتزيل ما قد يرتكز من انطباع سلبي عن التشريع الإسلامي الذي قد يتحول من خلال ممارسة كهذه إلى عمل عبثي، تدفن معه ثروة حيوانية كبيرة تحت التراب، في وقت يعاني فيه الكثير من الشعوب الإسلامية المجاعة، علماً أن القرآن أكّد على استثمار تلك الأضاحي والانتفاع منها بشكل فردي أو جماعي كجزء من المساهمة في حلّ مشكلة الفقر، ما يؤدي تركه إلى إلغاء الهدف من التشريع نفسه، وإلى تجميد الحكم الشرعي في صورة ذاتية، بدلاً من أن يتحرك ليحقق لنفسه وللإنسان مصداقية الحل الإسلامي للحياة.


على أن ما ورد من أحاديث إسلامية حرّمت إخراج لحوم الأضاحي من أرض "منى" أو من "حرم مكة" يعود إلى زمن كان في مكة المكرمة عددٌ كاف من المستهلكين، أي ممن هم بأمس الحاجة إلى هذه اللحوم.


ولهذا ورد في حديث صحيح الإسناد عن الإمام جعفر الصادق(ع) أن أحد أصحابه سأله عن هذا الموضوع فأجاب: "كنا نقول لا يخرج منها بشيء لحاجة الناس إليه، فأما اليوم فقد كثر الناس فلا بأس بإخراجه".


ويبقى أن نشير إلى أن هذه المسألة بحاجة إلى دراسة فقهية لتجاوز الاشكالات الشرعية التي قد يثيرها البعض حول المسألة ليصار إلى حلها من ناحية شرعية ، كما نحتاج إلى دراسة علمية واقعية لمواجهة المشاكل العملية في تنظيم الذبح وتوزيعه بطريقة يتمكن المسلمون الاستفادة منها إلى أقصى الحدود.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع