شارك هذا الموضوع

الديمقراطية التي تجر!

للمرصحيفة الوسطة الأولى في تاريخ الديمقراطية في العالم يتعطل قانون من أهم قوانين الديمقراطية، وهو الأخذ برأي الغالبية. الغالبية هنا تتحول إلى غالبية أمية جاهلة، في بلد يتمتع بنسبة تعليم تصل إلى 88 في المئة، وهي من أعلى نسب التعليم في الخليج والمنطقة العربية. والشعب الذي ما فتئ يناضل خمسين عاما من أجل إحقاق حقوقه السياسية والمدنية، والمشاركة في صنع القرار وفرض دولة القانون ونشر العدالة الاجتماعية، يتحول إلى شعب متخلف ينقصه الوعي!


وللمرة الأولى في تاريخ الديمقراطية تصدر "أوامر" واضحة ومباشرة للتقليل عمدا من أرقام المشاركين في مسيرة شعبية ذات أهداف قد نتفق أو نختلف معها "لا يهم"، فيتم حذف 95 في المئة مما كتبه بعض الصحافيين في تقاريرهم في بعض الصحف، والخمسة في المئة الباقية تم تحريفها، مع "إضافات غريبة لم أرها إلا بعد النشر" كما يقول الصحافي الزميل بالحرف الواحد.
صحافي آخر، في مثل هذه الاجواء الموجهة بـ "الروموت كونترول"، يقول: "انني لا أستطيع أن أكتب عن المسيرة كما حدثت في الواقع، فهناك ضغط شديد من المسئولين في العمل". حتى البيان الختامي منعت إحدى الصحف من نشره بقرار "من فوق"! ثم يطيب لهم الحديث عن الديمقراطية وكأنها "شيشة" بالتفاح والمعسل!


هذه المرة، لم ترسل طائرة هيلوكبتر إلى "السماء السابعة"، لتصوير المسيرة في خط أسود صغير مثل قافلة النمل، ولتعمم الصورة "السماوية" على الصحف المحلية على عجل، للإيحاء بأنها مجرد "أربعة آلاف شخص جاهل ومتخلف وغبي"، لأنه لن يصدق الناس هذه السماجة الفاقعة، عندما يجلس ثمانون ألف مواطن في المساء ليتصفحوا المنتديات في فضاءاتها المفتوحة، فيرون صور الآلاف المؤلفة التي غطت ما بين مجمع البحرين ودوار اللؤلؤة.


في ديمقراطية آخر الزمان، يخرج حتى عنوان التقرير الإخباري عن سلطة الصحافي الذي عاش الحدث وكتب من الميدان، ويتحول إلى لعبة بأيدي "المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال". وفي بلاط هؤلاء، تتدخل الايديولوجيا، ومواقف العداء المسبقة، والفوبيا المذهبية والعقد النفسية، وتصفية الحسابات الشخصية والفكرية، كلها تختلط لتخرج للقارئ "خبيصة"، وليس عنوانا لائقا بالصفحة الأولى. وفي هذا الجو الذي تتدنى فيه الصدقية إلى أدنى درجاتها، تصبح العناوين أحوج ما تكون إلى المهنية والموضوعية واحترام الذات: "المؤيدون على دراية والمعارضون لا يدرون". وهذا بعض ما يفرزه الانفعال العصبي من عناوين ضعيفة ومن النوع الركيك، الذي يرفض أي صحافي مبتدئ وضع اسمه تحتها، ولكنها اختيارات الكبار!


أما الشخص "الكبير" "الرأسمالي" فيغيب عنه الحس المهني تماما حين يحمي الوطيس، فيعمم توصيات وأوامر على الصحافيين من نوع "استخدموا تعبير: مسيرة هزيلة"، ويسهل على القارئ اصطياده متسللا كالسارق إلى صفحة التغطيات الخبرية، فلا يعود يقرأ خبرا وانما افتتاحية من النوع المأزوم نفسيا: "أظهر المشاركون في الاعتصام المؤيد للقانون دراية تامة بأهمية إصداره، بينما كانت الغالبية العظمى "بحسب آخر استطلاع أجراه معهد جالوب!" من المشاركين في المسيرة المناهضة فإن أعدادا كبيرة "لا تدري""! ونحن أيضا "لا ندري"... كيف تخرج المانشيتات مبتورة كذيل الفأر المرعوب!


قلنا ديمقراطية مبتدئة، ونفهم جيدا أن كل الأطراف في مرحلة سنة ثالثة ديمقراطية، و"نبلع" مسألة تقديم أنفسنا للآخرين وللعالم أجمع، كدولة حديثة نموذجية ديمقراطيا... ولكن تغطياتنا الصحافية لمسيرتي الأربعاء "المؤيدة والمعارضة" أثبتت أننا ما زلنا نعيش أغلال الماضي الديكتاتوري ككتاب ومثقفين وصحف، فلا يتسع صدرنا للحوار، ولا نتيح المجال للرأي الآخر، فتلجأ الشخصيات المعارضة إلى صحف خليجية لتعبر عن نفسها، وإذا طبقنا الديمقراطية ومالت الكفة إلى الطرف الآخر، أعلنا الانقلاب على طريقة جنرالات الجزائر، لتبدأ طاحونة السفه والبذاءة: "بلغت الحملة أوج طيشها في نبش ثقافة الجهل والتخلف"، وانه "تطرف إرهابي إسلامي ضد الأسرة"، و"هناك أهداف مشبوهة لهؤلاء غير الهدف المعلن"... لنعود وندخل في نفق نظرية المؤامرة حيث تسيطر عقلية المخابرات والجواسيس والدساسين!


إذا كنا ديمقراطيين حقا، علينا أن نقبل بما تأتي به رياح الديمقراطية، من دون تعال أو ادعاء فارغ بالحكمة والنضال. وإذا كنا دعاة حقوق، علينا أن نسلم للآخرين بحقوقهم واختياراتهم في الحياة من دون مصادرة لرأيهم حتى لو كانوا خمسة مواطنين وليس خمسين ألفا، ومن دون حملات اضطهاد إعلامية، أو تزوير أرقام وتزييف حقائق على طريقة تصوير النمل من السماء! 


صحيفة الوسط
11 نوفمبر 2005م

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع