في ليلة الحادي عشر من شهر المحرّم ، جرت العادة في المواسم السابقة أن يؤم سماحة السيد محمد هادي الغريفي بالمؤمنين المعزين ، ولكن هذه الليلة بسبب مرور هذه الجائحة ألقى سماحته كلمة عبر الفضاء الإفتراضي وقف فيها مع مضامين كربلاء و ما أراده الله لسبط النبي الأكرم ( ص ) حيث ( ع ) أعاد الإسلام الى طريقه الصواب ، بعد التزييف والعبث و التحريف لصورة الإسلام على يد يزيد بن معاوية ، جاء الحسين ( ع ) ليصحح هذا المسار ، بلا شك أن الحوراء زينب أكملت هذا المسار و حملت قضية الحسين ( ع ) ، هي ( عليها السلام ) و الإمام علي بن الحسين السجّاد ( ع ) ، في كل مكان يُذكّرون بقضية الحسين و ما جرى عليه في مثل هذا اليوم ( عاشوراء ) ، لايقاظ ضمير هذه الأمة التي غُيب وطُمس على عقولها و زُيّف كل واقعها ، جاءت هذه الدماء الزكية لتوقظ هذا الحس ، و نقف هذه الليلة مع عدة نقاط .
النقطة الأولى عندما يُسلب الإنسان نعمة أنعمها الله بها عليه ، كم يتحسّر و يتألم أنه افتقد هذه النعمة ، واذا رجعت اليه أقبل عليها بشوق ولهفة ، كحال المريض عندما تُسلب منه الصحة التي كان يتتع بها ، فيتألم بفقد هذه الصحة ويأنس لرجوعها . سمعنا من أحبتنا قبل موسم عاشوراء هل سنحيي عاشوراء الحسين ( ع ) بسبب هذا الاوضاع من الوباء و الجائحة ؟ و كانت القلوب تتشوق ، و عندما عرفنا حقيقة ما نملكه من نعمة من الله علينا ( هذه المآتم و المواكب ) ، عدنا لها بلهف وشوق كبير ، بعد غياب لفترة زمنية طويلة ، وجدنا هذه اللهفة و هذا الشوق الكبير من عشاق الحسين و هم يأتون زحفًا لمآتم الحسين ، و بأعداد كبيرة يتسابقون وان اضطر ذلك أن يفترش بعضهم الطريق ليجلسوا تحت هذه المنابر ، لذا يجب أن نحافظ على بقاء هذه النعمة و أن نقوي من موقعيتها .
النقطة الثانية : رسالة كبيرة لكل الفعاليات العاشورائية التي كانت تُقام مصاحبة لموسم عاشوراء أن تقف أمام هذا الدرس و أن لا تكون عائقًا أمام جماهير عاشوراء في تمسكها و تعلقها و ارتباطها بمأتم الحسين ( ع ) و موكبه ، و هكذا تعلمنا من مدرسة أهل البيت ، أن نحافظ على ما نمتلكه من نعمة . بلا شك أن هذا الأمر أعطى وقعًا كبيرًا في نفوسنا ، و هي أمانة في أعناقكم ، فلا تفرطوا في هذه الأمانة .
النقطة الثالثة : كل التقدير و الإجلال للكوادر الحسينية العاملة ، التي أعطت من وقتها و أعطت من مجهودها و امكانياتها لحراسة ضيوف الحسين ( ع ) ، و تستحقون تقبيلًا على أياديكم و جباهكم ، و كل ذلك مذخورٌ لكم عند الزهراء ( ع ) ، و انه لوسامٌ عظيمٌ أن تنتظركم الزهراء يا خدام الحسبن ، لا تنتظرون شكرًا من أحد ، فالمجازي لكم هو الحسين ( ع ) و الزهراء ( ع ) ، فأنتم كبار بجهودجكم وخدماتكم و عطائاتكم ، و ليستمر هذا العطاء و الجهد المبارك ، و قد برهنتم على مستوى حرصكم على نفوس و سلامة و صحة المعزين ، وقبلتم ذلك على أنفسكم من تعريضها لبعض ما يكون فيه من ألم كبير و لكن كل ذلك بعين الله ، فهنيئًا لكم ، و كم نتمنى أن نكون في صفوفكم ، و أن نكون معكم خدامًا لما ذلك من شرف كبير عند الله عز وجل . يقف البعض عند محاضرة قد لا يكون مستوى الإستفادة منها كثيرًا ، و لكن مواقفكم هي أكبر درس يعطى للمجتمع . هنيئًا لكم تلك الجهود في حماية ضيوف الحسين .
كل التقدير و الإحترام لآبائنا الذين كانوا يتشوقون لحضور مجالس الحسين و كل مريض عاقه هذا المرض أن يختلط مع الجموع ، و كل ابن حافظ على سلامته ، و الى كل امرأة زينبية صابرة احتسبت أمرها لله عز وجل و قد عاقها هذا الوباء بأن تجلس في بيتها و تستمع من خلال شبكات التواصل الإجتماع أو الإحياء العائلي . وكم نعلم مستوى الألم الذي يحملونه في نفوسهم قبال ذلك ، رأينا مشاهدًا تدمع لها العين ، ليس مأتمُ الحسين الذي يُوصدُ أمام ضيوفه ، و لكن عزيزٌ علينا أن نرى رجلًا كبيرًا يطرق باب المأتم ليؤذن له في الدخول ، و قد لا نملك كلمة لهذا الرجل العظيم ، مشهدٌ تقشعر له الأبدان فلم توقفه هذه الأبواب الا أن يختار أن يجلس على عتبة الحسين ( ع ). اخواني و أبنائي .. انظروا الى هذا الحرص الكبير في آبائكم وهم يأتون الى مآتم الحسين رغم ما بهم من الم ، فيختار أن يجلس على باب المأتم ليستمع للخطيب ، هنيئًا لتلك النفوس العالية ، فسيجازيها النبي ( ص ) .
النقطة الرابعة : وقفة مع أحبتي الرواديد ، كم نحتاج أن نراجع أنفسنا بين فترة واخرى ، و قد برهنت هذه الأيام أن هناك مجالًا لإعادة النظر في كثير من أدائنا ، و كم كانت هذه المسامع تتشوق أن تسمع ما كانت معتادة عليه في السابق من ألحان و من كلمات تشدّ النفوس وتدمع العيون ، أنتم قادرون على المراجعة و قادرون أن تعيدوا هذا الصوت الحسيني الأصيل الى ما كان عليه من لحنٍ و كلمة هادفة تشد السامعين اليها . سمعنا من بعض أحبتنا الرواديد ما يعود بالذاكرة على ما يكون عليه الموكب السابق ، و هذا الأمر وهذه المراجعة تعود لطبيعة الموكب في ظل هذه الظروف التي تغيّرت ، و قد لا يستحمل هذا المستوى الكبير من الألحان ، فقوموا على ما يحقق الغرض و يحقق أهداف هذا الموكب . و الدرس الذي يمكن أن نستفيد منه أن تراجعوا كل أدائكم ، و المستوى الذي يطمح له هذا الجمهور الحسيني من عطاء واعٍ مدركٍ لكلّ أبعاد هذا الموكب ، و أن لا يخرج عن مساره و أهدافه المرسومة له .
النقطة الخامسة : في ما يتعلّق بالفعاليات المصاحبة : شهدتم هذا الإقبال الكبير لمآتم الحسين و في مواكب الحسين ( ع ) ، كذلك عليكم أن تقفوا وقفة محاسبة لهذه الفعاليات ، ما يصب في خدمة أهداف الحسين ( ع ) ليست حالة استهلاكية ، لسنا ضد التطوير وضد الإبداع ، و ندعو لعملية التطوير و الإبداع و ابراز كل هذه الكفاءات ، و لكن هذا التطوير لا يكون على حساب وعينا و قيمنا أخلاقنا . فرقٌ بين أن تُقيم فعالية تُبرز فيها كفاءتك ، و بين أن يوجد خطاب يُحصن هذا الجيل من كل المنزلقات العقائدية و الروحية و السلوكية . في هذا الزمن الذي به تحديات كبيرة و التي تسعى لتمييع سلوك أبنائنا وشبابنا و تبث سمومها كل يوم ، من خلال هذه الاجهزة الاعلامية وشبكات التواضل حتى أصبح عندنا بعض الشباب يميلون الى ملابس الفتيات و يميلون الى تسريحات و حركات الفتيات ، نجد هناك تسويقًا خطيرًل لهذه الأفكار وهذه السلوكيات من عدة مواقع ، و هذا الأمر ليس عبثيًا . هنا تأتي الحاجة الأكيدة لهذه المواقع التي تحصن هذا الجيل وتحميه من الإنزلاق بقيمه و سلوكه .
هذه الفعاليات المشكورة قد لا يكون لها أثر كبير غير أنها تُبرز بعض المهارات لأصحابها ، ربما نفكر في البدائل التي لا تزاحم مواقع الوعي ، و مواقع البناء و مواقع الترشيد و مواقع الارتباط الوثيق بمدرسة اهل البيت ( ع ) ، فلتُرَحّل وتُؤجّل الى ما بعد العشرة ، و ما الضير في ذلك ؟ أن تقام بعض المعارض التي تحمل الكفاءات ، ولا ان تزاحم في مثل هذه الظروف التي يتعرض لها هذا الجيل من مسخ لهويته و لوعيه و لأخلاقه و سلوكه ، فهو لأحوجُ ما يكون الى خطابٍ يعالج كل هذه الإشكالات و يرتقي بمستوى وعيه و سلوكه و معتقده و ارتباطه بأهل البيت ، في زمن تحولت الأمور الى بهرجات و شكليات ، قد يتخلّف هذا الجيل عن أن يواكب هذه الأطروحات وهذا الوعي المتقدم لأهل البيت ( ع ) ولا نعني خطيب المنبر و الشاعر و الرادود فقط ، هناك حضور كبير لشبابنا في هذه المأتم لكن ما هو مستوى الوعي وما هو مستوى الارتباط بأهل البيت و بالفقهاء و العلماء . حتى لا يأتي يومٌ نسمع فيها هذه النبرة ، " لم نقلد " ، و " ما هي الحاجة للرجوع للفقهاء " و " ما دخل الفقيه في هذا الأمر ؟ " ،، " هل هو متخصص لقول كلمته في هذا الأمر " ، أفكارٌ خطيرة ٌباتت تسوق في واقعنا اليوم ، و قد انطلت على بعض بناتنا وشبابنا - مع الأسف - .
ختامًا : الإرتباط بخط الحسين ( ع ) لهو الإرتباط بخط المرجعية وخط الفقهاء ، و متى ما انفصلت عن الفقهاء انفصلت عن الحسين ، والنتيجة واضحة بانفصالك عن الحسين فقد انفصلت عن الإسلام ، لأن الحسين ( ع ) يمثل الإسلام . هل لنا أن نفكر بعض الشيء في اعادة العشرة ؟ لا نستبق الأمور و لكن ندعو ادارات المآتم التي كانت معتادة أن تقيم العشرة ، و أن تفكر تفكيرًا جيدًا للإعداد والتخطيط لكل الاحتمالات . ان كان احياءً للعشرة على عدد محدود فأن نخطط لذلك ، و ان كان على مستوى الاحياء الإفتراضي فيجب أن نعمد الى التخطيط من الآن ، و في اعادة العشرة بامكاننا أن نقف وأن نركّز على أبعاد كربلاء ، - وقد يختلف معي البعض - لا أقول أن يُعطّل الحسيني ، و لكن لا داع للاستغراق في الحسيني كما كان في العشرة الأولى ، فتلك لها طابعها الخاص في نفوسنا ، نحتاج في اعادة العشرة أن نوعي هذا الجيل لأبعاد كربلاء و أهدافها و قيمها في كل المجالات . و كل ذلك يعتمد على الإعداد و التخطيط المسبق لهذا الإحياء كما نوهنا سلفًا ، و الحمد لله رب العالمين .
التعليقات (0)