شارك هذا الموضوع

كان في السجن يا ماكان (1) - جاءوا مع الفجر

سهدت العيون وتوسدت الأجفان توائمها واستقرت بي الأحلام إلى حيث التحليق في آفاق العبور في روضة البقيع الوادعة .أخذتني لذة المنام شيئاً ما ، شيئاً ما لم يطل حتى أرقت سمعي قعقعة أحذية قاسية تعبر الزقاق المجاور لمنزلنا . أستيقظت أفرك جفني بأصابع مازالت متخدرة بسكرة المنام ، خفضت أناملي ورفعت جسمي من فراشي معطياً عيني جهة الباب متحفزاً للإمساك بمقبض الباب .


خرجت في الظلام الداجي متسللاً للمطبخ المجاور لحجرتي ، دون أن أشعل الضوء حملت جسدي حملاً متأنياً كي لاتصدر من خطواتي أية حركة تنم عن وجود متحرك ، توجهت للنافذة الخشبية المطلة على الشارع الخارجي ، كانت النافذة من النوع الخشبي القديم ، كنا نسميها ( دريشة ) تتكون من خشب يتيح للضوء والهواء فرصة التسلل للداخل ولايمكن الناظر من بعث نظراته لما خلف ( الدريشة ) .


هذا في الجانب السفلي من النافذة حيث يقف صفان من الخشب المائل ، أما القسم العلوي من النافذة فتنفرج منه بوابتان صغيرتان ليبدو أمامهما صف من الأعمدة الحديدية المطلية . كانت النافذة مغلقة ومن خلال البوابتين المقفلتين تسلل شعاع هادئ ينبأ عن وجود ضوء خلفهما ، دسست عيني في ثقب صغير في البوابة اليمنى من النافذة مستجلياً خبر ما يجري في الخارج .


كلما قربت جسدي ورفعت رجلي لأتمكن من تسديد عيني في الثقب أتسع بؤبوآهما ، أخيراً لاحت لي بعض الحركات السريعة في الزقاق ، حشد من رجال الأمن المدجج بأسلحة مقاومة الشغب ، لم تتمكن عيني من رصد وجه ما ، فهناك حركة دائبة في الزقاق ، كأنهم ينتظرون أحد ما أو يحرسون أحدا آخر .


شعرت برجلين تتسحبان وتدخلان المطبخ ، بلى هذا أخي ( محمد ) ينفتل من ( المجلس ) خاطبني هامساً : إنهم يملأون الشارع بالعشرات ولقد رصدتهم من خلال نافذة المجلس الحديدية ، لقد لاحظوني ونادوني طالبين مني فتح الباب لهم . كانوا يعتقدون أني سأخافهم وأبادر مهرولاً لفتح الباب ، وكأني لم أسمع صراخهم علي ..... أفتح الباب ........ أعطيتهم آذاناً صماء ووليت مدبراً عن النافذة . قلت في نفسي : إتعبوا على أنفسكم ، كنت متيقناً من عدم إستطاعتهم فتح الباب ، باب البيت حديد محكم الإقفال .


سمعت صوت الرفسات المتتالية على الباب وأصوات صرخاتهم المتعالية في الخارج . أعتقدت للحظة ما أنهم سيملون من المحاولة ويعودون منصرفين ، أخذت نفسي ودخلت إلى حجرتي متناسياً ما يدور خلفي من عويل الأحذية وأنين الباب .


طرحت جسدي فوق السرير وأقفلت جفناً على الآخر وأسترسلت في الضغط على أفكاري للولوج إلى عالم السبات . غفت عيني لدقائق وجيزة وأستلبني قرع خفيف على باب حجرتي من بين يدي ملكوت النوم .


هببت واقفاً أبحث عن سبب يدعو من يطرق على الباب في هذه اللحظات ، بالطبع سيكون الطارق من أهل البيت مادامت الطرقات حنونة الوقع !


هل يكون الصخب الدائر في الزقاق الخارجي أيقظهم وشردهم من أسرتهم؟! ... لا أعتقد هذا فتلك حالة أعتدناها مع تتالي الأحداث في البلد ، ولطالما أدرنا لها ظهراً وغرقنا في غطيط لا ينهيه إلا أذان الفجر .


أدرت المفتاح ببطء يخامره هاجس الإستغراب ، مكنت يدي من المقبض وأنزلته بسكينه ..... أخذت الباب إلى حيث بدى الضياء يقتحم الغرفة من بين الباب والإطار .


فتحت الباب على آخره ، بدى وجه أبي مفزوعاً ، رفع عينيه الممتلئتين بالدهشه في وجهي وقال : يبغونك ... ( يطلبونك ) . كما قالت السيدة زينب (ع) عندما لمست التأكيد على قتل أخوتها وسبيها قالت : أيقنت أن البلاء قد وقع ، أنا كذلك أدركت أن الرحيل قد حان ، كانت تكفي تلك الكلمة ( يبغونك ) لتترجم كل الإجابات المتيقظة للتعبير عن غربة أسئلة حائرة . تلك الكلمة كانت أوضح من الصبح المسفر .


كان الوقت محملاً بالبرودة المشرعة على فصل الشتاء وكنت لابساً بيجامة من الصوف تلبس تحت اللباس عادة ( الدكاك ).


أدرت وجهي للخلف ، وألتقت عيناي بعيني زوجتي الحائرة ، قرأت في بحر عينيها قلقاً لايجففه إلا عنفوان الصبر أعدت رأسي للأمام أحمل معه نية الظهور من الحجرة ... هبطت من العتبة المحاذية لباب حجرتي وعطفت عيني لساحة المنزل الضيقة فما راعني إلا اكتظاظها برجال الأمن .... جيش بأكمله يتخم المنزل ، أسلحة مستنفرة للهجوم بأقل من ربع أمر ! أكل هذه الجنود والأسلحة لإعتقال أعزل ؟! بلى هم هكذا دائماً لايثقون في مقدرتهم علينا .... أخيراً إستطعت أن أميز إخوتي الثلاثة مقيدين في فناء المنزل .


حين توسطت ساحة المنزل بادرني أحدهم وكان ملثماً وقال : أنت عبدالشهيد .... أجبته بسكينه : نعم ...... أنطلقت يده ذاهبة عائدة بإشارة إصبع قال : خذوه ، ذكرتني كلمته بالآية الكريمة ( خذوه فغلوه ) وما أبرد أخذهم وغلهم قياساً لأخذ الجبار وغله .


إنقضت يد أحدهم على يدي تقيدني بسلك من البلاستيك ، أحكم إقفاله وشده شداً وثيقا .... كلما ضيقت دائرة السلك لايمكنك توسيعها . نهاية الأمر لايمكنك الفكاك من السلك إلا بقطعه .


حين استوثقوا بوقوعي تحت قبضتهم هرع ثلاثة أو أكثر منهم لداخل الحجرة يجرون بعضاً من الروتين البارد في البحث عما يعتبرونه دليل إدانة لأسيرهم . ولكم كنت قلقاً على طفلين صغيرين نائمين داخل الحجرة ، سيدخلون الآن الحجرة مخلفين قلوبهم المتحجرة الجامدة في قبضة أسيادهم ... سيدخلون بأحذيتهم يدنسون مواضع صلاتنا غير مكترثين لحجم إزعاجهم ودناءة قسوتهم .


في الواقع هم لم يكونوا يريدون غنيمة أكبر مني أجروا نظرات خاطفة على مكتبتي وبعض أوراق بعثروها وسرعان ما قفلوا خارجين من الحجرة ... عندما ظفرت هجمتهم الغجرية بي ....أمرهم سيدهم المتقنع بالغترة الحمراء بإطلاق سراح إخوتي الثلاثة .


أمي وقفت تفتح أبواب السماء بالدعاء عليهم وتمطرهم بسجيل دعواتها ، وكأنهم بلاقلوب .... لهم آذان لايسمعون بها سوى أوامر سيدهم المحيطين به .


أبي ولكثرة ماعلمته الستون عاماً يرجع عينيه بين حشودهم مسترجعاً ومحوقلاً ، وماذا ينتظر من جنود يتلفظون بالعربية المكسرة المعوجه ؟!


أما صبره فقد إكتسب المراس على مثل هذه المشاهد من كثرة مامر بها ومرت به وأضطر للتعود عليها ، كثيراً ما استدعيت سابقاً للقسم الخاص ... بات قلبه منيعاً تجاه الحدث الأخير .


توجه أحدهم إلى قطعة قماش ملقاة في فناء المنزل ، قطع منها جزءاً طويلا .. شدها فوق عيني بلا رأفة ... عصب عيني بإحكام ، هكذا يريدون الكل أن يمشي معصوب العينين .... لايتقن طريقا ولايرى ولايبصر ماسيواجه .


قبض العسكري على زندي الأيسروإقتادني بينما أمي تتبعه بصوتها : أين ستأخذون ولدي ؟! ... أجابها رئيسهم بلغة الواثق : غداً نعيده إليكم .... لم يكن قوله كذبا فهو في الغد يعيد لهم أملاً في الرجوع ويبقى الرجاء متوقداً في ذاكرتهم .... لم يكن قوله كذباً بإعتقاده فهو يمارس العبارة ذاتها في اليوم مئة مرة على الأقل ، هو يكذب على مرؤسه ومرؤسه يكذب على سيده وهكذا هم في أغلب حالاتهم يقضون ساعاتهم بمعاقرة الكذب على أنفسهم وعلى ضحاياهم .... فمن يوثق في وعودهم يسقونه سراباً في الأحلام .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع