شارك هذا الموضوع

الرحلة الابراهيمية ورفع القواعد من البيت

دوافع بناء البيت
يرتبط الحرم المكي ارتباطاً وثيقاً برحلة النبي إبراهيم(ع) الشاقة من أرض بابل إلى أرض مكة، حيث وضع زوجته هاجر ووليدها إسماعيل، تحت وطأة الإلحاح من قِبَل زوجته الثانية سارة في أرض قفراء لا ماء فيها ولا سكان، وكما عبّر عنها في القرآن {وادٍ غير ذي زرع} (إبراهيم:37)، عندما أراد الرجوع اعتراها خوفٌ شديد وقلق، فتعلّقت به لا تريده أن يتركها في هذا المكان المقفر، ولكن حالة القلق هذه ما لبثت أن تبددت عندما علمت أن ما يقوم به كان بأمر من الله، وأن الهدف من وجودهما في هذا المكان (البيت الحرام)، هو إقامة الصلاة، وجعل هذه المنطقة عامرة بالإيمان، بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم فيرزقهم من ثمراته، وهذا ما تأكد في دعائه الذي دعا به عندما وصل إلى مكان يُدعى "الثنية".


وقد وصف القرآن الكريم واقع الحال والهدف من إقامتهما في هذا المكان {ربنا إني أسكنت من ذريّتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} (إبراهيم:37).


كان إبراهيم قد حمل معه بعض الطعام والشراب، فأخذت أم إسماعيل ترضع ولدها إسماعيل وتشرب من الماء الذي تركه لها، حتى نفذ ما في السقاء وأضر بهما العطش، فالتجأت إلى الصفا فلم ترَ أحداً، فهبطت إلى الوادي حتى وصلت إلى المروة، فقطعت سبعة أشواط بينهما، والقلق يساورها حتى أرسل الله ملكاً أخرج لها الماء في المكان المعروف بـ"زمزم" فملأت منه سقاءها ورجعت إلى طفلها، واكتملت حلقة التماس الدعاء، حيث مالت أفئدة من قوم جرهم إليها، وسكنوا بجوارها، ولكنها اشترطت عليهم أن لا يكون لهم في الماء إلا ما يسدّ حاجتهم.


رفع القواعد
أما عن قصة بناء الكعبة، وهل كان لها وجود سابق على زمن إبراهيم الخليل(ع)؟! فإن ما يفيده ظاهر القرآن والسنة أن إبراهيم(ع) هو الموجّه إليه الخطاب بشأن هذا البيت العتيق، وهو المكلف برفع قواعده، وتوجيه النداء التاريخي للناس بأداء الحج، قال تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة:127].


وقال تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركّع السجود} [البقرة:125].


وقال سبحانه: {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود* وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق} [الحج:26ـ27].


وحين تحدث القرآن عن أولية البيت ربطه بذكر إبراهيم(ع)، فقال: {إن أول بيت وضِع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين} [آل عمران:96].


ويقول الطباطبائي في معرض تفسيره الآية الأخيرة: "ليس هو أنّ أول ما بني على وجه أرض، كما قد يتوهمه البعض، بل المراد أول بيت وضع للعبادة والهدى والبركة للناس، وهذا ما وردت به الرواية عن علي أمير المؤمنين(ع) في ما نقله ابن شهرآشوب عنه في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} الآية، فقال له رجل: هو أول بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه كان أول بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة، وأول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جُرهم، ثم هدم فبنته العمالقة، ثم هدم فبنته قريش" [الميزان، ج:13، ص:407، من وحي القرآن، ج:6، ص:160].


ويذهب السيوطي في كتابه الدر المنثور في نقله لرواية عن علي بن أبي طالب(ع) إلى مثل هذا المعنى حيث يقول في تفسيره الآية السابقة "البيوت كانت قبله، ولكن ما كان أول بيت وضع لعبادة الله".


وجاء في حديث عن أبي ذر(رض): "قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع أولاً؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة".


والمعروف أن المسجد الأقصى هو بناء يعقوب وهو ابن إسحاق بن إبراهيم و"ربما من بناء سليمان"، فيكون يعقوب قد اكتسب صفة البناء من جده الخليل(ع)، واقتفى أثره في تشييد بيوت الله تعالى.


ويقول الشيخ مغنية في تفسير آية (إن أول بيت وضع للناس)، لا دلالة فيه أنه أول بيت وجد على الأرض، بل هو ظاهر في أنه أول بيت وضع للطاعات والعبادات، لأن الناس، كل الناس شركاء فيه، وبديهة أن الناس جميعاً لا يشتركون في بيت واحد إلا إذا كان موضوعاً لجهة عامة، كالعبادة والطاعة، أما سائر البيوت فكل بيت منها يختص ببعض الناس دون بعض.


ويخلص السيد فضل الله إلى نتيجة هي أن الأنبياء السابقين مثل نوح لم يبنوا بيوتاً للعبادة، لأن القرآن لم يشر إلى ذلك ولم ينقل ذلك بطريقة مفصلة في التاريخ.


وربما كان المراد بأنه أول بيت للعبادة، المعنى الشمولي الذي أراده الله للناس جميعاً، فهو البيت العالمي للعبادة، أما البيوت التي كانت قبله ـ لو كانت هناك بيوت للعبادة قبله ـ فهي بيوت محلية خاصة بالمجتمع الذي يعيش حولها. [السيد فضل الله، تفسير من وحي القرآن، ج:6، ص:161].


التوسعات في بناء الكعبة
ولم يلبث أن تصدّع البنيان وانهدم، فقامت جرهم بإصلاح ما هدم منه وأقامت بين الكعبة وبين السيل جداراً، وفي رواية أخرى هدمه السيل وأعادته جرهم على بناء إبراهيم(ع).


أما في ما يخص قريش، فكان قصي بن كلاب هو أول من جدّد بناء الكعبة بعد إبراهيم(ع)، وبقي الأمر كذلك حتى قامت قريش بتجديد بنائها، وكان رسول الله(ص) يومذاك قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وقد ذكر علماء السيرة لذلك أسباباً، أهمها:


1 ـ أن سيلاً أتى من فوق الروم الذي بأعلى مكة فأضرّ بالبيت الحرام.


2 ـ أن امرأة أجمرت الكعبة فطارت شرارة في كسائها فأحرقتها.


3 ـ أن الكعبة كانت غير مسقوفة فأرادوا رفعها وتسقيفها.


ومهما يكن من أمر، فإن الرسول(ص) قد شارك في هذا التجديد والبناء، حيث كانت قبائل قريش كلها قد أجمعت على المشاركة في شرف بناء الكعبة، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا في من يحظى بهذا الشرف العظيم حتى تحزبوا وأعدوا للقتال، وكادت الحرب أن تقع لولا أن أشار الوليد بن المغيرة إلى الاحتكام لأول داخل باب هذا المسجد، فكان أول داخل الرسول(ص)، ولما رأوه قالوا: هذا الأمين رضيناه.. هذا محمد..


فأشار(ص) عليهم بإحضار ثوب وأخذ الحجر ووضعه فيه بيده، وطلب من كل قبيلة أن تأخذ بناحية من الثوب ويرفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا موضعه، وضعه(ص) بيده الشريفة ثم بنى عليه. وهكذا حلّت كلمة الوفاق محل الشقاق بتدخل النبي(ص).


وجدّد بناء البيت عبد الله بن الزبير بعد أن احترق زمن يزيد بن معاوية، وجاءت عمارته لها في غاية البهاء والجمال كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملتصقتان بالأرض شرقاً وغرباً، يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر، فلما قتل الحجاج ابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان وهو الخليفة يومئذ فيما صنعه ابن الزبير، فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه.


وفي زمن المهدي ـ أو ابنه المنصور ـ العباسي، حاول إعادة بنائها كما كان عليها الحال في عهد ابن الزبير، ولكن الذي منعه من ذلك الخشية من أن يتخذها الملوك ملعبة.


وكان آخر بناء للكعبة في عهد الملك مراد خان في عام 1039هـ بعد حصول سيل عظيم داخل المسجد الحرام، وملأ غالبه، فتصدع البنيان، وأعاد المسلمون البنيان كما كان، وهذه العمارة الأخيرة للكعبة المشرفة، ولا تزال على وضعها حتى وقتنا الحاضر، حيث تقوم السلطات السعودية ببعض التوسعات في المناطق المجاورة.


مكـة المكرمـة (الأسماء)
وللمكانة العظيمة للبيت ولكونه من أشرف البقاع؛ وتداخله مع مكة، فقد ورد إسم مكة في القرآن الكريم بصيغ مختلفة:


البلد: {لا أقسم بهذا البلد* وأنت حلّ بهذا البلد} (البلد:1 ـ 2).


البلد الأمين: {وهذا البلد الأمين} (التين:3).


البلدة: {إنما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة} (النمل:91).


بكة: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين} (آل عمران:96)؟


مكة : {ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} (الفتح:24).


القرية: {ضرب الله مثلاً قرية} (النحل:112).


المسجد الحرام:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} (الإسراء:1).


المعـاد: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد} (القصص:85).


أم القرى: {لتنذر أمر القرى ومن حولها} (الشورى:7).


مخرج صدق: {وقل ربّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} (الإسراء:80).


وغير ذلك من الأسماء، كالباسة، وبساق، وبرة ، الرأس، سلام، العذراء، المقدسة، سبوحة، صلاح، طيبة، العرش، العريش، فاران، القادس، القادسة، قرية الحمى، قرية النمل، كوتي، نقرة الغراب، المكتان، نادر، الوادي، أم راحم، أم الرحم، أم الرحمات، أم روح، أم زحم، أم صبيح، أم كوتي، وغير ذلك.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع