شارك هذا الموضوع

يهود إيران .. بين دولة شوشندخت ومشروع هرتزل

الأكيد هو أن ملف الأقلّية اليهودية في إيران لا يحظى بأي اهتمام سياسي أو إعلامي أو حتى ديني يُذكر بالرغم من أن تلك الأقليّة هي أكبر كتلة بشرية " يهودية " في منطقة الشرق الأوسط بعد الكيان الصهيوني، بل إننا في هذا المطلب لا نتجاوز إذا ما قلنا بأن هذا التأجيل الإرادي لأوضاع اليهود في إيران تاريخاً وحاضراً يُشكل مطلباً مهمّاً للنظام الإسلامي الحاكم في طهران رغبة منه في مجانبة أي صِدام مع الغرب حول ذلك الملف، مع إدراكه العميق بأهمية تلك الورقة في المنعطفات السياسية والاقتصادية، وهي الرغبة ذاتها التي يحرص عليها الكيان الصهيوني أيضاً لاقتناعه بأن أي تحريك لذلك الملف سيعني مزيداً من الضغوط على الأقلّية اليهودية في إيران والتي لا يتجاوز تعدادها الثلاثين ألف شخص، وبالتالي إنهاء ذلك الوجود التاريخي الذي يمتد إلى أكثر من 2100 عام، خصوصاً وأن العداء لإيراني الصهيوني يفرض على تل أبيب أن تحافظ على وجود تلك الكتلة كاحتياط بشري يخدم أي صراع قادم حسب منظورها، مع تزايد الضغوط الدولية على إيران، لذا فإن تل أبيب لم تطالب في السنوات الأخيرة بهجرة يهودية إيرانية إليها، بعد النزوح الواسع ليهود إيران بين عامي 1979 و1986 والتي فاقت الخمسين ألف مهاجر .


أرض كورش


ترتبط المقدسات اليهودية بالأرض الإيرانية وبالتالي الوجود اليهودي فيها بدفن النبي‌ حبقوق‌ في‌ تويسركان بعد أن عاش في همدان نفياً قسرياً، وأيضاً بدفن بنيامين ابن يعقوب (ع)، وقد تأسسّت الأفكار اليهودية المتماهية مع قداسة الأرض الفارسية بالعلامات التاريخية والسوسيولوجية في الأسفار العزرائية والنحميائية، ومع مُسَيّا اليهود الملك كورش الذي فتح أرض بابل وحرّر بني إسرائيل من ظلم عظيم . وإبّان الحكم الصفوي وبالتحديد إبّان حكم الشاه عباس تعرض اليهود لحملة إقصاء وتهميش غير مسبوقة، فأرغموا على اعتناق الإسلام، وتمّ حرق كنائسهم، ومُنعوا من العمل بالتجارة ومن حمل السلاح ومن دخول المدن بعد الغروب، ولم يعد يُعترف بشهادتهم، بل ذهب الأمر بالحكّام الصفويين لأن يمنعوا اليهودي من الخروج في الأيام المُمطرة لكي لا تتنجّس الأرض !!


فهاجر عدد كبير منهم إلى الدولة العثمانية التي كانت في عداء مفتوح مع الدولة الصفوية، لكن هذه الحملة خفت بعد انهيار حكم الصفويين . وبعد قيام ثورة المشروطة، سمح دستور 1906 لليهود في إيران بالترشيح وعضوية البرلمان، ثم زادت مساحة الحرية المُعطاة لهم بعد سقوط حكم رضا شاه ومجيء ابنه إلى السلطة بواسطة قوات الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور، فنشطت الوكالة الصهيونية في إيران، وتقلّدت بعض الشخصيات اليهودية مناصب مُهمّة في الدولة وفي بلاط الشاه محمد رضا بهلوي وذلك بتزكية مُطلقة من التيار البهائي الذي كان مُتنفذاً في البلاط الشاهنشاهي، وبدأ اليهود يتحكمون في الحركة التجارية والاحتكارية لإيران، وعندما أسرف الشاه في علاقته مع الكيان الصهيوني وخصوصاً في مجال النفط كان لليهود الإيرانيين الدور الكبير في تنشيط سمسرة نقل المنتجات النفطية الإيرانية إلى أوربا والولايات المتحدة الأمريكية عبر مينائي حيفا وعكا المُطلين على فضاء البحر المتوسط، وقد بلغ اعتماد تل أبيب على النفط الإيراني في مرحلة من المراحل إلـى 90 %، وفي المقابل بلغت قيمة البضائع الصهيونية المُحمّلة إلى طهران أيام الحكم البهلوي بأكثر من ثلاثمائة مليون دولار .


وبعد انتصار الثورة الإسلامية وقيام الحكم الثوري ساءت العلاقة بين يهود إيران والنظام الجديد الذي دخل في عداء مُستحكم مع الكيان الصهيوني بصراع مفتوح معه عبر الجبهة اللبنانية والفسطينية، وقد انعكس ذلك بقوة على أوضاع اليهود الإيرانيين فهاجر أكثر من خمسين ألفاً منهم إلى تل أبيب وإلى أوربا وأمريكا، لكن أوضاعهم عادت فاستقرت إلى حدّ ما بعد الإعلان عن الدستور الإسلامي الجديد الذي اعترف بهم كأقلية دينية، سُمِح لها بالتمثيل النيابي عبر مقعد واحد وبممارسة دينية وطقوسية أفضل وتشكيل مجتمع مدني ومؤسساتي تنتظم فيه الأقلية اليهودية الموجودة في طهران وإصفهان وشيراز ويزد ومشهد وهمدان وهي المدن التي يتركز فيها الحضور اليهودي . لكن العلاقة بقيت حذرة ومحكومة بالأجواء المتوترة في المنطقة وبالسياسة المُؤدلجة للجمهورية الإسلامية تجاه الكيان الصهويني، لذا فقد حرص يهود إيران على إبعاد أنفسهم ما أمكن عن سياسات تل أبيب ومواقفها المُعلنة تجاه القضايا الإقليمية والدولية، رغم أن الحكم الجديد سمح لهم بزيارة فلسطين المحتلة عبر تركيا بدون موانع .


اليهود ومحيطهم الثوري


استفاد الحكم الإسلامي الجديد بعد الثورة من اليهود الإيرانيين كورقة نوعية رابحة يُحرّكها في أزماته مع الغرب، ففي حقبة الثمانينيات وإبّان الحرب العراقية الإيرانية وما تلا ذلك من فرض الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لحصار اقتصادي خانق على طهران، وظّف يهود إيران علاقتهم التجارية وحتى العائلية مع أرباب المال اليهودية الناشطة في العالم من أجل كسر ذلك الحصار، لحصول الحكومة الإيرانية على السلاح والأجهزة الدقيقة ومنتجات الغذاء الضرورية، وقد كان ذلك باباً مهمّاً للحكومة الإيرانية التي كانت تعيش أزمات سياسية واقتصادية حادة، كما أنهم "أي يهود إيران " وبالرغم من وجود الخيط الرفيع بينهم وبين يهود العالم الذي يُقرّون في أغلبهم بدويلة الكيان الصهيوني إلاّ أنهم حافظوا على استقلاليتهم من الناحية الوطنية وحتى الأيدلوجية المُرتبطة بتاريخهم التوراتي على الأراضي الإيرانية، وقد أفاد ذلك طهران كثيراً من ناحية كسر احتكار القضية اليهودية وإذابتها في المشروع الصهيوني من قبل تل أبيب، لذا فإن طهران وفي تلك المعادلة دفعت باتجاه تحييد الأقلية اليهودية أكثر وتطويعها ما أمكن وذلك عبر السماح لها بممارسة سياسية ودينية في المجتمع الإيراني، فمُثّلوا في البرلمان بنائب واحد، وسُمح لهم بمتنفّس إعلامي عبر صحيفة تموز، وبلغ عدد المعابد اليهودية في إيران أكثر من ثمانين كنيساً، ولديهم العديد من المراكز الاجتماعية والصحية، بل إن إيران تضم واحداً من أربعة مستشفيات يهودية في العالم ممهورة بطابع ديني صرف، وفي موضوع الحرية الشخصية لم يُلزم قانون توحيد الزي النسائي الإيراني المصادق عليه من مجلس الشورى الإسلامي الأقليات الدينية بما فيها اليهود، كما أفاد بذلك عضو الأكثرية المحافظة عماد أفروغ، كما سُمح لهم بهامش من الحرية للحديث عن القضايا الداخلية والإقليمية والدولية إلى الحد الذي وصف فيه زعيم الطائفة اليهودية في إيران هارون ياشائي الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بالجهل والتحيز السياسي، بعد إنكاره محرقة الهولوكوست، وكذا الحال بالنسبة للأب الروحي ليهود إيران الحاخام يديديا شوفط وممثلهم في المجلس النيابي موريس معتمد .


وقد أعلنت الحكومة الإيرانية مؤخراً عن تسييرها خدمة إذاعية باللغة العبرية مدتها نصف ساعة يومياً، تحت مُسمّى " صوت داود " تستهدف اليهود داخل الكيان الصهيوني، بل إن الأحكام التي صدرت من محكمة شيراز ضد خليّة التجسس اليهودية في إيران قد خُفّفت إلى سنتين وست سنوات بعد أن كانت الأحكام تتحدث عن ثلاثة عشر عاماً، مع احتساب المدد التي قضاها المحكومون في السجن والتوقيف منذ اعتقالهم في عام 1999 . اليهود الإيرانيين بدورهم أيضاً تناغموا إلى حدٍ ما مع الواقع الجديد، والتوجهات السياسية للحكم الإسلامي القائم فأدانوا الحركة الصهيونية, وحركات التحرر الفلسطينية، كما أنهم أيّدوا المشروع النووي الإيراني، بل إن الموائمة الحذرة التي تقوم بها الأقلية اليهودية في الداخل الإيراني تُعبّر عن سياسة مدروسة قادرة على التعاطي مع متطلبات الداخل والخارج، والأمر نفسه ينطبق على الحكومة الإيرانية وسياستها الخارجية .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع