شارك هذا الموضوع

معالم الحياة السياسية للإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وجهاده

•• المقدمة
تمثل تجربة الحياة السياسية للإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) وجهاده لتأدية دوره الرسالي في قيادة الأمة الإسلامية ومواجهة حكومات الجور والاستبداد اللاشرعية المعاصرة له، إحدى التجارب السياسية الزاخرة بالقيم والدلالات للأئمة المعصومين (عليهم السلام) التي انطوت كل منها على لمسات وخصائص مميزة أملتها طبيعة الظروف والتبدلات السياسية والفكرية والاجتماعية التي عاصرها أو عاش خلالها كل أمام، إبان فترة ولايته، فوسعت بذلك أشكال قيادته وجهاده، وتجربته بميسمها.


إن التجربة السياسية في حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) هي جزء لا يتجزأ من إمامته وحياته العامة (الدينية والسياسية) والتي لا يمكن فصلها قسراً بأي حال، عن جوانبها الأخرى، إلا إذا سلمنا بالمبدأ الخاطئ الذي يفصل اعتباطا، الدين عن السياسة، وهذا يعني أن حياة الإمام الكاظم (عليه السلام)، وكما حياة الأئمة الآخرين، تنتظم في وحدة عضوية واحدة، رغم تنوع جوانبها، حيث يستنبط كل جانب في تعبيراته الخاصة، والجوانب الأخرى.


إن عقيدة المسلمين الشيعة الإمامية بالإمامة والإمام المعصوم وبتنوع واجباته وتعددها، تؤكد على تبوء الجانب السياسي موقعا حاسما، في حياة الأئمة. فالإمامة، حسب اعتقادهم، هي استمرار للنبوة، وأن للإمام ما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الولاية العامة على الناس والتي تعني حكماً، إن الإمام المعصوم يؤدي بولايته دورا دينيا-سياسياً في آن واحد، كما أدّاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).


لقد وصف الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) الإمامة والإمام ومنزلته بقوله: الإمام أسّ الاسلام النامي وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف) وهذا يشير أيضاً بشكل جلي، إلى الدور الديني – السياسي الذي يؤديه الإمام في آن واحد، منذ بداية ولايته العامة.


وفي ضوء ذلك، فإن اختيار الحياة السياسية للإمام الكاظم (عليه السلام) موضوعا للدراسة، يقصد به تسليط الضوء وتركيزه، على جهاد الإمام وكفاحه، من اجل رعاية وحماية شؤون المسلمين، ومقاومة حكام الجور والاستبداد اللاشرعي، لانتزاع موقع الولاية المغتصبة منهم، وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين، أي الإمام الكاظم (عليه السلام) ذاته.


إن دراسة تجربة الحياة السياسية للإمام الكاظم (عليه السلام) وإبراز معالمها وتعبيراتها الرئيسية يستلزم أولا، إطارها العام عبر تحديد موقعها بين تجارب الأئمة الآخرين، وعبر التعرف على السمات الرئيسية للعصر الذي عاش فيه الإمام، وعهدت الإمامة خلاله بالنص إليه.


•• الإطار العام لتجربة الحياة السياسية للإمام الكاظم (عليه السلام)
تندرج تجربة الحياة السياسية للإمام الكاظم (عليه السلام) في إطار التجارب السياسية للأئمة المعصومين، والتي تتكامل كل منها مع الأخرى ضمن هدف استراتيجي واحد، حسب المصطلحات الحديثة غير أن امتلاك كل تجربة من تلك التجارب لخصائص وسمات تتميز بها وتتمايز عن التجارب الأخرى، أدت إلى وقوع الارتباك وأحيانا الخطأ، في تفسير عدد من كتب سير الأئمة، لبعض مواقف الإمام، والمبالغة في إبراز خصوصيتها وتميزها، إلى الحد الذي تبدو وفيه وكأنها متعارضة مع هدف التجارب الأخرى وتكاملها.


إن السؤال الذي ينبغي أن يطرح، في ضوء ذلك، هو: بم وأين تتباين وتختلف فعلاً، تجارب الحياة السياسية للأئمة، ومن بينهما تجربة الإمام الكاظم (عليه السلام)؟ ومن ثم أين تتماهى وتتداخل وأخيراً، أين وكيف تتقاطع وتتكامل، لتصب في مجرى وهدف واحد؟ لقد عالج الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) هذه المسألة معالجة علمية وتاريخية دقيقة يمكن وصفها بأنها إعادة الاعتبار للفهم الصائب لعقيدة الإمام في الإمامة.


وفي معالجة لمسار دور الأئمة وحياتهم، يفترض الشهيد لدراسة ذلك الاستناد إلى نظريتين، نظرة جزئية ونظرة كلية، حيث سنواجه في النظرة الجزئية اختلافا في الحالات وتباينا في السلوك وتناقضاً من الناحية بين الأدوار التي مارسها الأئمة.


أما في النظرية الثانية، فسنجد ونكتشف، كما يقول الصدر، الخصائص العامة والأدوار المشتركة بالأئمة ككل، وسوف تزول كل الخلافات والتناقضات، لأنها تبدو على هذا المستوى مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة، وإنما اختلف التعبير عنها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مر بها كل إمام.


واستناداً إلى النظرة الكلية في دراسته لمسار دور الأئمة يقسم الشهيد الصدر، هذا المسار إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى وتبدأ بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتستمر إلى حياة الإمام الرابع، وفي المرحلة التي تفادى خلالها أهل البيت صدمة الانحراف ومرارتها بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقاموا خلالها بالتحصينات اللازمة قدر الإمكان وبكل العناصر الاساسية للرسالة ضد تلك الصدمة. والمرحلة الثانية وتبدأ شبه بداية مع الإمام الخامس محمد الباقر (عليه السلام) وتستمر إلى حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، وهي المرحلة التي شرع فيها قادة أهل البيت ببناء الكتلة –الجماعة الصالحة من مجموع الأمة التي حصنت بالحد الأدنى من التحصين، والمنضوية تحت لوائهم، والشاعرة بكل الحدود والأبعاد من المفهوم الاسلامي المتبنى من قبلهم. وأما المرحلة الثالثة، فتبدأ مع ولاية الإمام السابع موسى الكاظم (عليه السلام). وهذه المرحلة، كما يقول الشهيد الصدر، لا تحدد بشكل بارز من قبل الأئمة أنفسهم بل يحددها بشكل بارز موقف الحكم المنحرف من الأئمة أنفسهم، بل ذلك لأن الجماعة التي وضعت بذرتها في المرحلة الأولى، نشأت ونمت في ظل المرحلة الثانية، هذه الجماعة غزت العالم الاسلامي الحقيقي، وهذا خلف بشكل رئيس ردود الفعل للخلفاء تجاه الأئمة (عليه السلام) من أيام الإمام الكاظم (عليه السلام).


هذا التحليل التاريخي الذي قدمه الشهيد الصدر لمسار دور الائمة وحياتهم سيصل به إلى استخلاص نتيجة كبيرة الأهمية تقول ان وجود دور مشترك مارسه الأئمة جميعا ليس مجرد افتراض نبحث عن مبرراته التاريخية، وإنما هو مما تفرضه العقيدة نفسها وفكرة الإمامة بالذات لأن الإمامة واحدة في الجميع بمسؤوليتها وشروطها، وان أدوار الأئمة مهما اختلف ادوارها الطارئة بسب الظروف والملابسات فإن الأئمة شكلوا بمجموعهم وحدة مترابطة الأجزاء ليواصل كل جزء من تلك الوحدة الدور للجزء الآخر ويكمله.


وفي ضوء ذلك التحلي ونتيجته، نستطيع أن نمسك بالحلقة المركزية في مسار دور الأئمة وحياتهم، وان نعني من خلال ذلك حدود التباين والاختلاف في التجربة السياسية لكل منهم وخصائصها في اطار تكامل الأدوار ووحدة الهدف المشترك.


أما موقع ودور الإمام الكاظم (عليه السلام) وتجربة حياته السياسية في ذلك المسار لدور الأئمة، فانه يتحدد في كونه جزء لا يتجزأ من ذلك المسار ومكمل للأدوار الأخرى للائمة الذين سبقوه، بل وأيضا في تميز المرحلة التاريخية التي بدأت مع بداية عهد ولايته، عن المرحلتين التاريخيتين السابقتين اللتين تشابه خلالهما، إلى حد كبير، دور الأئمة الستة الذين تولوا الإمامة قبله. وقد اتسمت المرحلة الجديدة التي بدأت مع الإمام الكاظم (عليه السلام) بعدد من الخصائص الرئيسية المميزة التي تأتي في مقدمتها، خاصية توفر إمكانية انتزاع الحكم من الخلفاء العباسيين من جهة، وخاصية مبادرة أولئك الخلفاء من جهة ثانية – وبسبب خشيتهم من تحقق تلك الإمكانية – إلى توسع نطاق حملات القمع والاضطهاد وضد كافة المسلمين المعارضين لسلطاتهم بوجه عام، وضد المسلمين الشيعة وسائر العلويين من آل بيت الرسول، وفي مقدمتهم الإمام الكاظم ذاته، بوجه خاص.


 •• السمات الرئيسية لأوضاع الدولة والمجتمع الإسلامي


خلال عصر الكاظم (عليه السلام)
شهدت المرحلة التاريخية التي ولد وعاش فيها الإمام الكاظم (عليه السلام) أحداثا وتبدلات سياسية وفكرية واجتماعية عاصفة، على صعيد الدولة وأنظمة الحكم وعلى صعيد المجتمع الاسلامي، كان أهمها وأبرزها إسقاط الحكم الأموي وانتقال السلطة إلى يد العباسيين. وحيث مثل هذا الانعطاف التاريخي انقطاعا عن الحكم الأموي ونقيضا له على أكثر من مستوى وصعيد من جهة، فقد مثل هذا في الوقت نفسه، تواصلا واستمرارا لإرثه وممارسته للسلطة، وهي قمعه واضطهاده للشيعة والعلويين من آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة ثانية، وقد أسفر ذلك الانقطاع والتواصل في آن معا، الناجم عن قيام وانتصار الدعوة العباسية في الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة، عن مواجهة المجتمع الاسلامي لفترة انتقالية قلقة وصفها أحد المؤرخين بأنها فترة أزمة ناشئة عن تطورات اجتماعية واقتصادية وفكرية تجاوزت الأوضاع القائمة وأورثت قلقا وتخلخلا.


هكذا، وفي ذروة هذا الانعطاف التاريخي، وما نجم عنه من أزمة وقلق وتخلخل، ولد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) في السابع من شهر صفر سنة 128هـ. حيث تزامنت هذه الولادة مع عهد آخر حاكم أموي وهو مروان بن محمد المشهور بالحمار الذي تولى السلطة سنة 127هـ وقتل على يد العباسيين سنة 132هـ.وقد عاش الإمام الكاظم في كنف أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) حوالي عشرين سنة، تولى بعدها الإمامة خمساً وثلاثين سنة، واستشهد سنة 183هـ. وبذلك عاصر الإمام الكاظم (عليه السلام) فضلا عن آخر حاكم أموي، خمسا من الحكام العباسيين وهم، أبو العباس السفاح، ابو جعفر المنصور المهدي، موسى الهادي، هارون الرشيد، وفي زمن المنصور آلت الإمامة الى الإمام الكاظم بنص من أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) سنة 148هـ.


لقد اتسمت أوضاع الدولة العباسية والمجتمع الاسلامي في عصر الإمام الكاظم (عليه السلام) بعدد من السمات الرئيسية المهمة، التي أثرت في طبيعة وشكل الدور الذي أداه الإمام في قيادته للمجتمع الاسلامي وتبليغ رسالة الاسلام.


ومن أبرز السمات:
1- التبدلات السياسية العاصفة والتغيرات المتصارعة في التوجهات السياسية للحكم العباسي، وكانت اهم التغيرات عن ذلك نجاح العباسيين في انتزاع الحكم من ايدي الامويين باسم كل القوى والجماعات المعارضة لهم، ثم انقلابهم بعد ذلك على معظم هذه القوى والمجموعات، وفي مقدمتهم الشيعة والعلويين.


2- تحقيق تقدم نسبي على صعيد تنشيط الزراعة والتجارة مما أدى إلى بداية استقرار نسبي في أوضاع القبائل.


3- الانتعاش الكبير للنزعات العنصرية والشعوبية والنحل الدينية والاتجاهات العقائدية المنحرفة، والتي كان من أخطرها الدعوات الإلحادية.


4- نمو واشتداد حركات المعارضة، ولا سيما المعارضة الشيعية العلوية، ضد الحكم العباسي بشكل مبكر، مما أدى إلى كثرة الثورات والحركات في العصر العباسي الأول.


5- نمو وإتساع الإتجاه المؤيد لآل بيت الرسول داخل المجتمع الاسلامي، وهو الأمر الذي دفع العباسيين في بداية دعوتهم إلى تبني هذا الاتجاه من جهة، وإلى توجيه أعنف حملات القمع والاضطهاد ضده بعد تسلمهم الحكم من جهة أخرى، لشعورهم بخطر هذا الاتجاه وأصبحت مهيئة للانقضاض على هذه السلطة إبان إمامة الإمام الكاظم (عليه السلام).


6- ممارسة الحكام العباسيين لأشد اساليب القمع والاضطهاد والسجون والقتل ضد الشيعة والعلويين من آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي الممارسة التي بلغت احدى ذرواتها الأكثر عنفاً في عهد هارون الرشيد.


هذه السمات الرئيسية… وغيرها التي اتسم بها العصر العباسي الأول، كيف وإلى أي مدى أثرت في الحياة السياسية للإمام الكاظم (عليه السلام) وفي ممارسته لتأدية دوره الرسالي في ذلك العصر كإمام معصوم؟


•• بعض معالم الحياة السياسية للإمام الكاظم (عليه السلام) وتعبيراتها


بم تجلت تجربة الحياة السياسية للإمام الكاظم (عليه السلام) وكيف يمكن تحديد معالمها وتعبيراتها ومظاهرها؟


أن نقطة الانطلاق في ذلك، هي الدراسة الكيفية التي أدى بها الإمام دوره وواجباته، عبر المواقف الدينية –السياسية التي اتخذها في حياته، وعبر أشكال جهاده وسلوكه وعمله، التي مثلت الممارسة العملية التي هدف منها الإمام الاضطلاع بدوره ومسؤوليته، وتغير الشروط العملية التي تمكنه من القيام بواجباته وانجازاته على اكمل وجه.


أما واجبات الإمام المعصوم، التي تجمد دورها وتمثل هدف امامته فهي، كما ينص عليها مبدأ الإمامة وكما نعتقد بها الشيعة الإمامية: حفظ الدين وحراسة الاسلام، حماية بيضة الاسلام تحصين الثغور بالعدد، جهاد الكفار، تنفيذ الاحكام،، إقامة الحدود، اختيار الامناء والاكفاء وتقليد الولايات للثقات النصحاء، جباية أموال الفئ والصدقات والخراج وتقدير العطاء، ومشارفة الأمور العامة بنفسه وهو ما يعني الجهاد لاقامة حكومة اسلامية شرعية.


ولأن ظروف الواقع المعطاة للإمام الكاظم، وكما للأئمة الاخرين منذ إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليست متيسرة بالشكل المطلوب الذي يسمح له بممارسة دوره والقيام بواجباته بشكل كامل فإن ذلك واجب عليه استنباط الأحكام والمواقف الشرعية الدينية والسياسية، وتحديد أشكال الجهاد والعمل الحركي، للوصول إلى ذلك الهدف وتحقيقه أخذاً في الاعتبار ظروف الواقع المعطاة تحقيق ذلك الهدف.


إن الغنى في تجربة الحياة السياسية للإمام الكاظم (عليه السلام)، وكما في تجارب الأئمة الآخرين يتجلى في أن تحديد الإمام للمواقف السياسية الدينية، ولأشكال الجهاد والعمل الحركي لم يتم عفويا أو نتيجة ردود فعل ضد استفزازات واضطهاد حكام الجور اللاشرعيين، ولا بفعل عواطف انسانية جياشة ولا يقسر ظروف الواقع المعطاة والاستخفاف بها وانما يتم ذلك التحديد بوعي الإمام الكامل لدوره وتكليفه الشرعي ومراعاة المصلحة العليا للإسلام والمسلمين واستلهام تجربة الأئمة الاخرين، فضلا عن تجربته الخاصة التي اختزنها خلال معاصرته لوالده الإمام الصادق (عليه السلام) وظروف إمامته.


وفي ضوء هذه المنطلقات والقواعد الاساسية التي استند إليها الإمام الكاظم لتأدية دوره والقيام بواجباته، كيف حدد مواقفه السياسية وأشكال جهاده وإزاء جور واستبداد الحكام العباسيين المعاصرين له وعدم شرعيتهم، وكذلك إزاء قمع واضطهاد هؤلاء الحكام للشيعة ولسائر العلويين بقسوة عنف شديدين، ثم إزاء سياسة المهادنة التي كان يبديها اولئك الحكام أحيانا تجاه الإمام بالذات وتجاه الشيعة والعلويين بشكل عام.. وأخيراً إزاء القمع والاضطهاد والسجن الذي مورس ضد الإمام بالذات حيث قضى حياته مسجونا في إحدى سجون الرشيد؟


بطبيعة الحال، ان المجال لا يتسع هنا لاستعراض كل مواقف الإمام السياسية وجهاده، لكن اختيار نماذج بارزة من تلك المواقف وذلك الجهاد، ربما تكفي لعكس صورة واضحة لمعالم التجربة السياسية في حياته وتبرز قيمتها ودلالاتها العظيمة.


لقد أشرنا في هذه الدراسة إلى أن بداية إمامة الإمام الكاظم (عليه السلام) قد دشنت بداية المرحلة الثالثة من المراحل الثلاثة لأدوار الأئمة المعصومين في التاريخ الاسلامي، وهي المرحلة التي كانت إحدى سماتها الرئيسية، إن قيادة أهل البيت أصبحت على مستوى تسلم زمام الحكم وان هذه المرحلة لم تحدد من قبل الأئمة بل حددها موقف الحكم المنحرف من الأئمة أنفسهم، وهذا يعني أن الحكم العباسي قد بادر للانتقال إلى صراع حاد ومكشوف، اختار هو ميدانه وأساليب ضد الإمام وشيعته وضد سائر العلويين، ومحاولته جرهم إلى ذلك الميدان.. فماذا كان موقف الإمام؟


لقد عاصر الإمام الكاظم حكم المنصور لمدة عشر سنوات قبل أن تؤول إليه الإمامة، التي كان منعقدا لواؤها إلى أبيه الإمام الصادق. وقد شهد الإمام الكاظم اندلاع ثورة محمد ذي النفس الزكية في المدينة ونورة ابراهيم بن عبد الله العلوي في البصرة سنة 153هـ اللتين حظيتا بالرعاية السرية دون العلنية من قبل الإمام الصادق (عليه السلام) لقد اختزن الإمام الكاظم هذا الموقف عن أبيه وأدرك دلالاته في أن لحظة الصراع العلني المكشوف مع الحكم العباسي لم تحن بعد، فظل يمارس مسؤلياته بعد أبيه بحذر وحكمة حتى وفاة المنصور.


ويتولى المهدي الحكم خلفاً لأبيه المنصور سنة 158 هـ واتباعه سياسة المهادنة مع الإمام والعلويين في بداية الأمر ثم اعتقاله للإمام الكاظم لفترة قصير وإطلاق سراحه واصل الإمام من جهة موقف المهادنة العلنية مع هذا الحكم وموقف الرعاية السرية للمعارضة الشيعية العلوية.


أما موسى الهادي الذي تولى الحكم بوصية من أبيه المهدي سنة 159هـ، فقد بدأ حكمه بتشديد حملة القمع والإرهاب والاضطهاد ضد العلويين مما أدى إلى تململهم وإعلان الثورة على حكمه.


لم يشأن الإمام الكاظم (عليه السلام) التصادم العلني مع حكم الهادي، مفضلاً تقديم الدعم والرعاية السرية للمعارضة العلوية. لذلك عندما عقد الحسين بن علي حفيد الإمام الحسن (عليه السلام) العز على الثورة ضد حكم الهادي سنة 159هـ (في واقعة فخ) ودعه الإمام الكاظم بالقول (أنت مقتول فأحدّ الضراب فإن القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله احتسبكم من عصبة.


ورغم عدم تصدر الإمام الكاظم (عليه السلام) المجابهة وإخفاء دعمه وتأييده لثورة الحسين في واقعة فخ فإن الهادي وجه اتهاما مباشرا إليه وأطلق تهديداته بقتله بقوله (والله ما خرج حسين إلا عن أمره ولا أتبع إلا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل البيت قتلني الله أن أبقيت عليه.


ويبدو أن دعم الإمام الكاظم وتأييده شبه العلني لثورة فخ وقائدها الحسين إنما استند إلى تقديره لضعف حكم الهادي وحماقته وطيشه وعجزه وبالتالي عن مواجهته بصدام علني مباشر، وهو الأمر الذي من بين ما يدلل عليه، سخرية الإمام من تهديدات الهادي عند ورودها اليه.


وبعد وفاة الحاكم العباسي الهادي وتولي أخوه هارون الرشيد الحكم بدأت حقبة جديدة من تاريخ الصراع بين هذا الحكم وبين الإمام الكاظم (عليه السلام) وشيعته، وآل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي الحقبة التي اتسمت بمواصلة الرشيد بل وحتى تجاوزه لسياسة سلفه المنصور في معاداة الإمام وآل البيت وفي تشديد تسليطه سيف القمع والإرهاب والقتل ضدهم، حيث أعلن الرشيد صراحة (والله لاقتلهم –أي العلويين- ولأقتلن شيعتهم وقد أعقب ذلك اتخاذه عددا من الإجراءات المعادية منها إبعاد عدد كبير من قادة آل البيت والعلويين من بغداد إلى يثرب، وأمره بهدم مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) ومدينة كربلاء وارتكاب مجازر دموية بالقتل الجماعي لعدد من العلويين.


ماذا كان موقف الإمام الكاظم (عليه السلام) إزاء ذلك؟ بالرغم من رغبته الواضحة للاستمرار في موقفه السابق بوجه عام، فقد قدر كما بين وأن الضرورة باتت تقضي الانتقال بذلك الموقف خطوة جديدة يمكن وصفها بأنها، أقل سرية وأكثر علنية، لسياسة المهادنة والتودد التي كان يظهرها الرشيد، مناورة، تجاه الإمام (عليه السلام).


والسؤال الذي ينبغي ان يطرح هنا هو: هل كانت هذه الخطوة الجديدة التي اقدم الإمام على اتخاذها لتصعيد مواجهته ومقاومته لحكم الرشيد، تستبطن، تكثيف إدانة لاشرعية هذا الحكم ولاستعداد والتهيؤ، في المقابل، لانتزاع هذا الحق من مغتصبيه وإعادته إلى أصحابه الشرعيين؟ إن تتبع مسار المواقف السياسية الدينية للإمام الكاظم (عليه السلام) منذ تولي الرشيد الحكم وحتى استشهاد الإمام في أحد سجونه، توضح ذلك.


لم تبدد محاولات الرشيد التودد للإمام مناورة، قناعته بأن الإمام هو أولى منه بالخلافة الاسلامية، كما لم تبدد هواجسه بسعي الإمام لانتزاع هذا المنصب إذا ما سنحت الظروف بذلك ولعل تأكيد حاشية الرشيد ونزلاء القصر، على أن الامام يطالب بالخلافة ويكتب إلى سائر الأقطار والأمصار الاسلامية يدعوهم إلى نفسه ويحفزهم إلى الثورة ضد حكومته قد عزر تلك القناعات والهواجس والتي إزدادت رسوخا لديه عندما احتج الإمام (عليه السلام) على الرشيد بقوله انه أولى بالنبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) من جميع المسلمين فهو أحد أسباطه ووريثه وأنه أحق بالخلافة من غيره وذلك عندما التقيا عند مرقد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد دفع ذلك الرشيد إلى الأمر باعتقال الإمام (عليه السلام) وزجّه في السجن.


ويستنبط جواب الإمام الكاظم على طلب الرشيد تعين حدود فدك المغصوبة ليرجعها الى بني فاطمة (عليه السلام) فحددها برقعة الاسلام كله بقوله، هذه هي الحدود التي هي لنا وقد غصبت منا ادانة لعدم شرعية الحكم العباسي، وحق آل البيت والإمام الكاظم والإمامة والخلافة.


كما ويستنبط المعنى ذاته، إجابة الإمام الكاظم عندما دخل على دار الرشيد وسأله ما هذه الدار؟ بقوله (هذه دار الفاسقين) ثم أعقب ذلك بتلاوة الاية الكريمة(الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار).


كانت الترجمة العملية لخطوات الإمام الكاظم تصعيد مقاومته لحكم الرشيد ومحاصرته هي، إضافة لما تستنبطه مواقفه من معان ودلالات تحريمه التعاون مع هذا الحكم وجهازه الإداري، وهو الأمر الذي بدأ جلياً بمطالبته صفوان أحد أصحابه، بالامتناع عن كراء جماله إلى الطاغية هارون الرشيد وتحذيرة كذلك لزياد بن أبي سلمة التلبس بأي وظيفة من وظائف حكومة الرشيد بقوله (يا زياد، لأن اسقط من شاهق فانقطع قطعة قطعة أحب إلي من أن أتولى لهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم.


غير أن هذا التحريم والتحذير من العمل مع حكومة الرشيد، لم يجر التغاضي عنه إلا في بعض الحالات التي يستثنيها الإمام بالذات للمصلحة، مثل حالة عمل علي بن يقطين كوزير في حكومة هارون.


وفضلا عن ذلك، وتواصلا مع موقفه في تصعيد مقاومته لحكم الرشيد وتحديه أرسل الإمام الكاظم برسالة إلى الرشيد من السجن عير فيها عن سخطه البالغ عليه، وذكره فيها بعدم شرعيته وبمصيره، وقال فيها انه لن ينقضي عليَّ يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم الرخاء حتى نمضي معا إلى يوم ليس فيه انقضاء ولا يخسر فيه إلا المبطلون.


في ضوء هذه المواقف السياسية –الدينية للأمام الكاظم وجهاده ضد السلطان اللاشرعي الجائر يطرح سؤال، حول ما إذا كان جهاد وعمل الإمام قد اتخذ طابعاً حركياً وتنظيمياً أم لا؟


الواقع، إن عصر الإمام الكاظم وظروف إمامته وجهاده، كانت تتطلب العمل الحركي وإعداد الكتلة الجماعية الصالحة من الأمة في إطار تنظيمي سري يمارس السرية والكتمان والتقية تبعا لظروف العمل والجهاد. وإذا لم يكن الإمام تصدر المسؤولية المباشرة عن مثل هذه الإطار، فان جهاده وسلوكه وممارساته تسشير إلى رعايته لمثل تلك الأطر وتوجيهها.


لقد ورث الإمام الكاظم عن جده الإمام الباقر، الذي تولى الإمامة في ظل سيطرة الأمويين على الحكم، تجربة تنظيمية غنية لمواجهة حكام الجور اللاشرعيين وهي تجربة لا بد أن يكون الإمام الكاظم قد استحضرها لمواجهة حكم هارون الرشيد حيث أصبحت الحاجة لذلك شاخصة إمامة ذلك لان الثورة العباسية التي أثرت على حركات الشيعة لقنت جميع الأحزاب الاسلامية درساً بليغاً فيه أن التحرك ينبغي ان يعتمد على الخطط الطويلة الأمد والواضحة الأهداف، وان النشاط الدعوي ينبغي أن يكثف في المناطق النائية من مركز السلطة الرسمية لتبعد الشبهات عن رجالها.


وبالفعل، فقد أسست الشيعة، في العصرين الأموي والعباسي أحزاباً سرية شكلت خلايا ومنظمات يرأس كل منها الداعي) قامت بالدعاية السرية وقاومت الحكومات اللاشرعية، واحتفظت بسجلات تحتوي على أسماء الدعاة، وكان من بينها سجلات خاصة بأسماء الشيعة عند بعض أصحاب الأئمة، كما كانت الأحزاب تلجأ أحيانا، إلى المناظرات والكتابة على الجدران لاطلاع الناس على مواقفها، كما تلجأ اإلى السرية والكتمان والتقية.


مع ذلك، ومهما كانت أشكال علاقة الإمام الكاظم بالأحزاب الشيعية في عصره وموقفه منها، سواء كانت بالتوجيه والإشراف المباشر أو الرعاية والإرشاد، فانه كان يقوم من جهة بتكليف جماعة من تلاميذه وأصحابه للقيام بدور وكلاء له في بعض المناطق الاسلامية وأرجع إليهم شيعته لأخذ الأحكام الدينية منهم، كما وكلهم أيضاً في قبض الحقوق الشرعية، وأذن لهم بصرفها على مستحقيها،. وفضلاً عن ذلك فإن بعض الأقاليم الاسلامية التي كانت تدين بالإمامة، تقوم بإرسال مبعوث خاص عنها إلى الإمام حينما كان في السجن فيزودون بالفتاوى والإجابات على رسائلهم كما كان يتصل بالإمام أيضاً في سجنه بالبصرة عدد من العلماء والرواة بطرق خفية وتستر شديد عن أعين السلطة(37).هذه الأشكال من العلاقات والاتصالات بين الإمام ووكلائه وتلاميذه وأنصاره، وما كانت تؤديه من وظائف وأدوار ومنها ممارسة الإمام لدوره القيادي وهو في السجن تمثل ظاهرة تنظيمية شكلت الوجه الآخر لمواقفه السياسية الدينية لمواجهة حكم هارون الرشيد الجائر.


هكذا يمكن أن نخلص من هذا العرض والتحليل لبعض المواقف السياسية –الدينية والجهادية الحركية للإمام الكاظم (عليه السلام) وإبراز بعض مظاهرها وتعبيراتها العملية، إلى تحديد المعالم الرئيسية للتجربة السياسية في حياته والتأمل بما تنطوي عليه من قيم ودلالات.


•• الخلاصة
إذا كان الهدف المباشر لهذه الدراسة الموجزة، وهو الكشف عن المعالم الرئيسية للحياة السياسية للإمام الكاظم (عليه السلام) وتحديد مكانتها أولا في حياته العامة، كإمام معصوم، تولى مسؤولية قيادة المسلمين في عصره، وتحديد مكانتها ثانيا بين التجارب السياسية للأئمة الآخرين باعتبارها تمثل كلا واحدا متكاملا لأدوار الأئمة المتنوعة، فإن الهدف الثاني الذي يرتكز على الهدف الأول، وهو المساهمة في إزالة الغموض والارتباك، اللتين تتسم بهما كتابات بعض كتّاب الأئمة (عليهم السلام) واستنتاجاتهم حول إبعاد الإمام الكاظم (عليه السلام) وأئمة آخرين عن السياسة ونفي تطلعهم لإقامة حكم اسلامي شرعي يتبوؤن هم موقع القيادة فيه.


إن ما خلصت إليه هذه الدراسة هي ليس فقط نفي تلك الاستنتاجات وتصحيحها بالاستناد إلى ما يعنيه مبدأ الإمامة بالذات والدور الديني السياسي الذي يؤديه الإمام وإنما نفي ذلك أيضاً الاستناد إلى معالم الحياة والمواقف السياسية والجهادية الحركية للإمام الكاظم (عليه السلام) والأئمة الآخرين، عبر وعي وإدراك ما تستبطنه وتنطوي عليه مظاهرها وتعبيراتها، وليس عبر النظر إليها من خارجها فحسب. ذلك أن ظروف الواقع الموضوعي المعطى للأئمة، بتنوعه وتعقيده وتبدلاته يفترض التصرف إزاءها، بمواقف وممارسات سياسية تجمع بين الحنكة السياسية ومهارة القيادة وبين المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، وهو الجمع الذي تمكن الإمام الكاظم (عليه السلام) من تحقيقه مثلما تمكن الأئمة الآخرين (عليهم السلام) عند توليهم لمنصب الإمامة.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع