واصل سماحة الشيخ حسين البلادي سلسلة محاضراته الرمضانية في حسينية الحاج أحمد بن خميس، وذلك في ليلة السابع و العشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1446 هـ. ابتدأ سماحته المحاضرة بالآية المباركة "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا" (الأحزاب: 33). ثم تطرق إلى الحديث عن مفهوم التشيّع ومراحله التاريخية، موضحًا أنه مرَّ بثلاث مراحل أساسية: أولًا : التشيّع الاعتقادي ، ثانيًا : التشيّع السياسي ، ثالثًا : التشيّع الثقافي والمعرفي .
أولًا ، التشيّع الاعتقادي : هو المرحلة الأولى التي بدأت منذ فجر الإسلام، فلم يكن التشيّع مجرّد ظاهرة نشأت في عهد الإمام الصادق (ع)، بل هو جزء أصيل من الرسالة النبوية. فقد حرص النبي (ص) على تأسيس جماعة تؤمن بأن الإمام علي (ع) هو الخليفة الشرعي من بعده، ولأجل ذلك لم يشهد الإسلام موقفًا أعظم من خطبة غدير خم، حيث أعلن النبي (ص) في حشدٍ غفير من المسلمين قائلاً: "أيها الناس، إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. ألا فمن كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار".
وقد تشكلت منذ ذلك الوقت جماعة تعتقد بأحقية الإمام علي (ع) في الخلافة بلا فصل، وكان من أوائل الصحابة الذين تبنوا هذا الاعتقاد: عمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وسلمان المحمدي، وأبوذر الغفاري. هؤلاء الصحابة وقفوا مواقف مشرّفة مع النبي (ص) وأهل بيته، وأظهروا ولاءهم لعلي (ع) في أشد الظروف. وأشار الشيخ إلى الفرق بين الإسلام والإيمان، حيث قال: ليس كل مسلم مؤمنًا، بل كل مؤمن هو مسلم، مستدلًا بقوله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا" (الأحزاب: 56). وأضاف موضحًا أن التسليم هنا يعني الخضوع التام لكل ما جاء به النبي (ص)، إذ قال الله تعالى في آية أخرى: "يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس" (المائدة: 67). وقد بيّن العلماء أن الإيمان لا يكتمل إلا بالإيمان بمحمد (ص) وآل بيته الطاهرين. ومن الأمثلة على ذلك، ما قاله الإمام علي (ع) لصاحبه حجر بن عدي عندما أخبره بما سيحدث له لاحقًا:"يا حجر، كيف بك إذا دُعيت إلى البراءة مني فرفضت ذلك، فقُتلت وصُلبت؟" وكذلك موقف الصحابي ميثم التمار عندما أخبره الإمام علي (ع) بمصيره، قائلاً له: "يا ميثم، إنك ستُصلب وتُقتل عند النخلة التي تأخذ منها تمرك، فاصبر على ذلك، فإنك من أهل الجنة".
ثانيًا : التشيّع السياسي ، بدأت هذه المرحلة مع الإمام الحسين (ع)، حيث حمل مسؤولية مواجهة الظلم والاستبداد. فقد أراد تربية الأمة على قول كلمة الحق في وجه الطغاة، ورفض الرضوخ لحكم يزيد بن معاوية. وقد تجلّت أولى بوادر المعارضة عندما طُلب من الإمام الحسين (ع) مبايعة يزيد سرًا، فرفض ذلك وقال في مجلس الوليد بن عتبة: "أيها الأمير، إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ويزيد رجل شارب للخمر، قاتل للنفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله". وحين رأى أن بني أمية يريدون أخذ البيعة منه بالقوة، قال مخاطبًا بني هاشم وأصحابه: "إني لا أئتمن الرجل، وإذا سمعتم صوتي قد عُلِي، فادخلوا عليَّ بالسيوف". وهكذا بدأ التيار المعارض لبني أمية، حيث جسّد الإمام الحسين (ع) مبدأ رفض الطغيان، وضحى بنفسه وأهل بيته من أجل ترسيخ هذا النهج.
ثالثُا ، التشيّع الثقافي والمعرفي : بدأت هذه المرحلة في عهد الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، حيث ركّزا على نشر المعرفة وتأسيس مدرسة فكرية ضخمة في مسجد النبي (ص)، حتى سار بحديثهما الركبان، وأصبحا مرجعية علمية لكل من طلب الحكمة والمعرفة. وقد يسأل البعض: لماذا اختلفت أساليب الأئمة (ع) في إدارة المرحلة رغم أن هدفهم واحد؟ والجواب أن الأئمة (ع) يتحركون وفق أوامر إلهية، وهذا ما تؤكده الروايات. فقد ورد أن أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) جاءه يطلب منه الإذن للثورة، فقال له الإمام (ع): "ادخل في التنور". فتردد الرجل، لكن عندما دخل شخص آخر من أصحاب الإمام في التنور دون تردد، نظر الإمام إلى صاحبه الأول وقال له: "لو أن عندي عشرة مثل هذا، لما تأخرت عن الثورة". وهذا يدل على أن الأئمة (ع) كانوا يتحركون بحكمة وفق الظروف والمعطيات، ولم تكن تحركاتهم خاضعة للعواطف أو ردود الأفعال العشوائية، بل كانت ضمن تخطيط إلهي محكم.
البلادي ليلة السابع و العشرين من شهر رمضان 1446هـ/ 2025م




































التعليقات (0)